شاء القدر أن يفقد زكريا عباس النور من عينيه في سن مبكرة من طفولته، لكن ذلك لم يحجب النور عن بصيرته وإرادته الصلبة فاستطاع أن يتحدى كل الظروف وأن يذلل الصعاب للوصول إلى هدفه، كسر قيود الإحباط الذي عشش داخلة فترة طويلة من الزمن ، واستطاع أن يحرق المراحل ويدور عجلة الزمن فحصل على شهادة محو الأمية والشهادتين الإعدادية والثانوية خلال ثلاث سنوات ، ليكمل مسير ة التحدي ويتفوق على أقرانه في فرع علم الاجتماع بجامعة تشرين بمعدل82.35 ... كيف ...؟! هذا ما حاولنا الإجابة عليه من خلال لقاءنا مع زكريا.
إحباط واكتئاب
زكريا من مواليد 1987يدرس في جامعة تشرين بالسنة الثانية من فرع الاجتماع، يعيش مع أسرته المكونة من سبعة أفراد في حي الرميلة بجبلة، أصيب في عمر الثلاث سنوات بالمياه السوداء أفقدته البصر بالعين اليسرى، وفي الصف الثاني الابتدائي تعرض لصدمة قوية من أحد زملاء الدراسة أثناء اللعب في باحة المدرسة ، ومع مرور الزمن وخلال أشهر قليلة بدأ النور في عينه اليمنى يخبو ويذبل، ولم يدر الأهل بالأمر إلا بعد أن سبق السيف العذل، و كانوا على استعداد لبيع كل ما يملكون حتى ثيابهم لمعالجة ابنهم ، ورغم جميع محاولات الأهل لإنقاذ الموقف وطرق أبواب الأطباء في اللاذقية والعاصمة ،الذين أجروا له عدة عمليات ومعالجات لكن دون نتيجة ، وكان القدر أقوى من الجميع ، حيث فقد النور بالعين اليمنى تماماً نتيجة انفصال الشبكية ، ليدخل بعدها في فترة من الإحباط والاكتئاب بسبب الظلام الدامس الذي هبط عليه وأحاط بكل تفاصيل حياته ، واستمرت هذه الحالة معه لأكثر من 11 سنة فضل فيها الانزواء والعزلة والجلوس في البيت .
ورغم جميع المحاولات من الأهل والمقربين لإخراجه من طوق العزلة الذي فرضه حول نفسه لم يستطع أحد إخراجه منه وكسر قيوده سوى زوجة عمه و هي مدرسة، فقد كان لديها قدرة كبيرة على الحوار والنقاش ، وأقنعت زكريا بالخروج من عالمه الداخلي المتقوقع إلى العالم الخارجي وأن يتحدى إعاقته ويعيش حياته كما بقية الناس وأن يكمل دراسته .
عودة بعد غياب طويل
ويقول زكريا: بدأت في عام 2005 وبعمر 18 سنة التواصل ومراسلة جمعيات المكفوفين حول إمكانية متابعة الدراسة ، وكان الجواب أني بحاجة إلى شهادة لمحو الأمية كي أستطيع العودة إلى الدراسة ويمكن اعتبار السادس الابتدائي كبديل ، دخلت جمعية المكفوفين باللاذقية لكنها لم تقدم لي أي شيء ، وكل ما أنجزته لاحقاً كان بجهود شخصية وبمساعدة الأهل والمقربين ، تعلمت لغة البرايل للمكفوفين خلال فترة قصيرة ، لكن لم اقتنع بها لأني شعرت أنها تحد من إمكانياتي.
دخلت مرحلة التحضير للسادس في عام 2006والتي استمرت حوالي أربعة أشهر وتقدمت للامتحان بحضور لجنة ومندوبة من وزارة التربية،وفي الشهر السابع من العام نفسه حصلت على الشهادة بمعدل 82% وفي الشهر العاشر بدأت موسم دراسة نظامي للصف الثالث الإعدادي مع طلاب المدارس مع فارق أن برنامجي كان منزلي، درست فيه جميع المواد بالمنزل بدون معلم باستثناء اللغة العربية حيث تبرعت معلمة فاضلة من المعارف بإعطائي بعض الدروس الخصوصية مجاناً شريطة أن يصطحبني أحد إلى بيتها في منطقة ثقوبين والتي تبعد أكثر من 30 كم عن جبلة حيث أسكن .
[img]http://www.jablah.com/uploads/extgallery/public-photo/medium/-----_144_a...
رحلة التحدي
وهنا كانت مرحلة التحدي ومرحلة امتحان إثبات الإرادة بالنسبة لزكريا حيث استطاع أن يحرق مرحلة الأول والثاني الإعدادي وينجح بالاختبار بمواد لم يكن لديه أدنى فكرة عنها وبدون إتباع دورات واعتمد على مساعدة بعض المقربين من الأصدقاء فلم يكن لديه قدرة على تحمل الأعباء المادية للدروس الخصوصية .
وحول تعليقه على كيفية الدراسة قال: هناك بعض المواد الحفظية التي تحتاج لذهن متفتح ومن ثم الحفظ ، وساعدني في ذلك متابعاتي للندوات والحوارات التلفزيونية المختلفة والتي شكلت لدي ثقافة عامة استطعت من خلالها فهم تلك المواد وحفظها، لكن كان الإشكال بالمواد العلمية،في الرياضيات كان الفضل لصديقة الطفولة بنت الجيران التي ربينا سوية من عمر الست سنوات، استطاعت بأسلوبها الرائع إيصال الأفكار بكل سلاسة فلقد عرفت ما هي حاجتي ، وكانت تعلم بأنه لا يوجد أي تأثير للإعاقة في ذهني وهذا ما ساعدها في تخطي الصعوبات في عملية تدريسي ، وأذكر أني درست مادة الرياضيات ستة أشهر فقط.
ويضيف:أما مادتي الفيزياء والكيمياء ساعدني فيهما صديق كان يدرس في الجامعة نفس الاختصاص ، والجدير ذكره أني كنت أعتمد في المواد العلمية على عملية التصور والخيال لحل المسائل وكان علي أن أبصر داخلياً ورسم الحلول ذهنياً،كذلك اعتمدت على مساعدة أحد المعارف باللغة الإنكليزية، بعدها تقدمت للامتحان في العام الدراسي 2006-2007 من خلال لجنة تطرح علي الأسئلة ويقوم شخص بتدوين إجاباتي بحذافيرها وحصلت في نهاية المطاف على الشهادة الإعدادية بمجموع 257 علامة .
في البكالوريا أحضر أصدقائي نسخة من الكتب للفرع الأدبي وقام بعضهم بقراءة المواد من الكتب وتسجيلها بصوتهم على أشرطة كاسيت، وتحولت بدوري إلى طالب وأستاذ بنفس الوقت أشرح لنفسي وأحفظ، ليصبح شريط الكاسيت كتابي الخاص الذي أدرس وأحفظ منه، كذلك حالت الظروف المادية من إتباع أي دورات خاصة وكان علي الاعتماد على نفسي ، تابعت بعض الدروس بمادة اللغة العربية فقط عند نفس المدرسة الفاضلة، وتقدمت لامتحان الشهادة الثانوية للعام الدراسي 2007-2008 ونجحت بـ 190 علامة .
قفزة نوعية
ويتابع :بعدها دخلت فرع علم الاجتماع في جامعة تشرين في حين كانت رغبتي دراسة الصحافة أو العلوم السياسية، لكن إعاقتي منعتني من دراسة أي منهما، لاحقاً وخلال دراستي للفرع شعرت بمتعة حقيقة لغناه بالمعلومات وفيه حركة ذهنية إضافة لكونه يحلل كل ما في المجتمع ، كذلك درست مواد علم نفس ساعدتني بحياتي ، فهذه المواد تعلمك إذا كان لديك إعاقة جسدية كيف تتخطاها ، وإذا كان هناك عقد نفسية كيف تتجاوزها ، و كذلك كيفية التعامل مع الآخرين، وكنت الشخص الوحيد الكفيف الذي يدرس فرع علم الاجتماع على عكس أغلبية المكفوفين الذين يختارون اللغة العربية، وتبين مع الأيام أن اختياري لعلم الاجتماع كان صائب و يتلاءم مع قدراتي.
وكانت الجامعة قفزة نوعية في حياة زكريا ويقول :الجامعة أخرجتني من قوقعة المنزل إلى عالم كبير كله حيوية ، لقد عشت خلال السنة الأولى الجامعية كل مراحل الطفولة والمراهقة والوعي في آن واحد، وكان أجمل إحساس هو عودتي إلى مقاعد الدراسة التي حرمت من الجلوس عليها في طفولتي ،ووفرت لي الجامعة طيف واسع من الاحتكاك مع الطلاب وخلق لي ذلك جو من المنافسة ، وهو احد الأسباب الذي دفعني للتفوق في الجامعة فأنا لا أحب أن يتفوق علي أحد. ولقد وقف لجانبي الكثير من الزملاء والأصدقاء في الجامعة الذين سهلوا على الأمر.
[img]http://www.jablah.com/uploads/extgallery/public-photo/medium/-------3-_1...
احترام وليس شفقة
تربطني علاقة احترام متبادلة مع المدرسين في الجامعة ، ويعاملوني كبقية الطلاب لأنهم غير قادرين على استثنائي من بين 300 طالب، وكان علي أن أتخطى إعاقتي لوحدي، لذلك عملت بجد وحصلت في السنة الأولى على معدل 82.35 وفي الفصل الأول من السنة الدراسية الثانية ارتفع المعدل أكثر.
ويشير زكريا أن الجانب الإيجابي من خلال تفوقه واجتهاده أصبح لدى مدرسيه وزملائه نوع من التعاطف، وهذا لا يزعجه لأن هذا التعاطف نابع من الاحترام وليس من باب الشفقة .
ويقول حول كيفية يتعايش مع تنقلاته وحركته : تشكل مشكلة الذهاب إلى الجامعة عائقاً وتعباً نفسياً أكثر من أي شيء آخر، فأمي قبل مرحلة الجامعة كانت رفيقة دربي في كل تحركاتي وقاست الأمرين من أجلي، كانت تنتظر ساعات في الشارع أثناء الامتحانات في البرد أو تحت حر الشمس ، لكنها لاحقاً لم تعد تستطيع مرافقتي لأسباب مرضية وكذلك هي ست بيت ولديها بقية أفراد العائلة، في البداية ساعدني أحد الأصدقاء الذي كان يدرس معي بنفس الفرع لكن بعد رسوبه تعقدت المشكلة ، بعض الأحيان يساعدني ابن عمي وأحياناً كثيرة أذهب لوحدي بعد أن توصلني والدتي إلى الطريق الرئيسي الذي يبعد عن المنزل حوالي 500م لأستقل السرفيس باتجاه اللاذقية وأمام الجامعة يكون بانتظاري أحد الأصدقاء، وفي العودة تكون والدتي بانتظاري على الطريق الرئيسية، طبعاً الخليوي هو صلة الوصل والذي حل جزء كبير من المشكلة، لذلك يتم التنسيق بين عدة أشخاص للذهاب والعودة، و بالنهاية أتجاوز المشكلة . لكن المشكلة تتعقد أكثر أثناء الشتاء حيث تتحول طريق المنزل إلى بحيرة نتيجة الواقع الخدمي المزري في الرميلة وأحياناً أيام الأمطار أضطر لعدم الذهاب إلى الجامعة، لأنه لا يمكن اجتياز الطريق إلا سباحة.
اختصار للتنقلات
ويضيف :أضطر لاختصار تنقلاتي إلى الجامعة و أختار يومين من أصل خمسة أيام لحضور المحاضرات التي تعتمد على الفهم والحوار والنقاش،لاختصار الإشكالات التي أسببها للآخرين أثناء تحركاتي وتنقلاتي وكذلك لاختصار التكاليف المادية وأعوض ذلك بإحضار المحاضرات وأدرسها بالبيت واتصل تلفونياً برفاقي الذي حضروا لمناقشة ما فاتني من أفكار طرحت في المحاضرات.
ويطمح زكريا إكمال الدراسات العليا وهذا يعني أنه سيضطر للذهاب إلى دمشق أو حلب، وقد تشكل إعاقته عائقاً أمام ذلك ، لكنه يعتقد كما تخطى المشاكل والصعاب سابقاً سيتخطاها لاحقاً.
وحول الصعوبات ركز زكريا على الجانب المادي والذي يعود له الكثير من التأثير على تحركاته وتحصيله العلمي ويقول: لقد استطعنا تجاوز المشكلة بحدود الإمكانيات، من الصعوبات أيضاً حتى الآن لا أملك كمبيوتر، والذي كان بالإمكان أن يساعدني ويفيدني في الحصول على المراجع التي أحتاجها ونسخها حيث لا قدرة لي على شراء مراجع بمبالغ كبيرة.
أبواب مغلقة
ويضيف: حاولت سابقاً الحصول على عمل وطرقت أبواب الجهات المسؤولة في اللاذقية وجبلة ،لكن للأسف كانت كلها مغلقة، وأخيراً ألغيت الفكرة بسبب ما لقيته من معاملات وردود......،و لذلك فضلت إكمال دراستي بحدود الإمكانيات المتاحة وفي المستقبل أعمل بشهادتي ، وأرغب أن أعمل مدرساً في الجامعة بنفس الاختصاص.
ويحاول زكريا حالياً تعلم العزف على العود بدون معلم بسبب عدم توفر الإمكانيات المادية وذلك من خلال نوتات يحصل عليها من أشخاص أصدقائه يتعلمون على العود حديثاً، يحلل تلك النوتات ويسجلها من ثم يستمع إليها وثم يطبقها على الأوتار لوحده.
وأخيراً
يعمل والد زكريا( غياث) عاملاً في أحد ورش البناء حيث يرفع البيتون على كتفه ليؤمن القوت اليومي لأفراد عائلته ويقول: في بداية الإصابة دخل زكريا في حالة من الإحباط والإكتئاب الشديد واستمرت حالته لفترة طويلة من الزمن ، وكان همي إخراجه من هذه الحالة وكنت مستعداً لفعل المستحيل من أجله ، كانت المعاناة كبيرة ومستمرة وبشكل يومي لكن من عانى بشكل أكبر هي والدته لأنها كانت ترافقه في كل خطوة وفي كل نفس بينما كنت أنا في العمل خارج المنزل.
وأشار أنه غير خائف على مستقبل زكريا فهو قادر على تذليل كافة الصعاب وكسر الحواجز، لكنه غير راض عن النتيجة لأنه يعرف بأن زكريا قادر أن يعطي أفضل من ذلك.
أما والدته رغدة أسعد فكانت الحافز والدافع لنجاحه، و خوف زكريا من خيبة أملها دفعه للعمل بقوة وبجد، وأثناء نجاحه بالامتحان كانت الأرض لا تسعها من فرحتها وكأنها هي التي تنجح بالامتحان ، وكانت تنسى كل المتاعب والمعاناة والمواقف التي كانت تتعرض لها أثناء تنقلاتهم في السرافيس .
وتقول بأنها لا تعامل زكريا في المنزل كمعاق ،بل تدفعه وتشجعه للقيام بكافة أموره الشخصية في المنزل بدون مساعدة احد ، وعلى العكس يساعد والدته أحياناً في الأعمال المنزلية وكذلك يحضر بعض الأطباق الشهية.