آخر الأخبار

عابد عازرية ملحن إنجيل يوحنا وملحمة جلجامش

ُولد المغني والملحن السوري عابد عازرية عام 1945 في مدينة حلب. يتكون مشروعه الفني من أساطير وموسيقى وشعر ويعيش منذ عام 1967 في باريس
لنبدأ بالعمل الأخير، تلحين انجيل يوحنا باللغة العربية. لقد أنجزت هذه الأوبرا مع كورس المعهد العالي للموسيقى في دمشق وكذلك مع فرقة للموسيقى العربية التقليدية، إضافة إلى أوركسترا شباب البحر الأبيض المتوسط من فرنسا بقيادة آلان جوتار. وهذا العمل الذي تمّ عرضه لأول مرة في أوبرا دمشق ( 27 أيار/مايو 2009) ومهرجان الموسيقى الروحيّة بفاس ثمّ في أوبرا مرسيليا ونيس. ماذا أردت أن تقوله بهذا العمل باللغة العربية؟

عابد عازرية: أردت أن أحكي قصة، قصة إنسان وُلد في الشرق ويعيش اليوم في الغرب ويتذكر طفولته. أعود بهذا العمل إلى طفولتي، لكن أسافر أيضا باتجاه الغرب. أنا أعمل على نصوص ساهمت في تأسيس ثقافة الشرق الوسط. وانجيل يوحنا هو جزء من هذه النصوص. إن ثنائية شخصية يسوع المسيح، إله وإنسان، آتية من معتقدات الخصب السومرية-البابليّة، الكنعانية-الفينيقيّة. عبر حياته وموته وانبعاثه من الموت، يعيد إحياء موضوع في غاية القدم ويكمّل لعالم ولثقافة ميثولوجية عمرها آلاف السنين كانت تسود كل حوض البحر المتوسط وتشكّل جزءاً من الأسس الثقافية الأساسية والمشتركة لهذه المنطقة.

ما هو الجديد في هذا التأليف الموسيقي؟ نحن نعرف أن الموسيقيون الأوروبيين عملوا في الماضي على هذه المادة، مثل باخ وهاندل؟

عازرية: المشاريع التي تمت في أوروبا منذ عصر النهضة إلى اليوم اهتمت بفصل آلام المسيح في الأناجيل الأربعة، أي بالأيام الثلاثة الأخيرة من حياة المسيح. أنا قمت بتلحين إنجيل يوحنا بكامله. كانت رغبتي منذ البداية أن أكتب موسيقى للإنجيل يطوف من خلالها ويتعايش جنباً إلى جنب أشخاص يتغنون ويتحمّسون وكأنهم أشخاص يشبهوننا، وليس بأشخاص هبطوا علينا من السماء!

لماذا اخترت بالذات إنجيل يوحنا؟

عازرية: يختلف انجبل يوحنا عن الأناجيل الثلاثة الأخرى. بينما الرسل متى ومرقص ولوقا يتشابهون كثيراً، فهم فقط شهود عيان. يوحنا هو كاتب دراما مثل التي كانت معروفة عند الإغريق تنمو وتتطوّر بدقّة التراجيديا الكلاسيكية. يبدأ بهذه الكلمات: "في البدء كانت الكلمة". يسوع هنا هو مثل أي إنسان حديث، قريب إلى شخصية الإنسان العلماني المنفتح والثائر. لقد قال: "أنا لم آت لأحكم، أتيت لأخلص".

أنا لست متدينا ولا مؤمنا، لكن كانت رغبتي في تقديم هذا النص على خشبة المسرح. بالنسبة لي هؤلاء الأشخاص في إنجيل يوحنا هم بشر عاديون. أراهم اليوم في وجوه الناس في الشرق. لقد كتبت موسيقى حديثة، وكأن القصة والأشخاص يعيشون اليوم بيننا.

في هذا العمل تتواصل الألحان والإيقاعات الشرقية مع الموسيقى الأوروبية. الشيء المميز هنا هو المزج ما بين العناصر الغربية والعربية التي استخدمت فيها أشكالا مقامية وصوتية عربية تراثية في اوركسترا كبيرة. ألا يوجد بالنسبة لك حدود في الموسيقى . هل تحاول هنا خلق توازن ما بين السلم الموسيقي الشرقي والآلات الشرقية مع الهارمونية الغربية وآلاتها الموسيقية؟

عازرية: منذ عام 1974 تسمع آذاني الأوكسترا بشكل ثنائي، شرقي وغربي. ويجمع اللحن عالمي السمع المختلفين وكأنهما عائلة واحدة، لكن كل واحد يحافظ على شخصيته المستقلة. الموسيقي الغربي لا يستطيع الارتجال مثل الشرقي، والشرقي لا يستطيع العزف الكلاسيكي مثل الغربي، وهذه صفات تُعطي الموسيقى أبعادا جديدة.

أنت دائما تختار لألحانك نصوصا غير مألوفة مازالت لها أهمية إلى يومنا هذا. إلى الآن تشمل أعمالك العديد من تلحين نصوص من الشرق القديم والحديث، ابتداء من ملحمة جلجامش حتى الشعر العربي المعاصر. الشيء الذي يثير الانتباه هو أن هذه النصوص جميعها تطرح الأسئلة المهمة في حياة الإنسان التي إلى يومنا هذا لم تتبدل: الحرية والموت والحب والتجديد. نصوص ترفض الجمود. لماذا؟

عازرية: منذ صغري وأنا مولع بالشعر، لأن الشعر حسب رأيي واللغة الشعرية بالتحديد هي خزان للذاكرة البشرية، خزان جمالي، فيه غنائية مُفرطة. أنا أعمل دائما على مادة تُلخص هذه الذاكرة عبر مراحل تاريخية مختلفة. أنا لا أعمل على نص بالذات وإنما على موضوع. لأن الموضوع يشمل مرحلة زمنية ربما تستمر مئات السنين وأحياناً ألفي سنة.

أردت مزج الشعر مع الموسيقى. في الكتاب وجدت الكلمات سجينة، بواسطة الموسيقى أحاول تحريرها. أنا أحب النصوص التي تتكلم بوضوح حول حرية الإنسان، حول حرية المعتقد وحرية وجوده في هذا العالم. هذه الحرية الكبيرة تعني أن الإنسان يجب أن يُفكر كفرد مُستقل وليس كجماعة أو قبيلة.

أنت تعيش منذ عام 1967 في باريس. المدة التي قضيتها حتى الآن في فرنسا هي أطول من المدة التي قضيتها في سورية. كيف تفهم نفسك اليوم؟

عازرية: أنا وُلدت في الشرق وأعيش منذ سنين طويلة في الغرب. الثقافتان تمساني وتشكلان توازنا في داخلي. هناك العديد من البشر يعيشون بشكل آخر، ربما مصابون بالانفصام. إن المزيج بين ما أخذته في طفولتك وما اكتسبته من بعد في الخارج هو ممكن. الشرق والغرب يستطيعان أن يتعايشا في داخلي بكل بساطة ويشكلان جسدا بيولوجيا طبيعيا واحدا يُجسد حياتي الطبيعية. إن ولادتي في الشرق الأوسط أكسبتني حساسية شرقية ومن بعد اكتسبت حساسية غربية، لكن الاثنتان يكملان بعضهما بعضا. كل لغة وكل ثقافة هي عالم بحد ذاته. عندما يتكلم الإنسان لغات مختلفة ويعيش في ثقافات مختلفة فهو ثراء.

بالنسبة لك يُعتبر انصهار الموسيقات المختلفة لثقافات عديدة تجربة مهمة. في اسطوانتك نصيب التي أنجزتها مع موسيقيين اسبان وفرنسيين وعرب حاولت الاقتراب شخصيا من الحضارة العربية الأندلسية. ما هو الدافع لتلحين قصائد من العصر الأندلسي؟

عازرية: النصوص عُمرها أكثر من 900 سنة، ويمكن أن تكون نموذجا لاختلاط وتمازج مابين الموسيقات والحضارات المختلفة. إن الشعر الأندلسي والفن الأندلسي بحد ذاته، هذه التجربة العظيمة في تاريخ الشعوب، حيث امتزجت الأديان والثقافات والموسيقى مع بعضها، هي مثال فريد بالنسبة لي. فأنا أحب التمازج والاختلاط بين الثقافات.

عندما تُحب الثقافات الأخرى - والحب يعني هنا المعرفة والتعرف على الشعر والموسيقى وحضارة الآخر- يمكن عندها يمكن التواصل. هذا التواصل والانصهار يمنح العمل الفني إمكانيات لا حدود لها. أنا اغني بالعربية ولدي ألحان وزخارف خاصة، لكن عندما ألحن باللغة الاسبانية، تمنحني هذه اللغة إيقاعات وأوزانا أخرى. هذا التناقض بين الإيقاعات والأوزان والزخارف المختلفة هو الذي يخلق عناصر جديدة.

أجرى الحوار: سليمان توفيق
(قنطرة)

أسطوانات صدرت لعابد عازرية: ملحمة جلجامش، المتصوفة، أغنيات الشجرة الشرقية، للصغار فقط (بصوت الأطفال)، توابل، نصيب، لازورد، عمر الخيام، البندقية (بلغة البندقية الدارجة) مع المغنية كريستيان لوغراند، أغاني الحب والنشوة (أسطوانتان)، وصوفيّة عن قصائد صوفية من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر.