آخر الأخبار

الدراما البديلة

فاُضطر الكثيرون إلى أساليب المعرفة السهلة المتمثلة أساسا في الإنتاج السمعي البصري. و لا تكتسي الدراما دورها من سهولة تمرير الفكرة فقط و تقنياتها الجمالية بل من الشرائح المستهدفة التي كانت مقتصرة على ربات البيوت فصارت محط استقطاب شرائح عمرية في سن التمدرس إضافة إلى نسبة عالية من الرجال بسبب البطالة أو سياسة المقاهي التي تجمع بين الرياضة و المسلسلات الأعلى مشاهدة مما يوجب إعادة النظر في عديد المنتوجات الدرامية التي تضع الجانب التجاري فوق كل اعتبار.
و قد مرت الدراما العربية بصفة عامة بحالة هبوط أسس لها تقلص عدد المسلسلات التاريخية التي كانت تضيف للمُشاهد على المستوى الوجداني و المعرفي و الجمالي و اللغوي و غياب الأعمال التى تحمل قضايا بالإضافة للتهافت على تحقيق الإثارة في الشبكة الرمضانية للحصول على أكبر نسبة مشاهدة بقطع النظر عن المحتوى و لا شك أن بروز الدراما السورية في السنوات العشر الأخيرة أسس لتنافس قـُطـْري استطاع انتشال هذا الفن من مآزق التكرار و السطحية و برزت الدراما الإيرانية أيضا في رمضان لتطرح تساؤلات جديدة على المبدعين العرب و تضعهم أمام أسئلتهم الحقيقية التي جوهرُها: كيف تحقق الدراما الوعي و المتعة الفنية من جهة و العائد المادي من جهة أخرى؟

*مسلسل "الجماعة" المصري: طرح قضية أساسية في البلاد العربية لا تتعلق بالإخوان كحزب و كجماعة دينية في علاقتها بجهاز الدولة فقط بل تعبر عن هذه الحضارة التي أخذت تنكمش شيئا فشيئا في حالة رعب من الآخر و من المجهول و تتكور على نفسها لتأخذ وضع الجنين في الرحم في محاولة لاستعادة قواها للانقضاض من جديد لا في شكل حضارة قوية بناءة تتغير و تغير بل كسيف مسلط على المجتمع يكبح تقدّمه و يتدخل تدخلا لا مشروعا و لا مشروطا بدعوى الهداية و فتح النار على الكفر!! و إذا كان الكاتب الكبير وحيد حامد قد قدم السلطة من جانب معتدل و متسامح في كثير من الأحيان مع هؤلاء الشبان الذين جاؤوا للجماعة بدافع الاحتياج المادي أو حاجتهم الطبيعية في تلك السن للثورة و تغيير حيث تطلق سراحهم في أغلب الأحيان و تقوم بالمراوغة بين المجتمع و الجماعة حتى تحافظ على درجة حرارة معتدلة تمنع الالتحام (دون تغيير الواقع الاجتماعي الذي يجعل المجتمع يهرب إلى هذه الجماعة) إلا أن هذا المسلسل قد طرح ما لم يطرحه غيره من المسلسلات بل إنه أعاد المسلسلات المصرية إلى صدارة المشاهدة على مستوى العالم العربي بعد أن صارت الدراما السورية هي الأقدر لسنوات فارطة على الإتيان بالموضوع الأكثر واقعية و جمالية و الأمتن طرحا و قد لعب المخرج محمد ياسين دورا أساسيا في تقديم الفكرة في ثوب يفتكـّ الانتباه و قد أخذ شقيْن تمثل الأول في تقنيات التصوير السينمائي التي راوح فيها بين جماليات التقنيات القديمة في السينما و جماليات التقنيات الجديدة كما اُعتمد على فلترة للضوء و الظلمة قدمت هذه الجماعة كتهديد للمجتمع قبل أن تكون تهديدا للسلطة لأن عين النظام غير مثقفة فاليساري و الإخواني و غيرهما بالنسبة للنظام شيء واحد هو المعارضة أما بالنسبة للمجتمع فثقافة يتطلب ترسيخها أجيالا و يتطلب محوها أجيالا أخرى و لا أحد يرضى بحكم إخواني حتى أكثر المتدينين لأن الإسلام شيء و الحكم بالدين و النار شيء آخر.
أما الشق الثاني الذي اعتمده المخرج فهو استبعاد الوجوه المستهلكة في الدراما التلفزيونية و إخراج الوجوه المعروفة في أدوار جديدة لم يألفها المشاهد و هذا الوعي بالنقائص كان سببا في إنجاح المسلسل و تقديمه كبديل وجيه عن موجة من المسلسلات التي بدأت تلقى عزوفا من المشاهد العربي بعد أن صارت حبكتها مكشوفة و صار الممثلون فيها جزءا من أفراد عائلته يحفظ تقاسيم وجوههم و ردود أفعالهم مهما تغيرت الأدوار.

*مسلسل "السيد المسيح": لقد طرح هذا المسلسل الإيراني أسئلة مختلفة على الدراما و علاقتها بالحقيقة التاريخية من جهة و علاقتها بمحيطها بـِسُلطِهِ المختلفة من جهة أخرى فقد طرح هذا المسلسل قراءة الإسلام و الإنجيل للمسيحية و قد وقع إجهاضه في قناتي "المنار" و "ان.بي.ان" لمجرد تعبير الكنيسة عن اُستيائها و كأن هذا المسلسل قد أساء إساءة فعلية للسيد المسيح عليه السلام في حين لم يطرح سوى وجهة نظر، أليس من حق المسلمين تقديم رؤية القرآن عن المسيحية؟ أليس من حقهم تصحيح الحقائق التاريخية؟ أو ليست المسيحية تنادي باُعترافها و اُحترامها للإسلام كدين سماوي و بمحمد صلى الله عليه و سلم كرسول لهذا الدين فـَلِمَ لا تقبل بهذه القراءة كواحدة من ضمن قراءات بقطع النظر عن صحتها من عدمها؟
يجيب القرآن عن عديد الأسئلة التي لا تهم المسيحيين فقط بل تهم حقيقة الخلق و لا يمكن إلغاؤها بحجة أن المسيح للمسيحيين و قراءة خلقه و وفاته حكرا عليهم ففي الآية 59 من سورة آل عمران يقول الله تعالى: "إنّ مَثلَ عيسى عند الله كمَثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" صدق الله العظيم و في الآيتين 171 و 172 من سورة النساء يقول الله تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغـْلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله و كـَلِمَتـُهُ ألقاها إلى مريم و روحٌ منهُ فآمِنوا بالله و رُسُلِه و لا تقولوا ثلاثة اُنتهوا خيرًا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولدٌ لهُ ما في السماوات و ما في الأرض و كفى بالله وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله و لا الملائكة المقربون و من يستنكف عن عبادته و يستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172)" صدق الله العظيم.. هذه البنوة التي يرفضها المنطق قبل الدين هي التي تنطوي على الإساءة للذات الإلهية لا للسيد المسيح و قد وقع تفصيل حكاية السيد المسيح و السيدة مريم في سورة مريم و سورة المائدة و سورة آل عمران.
و قد طرحت هذه الدراما جدلا واسعا أيضا عن ظاهرة كشف وجه الأنبياء (عيسى عليه السلام، يوسف عليه السلام) و السيدة مريم العذراء و لا أدري لماذا يطرح هذا الإشكال فقط في البلاد العربية فقد وقع تقديم نبي الله ابراهيم عليه السلام و السيد المسيح في الشاشات الغربية و لم يطرح وجه الممثل إشكالا فالمُشاهد يعرف أنه يشاهد عملا فنيا و لا يشاهد نـَبـِيّا كما أن صورة الوجه تعبر عن الروح كما يراها الفنان (الرسام أو المخرج) و لا تعبر عن الشخصية في حد ذاتها و يظل العمل الذي لا يكشف فيه عن الوجه لا يفي بحق الشخصية "المقدسة" دراميا و يظل حضورها باهتا تطغى عليه الشخصيات الأخرى لأن للصورة قوانينها و كما تـُبرز الشخصيات الباهتة فهي قادرة على بخس شعاع شخصيات أخرى إذا لم يقع التعامل معها كما يجب.

*مسلسل "ذاكرة الجسد": رغم انطلاق المسلسل من رواية جيدة و إدارته من طرف مخرج جيد "نجدت أنزور" إلا أن المشاهد كانت فاقدة للحبكة الدرامية و لم تكن هناك كيمياء حقيقية بين الممثلين و الحقيقة أنه لو تحولت هذه الرواية إلى عمل سينمائي لكانت حدثا حقيقيا كما أن جمعها لفنانين سوريين و مغاربة قد كشف عن توازنات جديدة منها أن اختيار المُخرج لأي فنان شرقي لن يكون أكثر توفيقا من اُختياره للفنان جمال سليمان إلا أن الشخصية الرمزية في الأعمال الفنية يجب أن تكون اُبنة بيئتها لأن الروح لا تـُستعار و لقد أتقن الفنان جمال سليمان دوْرَهُ لِحدّ كبير و لكنه لم يكن خالد بن طوبال و تظل للدراما حساباتها التجارية و الثقافية أيضا أساسُها أنك لن تكون فرنسيا في فرنسا و لا مصريا في مصر و لا سوريّا في سوريَا إلا أن هذا المسلسل قد يكون فتح بابا جديدا في الدراما لتنطلق من الأعمال الروائية العربية.
إن هذه التجارب الثلاث تمثل مرحلة جديدة لا يمكن للدراما أن تتجاهلها فقد وضعت الدراما العربية أمام بعض التحديات الحقيقية و عليها أن ترقى للكتابة الجادة و تؤسس في نسبة منها للوعي النقدي لا أن تقدم نماذج تتقن الهروب من واقعها بخلق حياة موازية أو بالاستفادة من ثغرات الواقع و موازناته الجائرة و يظل للأعمال الخفيفة هامش من المشاهدة لكن من الضروري الانتباه للرسائل المُدمّرة التي يقع تمريرها بقصد أو بتقدير غير كاف لخطورة هذا القطاع.