لم يسبق لأي كاتب أو صحافي أن دس أنفه في بعض محاضر اجتماعات جورج بوش وجاك شيراك حول لبنان، كما فعل الصحافي الفرنسي فانسان نوزيل في كتابه الجديد «سر الرؤساء». الصحافي ريشار لابيفيير في كتابه «التحول الكبير» الصادر في العام 2008، كان قد وضع أسس معرفتنا القريبة لكواليس القرار 1559، فوق أرضية المصالحة بين جاك شيراك وجورج بوش بعد خلافهما حول العراق. والارجح أن لابيفيير كان أكثر غنى في التحليل وربط الأحداث، وعرض التفاصيل التي قادت إلى تحويل صيف 2004 موعدا أميركياً فرنسياً مشتركا «للانتقام «من الرئيس بشار الأسد لعدم تعاونه مع الرئيس بوش في تسهيل احتلال أميركا للعراق وإغلاق طرق القاعدة العابرة إلى المثلث السني عبر سوريا، أو رفضه طلبات الرئيس شيراك، الارتقاء بصديقه الشخصي الرئيس رفيق الحريري، في لبنان، إلى الشراكة.
لكن «سر الرؤساء» يعزز معرفتنا بتلك الفترة، بما قيض «لنوزيل» الاطلاع عليه من أرشيف الأليزيه، ومحاضر اللقاءات الأميركية الفرنسية، والملاحظات على المفكرات الخاصة للرئيس شيراك. وهي رزمة من المعلومات حصل عليها، في سياق الفصول التي خصصها للبنان، من موريس غوردو مونتاني، المستشار الدبلوماسي للرئيس جاك شيراك.
ويمكن الاكتفاء بالتنافس التقليدي للهيمنة على لبنان تفسيراً للدوافع الأميركية والفرنسية. كما من الممكن لمن شاء أن يعيب على الكتاب تجاهله المقدمات التي قادت إلى انقلاب الرئيس شيراك على سوريا، وتقاربه مع الرئيس الأميركي جورج بوش. وباستطاعته أن يسقط من الحساب المقدمات: يأس الرئيس الفرنسي وحليفه اللبناني من تسهيل تفرده بعمليات توزيع مؤتمري باريس واحد واثنين، من دون تدخل دمشق أو حلفائها. وهي الوجهة التي تبناها كتاب «شيراك العرب» لكريستوف بولتنسكي وآشيرمان عن المرحلة نفسها.
وباستطاعة المرء أن يلاحظ سبق الرئيس شيراك إلى بلورة مفهوم «الهلال» أو «القوس الشيعي»، قبل أن يطفو على السطح النووي الإيراني في العام 2004، وكان الرئيس الفرنسي يستخدمه في لقاءاته ببوش وكوندليسا رايس لضمهما إلى الحملة من أجل القرار 1559. ومن نافل القول إن سقوطه في مسامعنا بصوت الملك عبد الله الثاني الأردني بعد حرب تموز 2006 ما كان سوى صدى لهواجس الرئيس الفرنسي المبكرة، وانعكاس لتجربته الشخصية وعلاقاته القوية مع حكام الخليج وصدام حسين في العراق. وكان قبل ذلك، الخوف من «وقوع» العراق بيد الشيعة، أحد أسباب معارضته لحرب العراق، كما يعرض الكاتب.
اعتقد الرئيس الفرنسي جاك شيراك، لوقت طويل، أن الرئيس السوري الشاب، بشار الأسد، الذي كان قد استقبله في الإليزيه قبل توليه السلطة، نصير لإجراء إصلاحات رفضها والده العنيد، ورفض القبول بها حتى وفاته في حزيران 2000.
عندما خلف بشار والده، اعتقد شيراك أنه «سيكون وصياً عليه»، يشرح مستشار سابق في الإليزيه، و«اجتهد كثيرا لمساعدته، وحاول إقناعه بتليين مواقفه. ونجح بالحصول على تأييد سوريا قرار الأمم المتحدة إعادة المفتشين إلى العراق في تشرين الثاني 2002».
تملك سوريا، بنظر الإليزيه، ورقة بناءة يمكنها أن تلعبها في المنطقة بعد سقوط صدام حسين: بإمكانها أن تساهم في استقراره، والتخفيف من هيمنتها على لبنان، والتفاوض مع إسرائيل حول اتفاق سلام.
ولهذه الغاية، أوفد شيراك سراً مطلع تشرين الثاني 2003، مستشاره الدبلوماسي موريس غوردو مونتاني، لرصد نيات الرئيس السوري. الموفد كان مكلفا بالمهمة أيضا من قبل المستشار الألماني غيرهار شرودر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اللذين تشاورا مع شيراك ومستشاره. المقابلة بين غوردو مونتاني وبشار الأسد دامت أكثر من ساعتين، في صبيحة العاشر من تشرين الثاني.
«لقد تغير العالم حولكم»، قال الفرنسي. «نحترم سيادتكم، وقد بذل رئيس الجمهورية كل ما بوسعه لضمكم إلى المشهد الدولي، وهو مستعد للمتابعة. نحن بحاجة إليكم من أجل التوازن في المنطقة. فلتتخذوا مبادرة، من أي نوع كان، ونحن ندرسها، وندعمكم بإرسال وزراء خارجية فرنسا وروسيا وألمانيا».
كان بشار الأسد يصغي بانتباه، لكنه كان متوترا ومرتابا: «هل تحمل رسالة من الأميركيين؟».
«لا»، أجاب غوردو مونتاني. «إني لا أحدثك باسم الأميركيين، لكن باسم قادة الدول الثلاث وحكوماتها».
لم ينتهز الرئيس السوري الفرصة المتاحة، وخاض في مطولة هجائية للأميركيين، الذين يشتبه في سعيهم لإسقاطه. الموفد غادر من دون الحصول على أي إشارة بالانفتاح الموعود. وواصل جولته على العربية السعودية للقاء ولي العهد عبد الله، ثم لبنان ليلتقي رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني. كان الوزراء المقربون من سوريا يسيطرون على حكومته، والمقربون من الأسد يمسكون بكل الخيوط في بيروت.
الرئيس الفرنسي المصاب بخيبة كبيرة، ازدادت قناعته تدريجا، بأن نظام دمشق سيبقى عصيا، إلا إذا ضاعف من الضغوط. والحال أن واشنطن كانت هي أيضا قد أصبحت على موجة باريس نفسها.
الرئيس السوري وانزعاج واشنطن
كان غضب البيت الأبيض يزداد يوميا، ضد سوريا التي وضعها بعض «المحافظين الجدد» في «محور الشر». ولم تتوقف لائحة المآخذ عن التطاول خلال العام 2003.
وبحسب وكالات المخابرات الأميركية، منحت دمشق اللجوء لمسؤولين عراقيين بعد سقوط بغداد. والإنذارات الموجهة إليها لم تلق أذنا مصغية. من جهة أخرى، كان العشرات من المقاتلين القادمين من موريتانيا والسودان واليمن، يعبرون سوريا إلى العراق لإشعال الحرب المقدسة ضد الأميركيين. وكان تراخي السلطات السورية، في المناطق الحدودية، أكثر ما يزعج إدارة الرئيس بوش.
أحد مسؤولي الخارجية الأميركية، دافيد ساترفيلد، صرح عن هذا الانزعاج لدبلوماسيين فرنسيين خلال لقاء مطول كُرس لسوريا، في الرابع عشر من تشرين الثاني 2003: «إن خلايا القاعدة تعبر الأراضي السورية، بدون أن يمنعها النظام السوري، لكنه يعرف أن مخابراتنا تحيط بكل ما يجري».
موضوع خلاف آخر، اقل بروزا، كان يثير أعصاب الأميركيين: السوريون افرغوا من دون أدنى معاناة ضميرية الحسابات العراقية في مصارفهم! إن قرارا من الأمم المتحدة كان يلزم نظريا الدول التي اودعت لديها هذه الأموال، أن تقوم بتحويلها إلى صندوق لتطوير العراق، مكلف بإعادة بنائه. وبرغم بذلهم عناء الدنيا كلها، لم يستطع الخبراء الأميركيون الحصول من دمشق على المعلومات بشأن هذه الحسابات. وبحسب دافيد ساترفيلد، فقد أطهرت دراسة حسابية حديثة جدا أن 85 في المئة من هذه المبالغ تبخرت خلال أشهر، وانخفضت من ملياري دولار إلى 266 مليون دولار.
«تركت السلطات السورية لدائنين صغار، أن يستوفوا من هذه الحسابات ديونهم بأنفسهم، باستثناء الشركة الوطنية للنفط»، يشرح ساترفيلد. وبطريقة أخرى، فإن أفرادا معينين أثروا بطريقة غير مشروعة من خلال استيلائهم على ما يقارب ملياري دولار. في 12 تشرين الثاني 2003 وجه كل من المصرف المركزي العراقي، والخزانة الأميركية، تبليغا لسوريا للحصول على ما بقي من الأموال، لكن من دون نتيجة مؤكدة.
إلى هذه المواضيع المثيرة للغضب، يضاف دعم دمشق «حزبَ الله»، والفصائل الفلسطينية الراديكالية، كحماس والجهاد الإسلامي، أعداء إسرائيل حتى الموت. «من المؤكد أن السلطات السورية لم تكن على علم بالعمليات الإرهابية، لكنها كانت تسهر على أمن هذه العمليات بالقول لمنفذيها: انتبهوا، فإن الأميركيين يراقبونكم»، بهذا باح دافيد ساترفيلد للفرنسيين.
وفي النهاية، استشاطت واشنطن غضبا من غياب التعاون السوري في مكافحة الشبكات السلفية للقاعدة. «بعد الحادي عشر من ايلول مباشرة، كان تعاونهم مُرضيا، بل مثمرا، خلال عام، ثم تضاءل تدريجا، ليصل الى حد الصفر منذ ستة أشهر».
أرسل البيت الأبيض إشارات عدة إلى الرئيس السوري، تعبر عن عدم رضاه، لكن من دون نتائج. «قل لبشار الأسد إنني أحادي شرير»، بذلك توجه بوش لشيراك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في ايلول 2003. وإذا كان الأسد لا يثق بالأميركيين، وهذا ما كرره لغوردو مونتاني ولدبلوماسيين آخرين قابلوه، إلا أنه حاول التفاوض معهم بطريقة غير رسمية، عبر عماد الحاج، رجل الأعمال اللبناني الأميركي.
علق دافيد ساترفيلد على ذلك «الأسد يماطل ويحاول الظهور بمظهر المحاور الجيد مع واشنطن. لكنه يعرف تماما، المطالب التي يجب ان يلبيها. لا نحتاج إلى قنوات موازية، ولا نلعب هذه اللعبة».
إن تصلب الإدارة الأميركية سينعكس في تقييمها للرئيس السوري من الآن فصاعدا. وتدريجا سيغدو الأسد أقل قابلية للتعامل معه: «في الحقيقة يتصرف الأسد كنيو ناصري، ويحاول التموضع كبطل العالم العربي، وقد جذب الشباب اليه في الشرق الأوسط. لكن في المحصلة النهائية، غدت علاقاته كريهة مع جيرانه».
من جهته، قام مجلس الشيوخ الأميركي بتبني عقوبات اقتصادية ضد النظام السوري المتهم بدعم الإرهاب والإبقاء على وجود عسكري في لبنان: «إن تدهور العلاقات السورية الأميركية، قد عبر عتبة جديدة بعد التصويت في مجلس الشيوخ، والمشكلة لدى الإدارة الأميركية، انها شيطنت النظام الحاكم في دمشق، ولم تعد قادرة على وضع سياسة شاملة وديناميكية تتسع للمواءمة بين العصا والجزرة: وبما أنها لم تعد تملك ما تعرضه على دمشق، فقد توقفت عن الاستجابة والرد على الأحداث».
التحضير في الخفاء لقرار من مجلس الأمن
التصعيد هذه المرة لم يكن عسكريا. لكن الحملة الدبلوماسية شقت طريقها وانتظمت. وخلال الأشهر الأولى من 2004، اظهر الإليزيه عن طريق لمسات صغيرة رغبته بالتقارب مع واشنطن من خلال الاتفاق على الملف السوري اللبناني. اللحظة كانت مؤاتية: وما دام الأميركيون يحرصون على تنفيذ فكرتهم لدمقرطة الشرق الأوسط، فليكن، ولنختبر التزامهم بالفكرة في لبنان، حيث لا يزال لفرنسا بعض التأثير.
جاك شيراك عرض هذه الفكرة، خلال لقاء مع بعض الشيوخ الأميركيين في آذار 2004.
سألوه رأيه في «الشرق الأوسط الكبير»، فأجاب: «لنكن واقعيين. لن نتقدم في الديموقراطية، إلا إذا بدأنا بدعمها حيث توجد، ولو بطريقة غير كاملة كلبنان. ينبغي إذاً، أن نساعد هذا البلد على التخلص من الوصاية السورية».
جاك شيراك سيكرر هذه اللازمة، خلال عشاء في الإليزيه مع جورج بوش في الخامس من حزيران 2004: «ستكون هناك انتخابات رئاسية في لبنان في شهر تشرين الأول، إنها فرصة من أجل انطلاقة جديدة للبنان، شرط ألا يؤخذ الرئيس الجديد في طوق سوري. سيحاول السوريون إعادة انتخاب الرئيس الحالي إميل لحود، عن طريق تعديل الدستور. لقد سجلنا باهتمام تصريحات كولن باول، وكوندليسا رايس حول ضرورة إجراء انتخابات خالية من أي تدخل اجنبي، كما سجلنا تبني الولايات المتحدة عقوبات، مشروطا رفعها بانسحاب سوريا من لبنان... فلنعمل معا».
«لمَ لا»، أجاب بوش على الفور.
كوندليسا رايس وعدت بأن تتشارو، بسرعة، مع نظيرها موريس غوردو مونتاني، الاتصالات الأسبوعية بينهما تكثفت. ورويدا رويدا بدأ محور باريس ـ واشنطن يتشكل ويظهر إلى العلن، بفضل هذه العقدة اللبنانية السرية، وبفضل هذا الملف بالتحديد. «بما اننا كنا على خلاف في العراق، كان من الأفضل أن نحاول التركيز على شيء آخر، ونعمل فيه معا. كان لبنان مناسبا لنا بامتياز»، كما يتذكر هوارد ليتش السفير الأميركي الأسبق في باريس.
لم يكن جاك شيراك يرغب بالصراخ فوق السطوح: إنه يسعى، بأي ثمن، إلى إعادة وصل ما انقطع مع جورج بوش، خصوصا ان شعبية هذا الأخير في فرنسا كانت في الحضيض.
لكن، بما أنه لم يصغ إليه في العراق، أو في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، فقد عثر في لبنان على عنوان للمصالحة، يعيده إلى واحهة الأحداث. صديقه رفيق الحريري كان سعيدا بذلك.
الخطوات التطبيقية بدأت صيف 2004. في بيروت، تولى تنسيقها السفيران، فيليب لوكورتييه، الفرنسي، والأميركي الواصل حديثا من بغداد، جيفري فيلتمان. من جهتهما، باشر سفيرا فرنسا في الأمم المتحدة وواشنطن، الإعداد مع الاميركيين، لمشروع قرار يطرح على مجلس الأمن. القرار كان يطالب بانتخابات حرة، وانسحاب القوات السورية بأسرع وقت ممكن. موفد شيراك التقى كوندليسا رايس ومسؤولين آخرين في 19 و20 آب 2004، قبل أن يتجه إلى سردينيا، المقر الصيفي لرفيق الحريري. جرت قراءة مشروع القرار مرات عدة، بتمعن، على متن يخت رئيس الوزراء اللبناني، الذي لم يكن لشيء أن يهدئ من غضبه من السوريين. وحدث ما كان يخشاه شيراك. قام السوريون بتعديل الدستور اللبناني، وسمحوا لحليفهم إميل لحود بالتمديد ولاية جديدة لمدة ثلاثة اعوام.
رئيس الوزراء الحريري، الذي استدعي إلى دمشق في 26 آب، كان عليه أن يواجه بشار الأسد الغاضب: «لحود هو أنا»(...)
المشاروات الأخيرة حول القرار الفرنسي، جرت نهاية آب 2004. وتبادل الدبلوماسيون الفرنسيون والأميركيون في الأمم المتحدة مسوداتهم. موريس غوردو مونتاني على تواصل مباشر مع اللبنانيين، وبطريقة غير مباشرة مع وزير الخارجية السوري، الذي كان يمرر رسائله عبر الإسبان. التعديلات الأخيرة، قدمها مستشار شيراك إلى كوندليسا رايس، وذهب باتصالاته الهاتفية المتتالية، إلى حد أن يقتحم عليها الانتخابات الأولية للحزب الجمهوري في ماديسون سكوير غاردن، في نيويورك. في الثاني من ايلول تبنى مجلس الأمن القرار 1559 بأكثرية تسعة أصوات، وامتناع ستة من بينها: روسيا، والصين والجزائر.
«1559»، صفعة حقيقية لسوريا، إذ يطالبها النص بسحب جميع القوات الأجنبية المسلحة، وحل الميليشيات، وإجراء انتخابات رئاسية حرة وفق القواعد الدستورية اللبنانية من دون أي تدخل خارجي. ومن دون أي اعتبار أو حساب لما حدث، نجح بشار الأسد في الغد، بفرض تمديد ولاية الرئيس لحود. لم يكن ليتوقع انذارا عالميا مشابها، أو أن ينعقد ضده حلف فرنسي أميركي، غير منتظر بعد الخلاف في حرب العراق. ورأى في ذلك استفزازا من قبل الحريري، وخيانة من جاك شيراك، وتحديا من جورج بوش. باختصار، كان ذلك إعلان حرب.
هدايا صغيرة للدكتورة رايس
ازداد التوتر في لبنان: في 2 تشرين الأول تعرض لمحاولة اغتيال وزير الاقتصاد السابق مروان حمادة، الذي اقترع ضد التمديد. في 21 استقال رفيق الحريري، وبدأ بتوحيد المعارضة في وجه مؤيدي سوريا في لبنان. ولتأييد صديقه اللبناني، بطريقة عمياء، أوفد جاك شيراك احد مستشاريه في الاليزيه، برنار ايمييه إلى بيروت، كسفير جديد. وكان على هذا أن يبقي عينه على القدر السياسي اللبناني الذي يغلي، بالتنسيق الكامل مع نظيره الأميركي. وضاعف شيراك من نصائحه لتيري رود لارسن، المكلف بمراقبة تنفيذ 1559.
وأكثر فأكثر، كان يدلل جورج بوش، لرعاية براعم التلاقي الفرنسي الأميركي الهش، الذي بدأت نتائجه الأولى تلوح في الأفق. واستغل فرصة فوزه في الانتخابات الرئاسية 2004، لمهاتفته في التاسع من تشرين الثاني: «اجدد لك تهاني».
«اشكرك»، أجاب بوش، «أجدد لك تمنياتي بالعمل معا في مواضيع تخدم مصالحنا المشتركة. بيننا الكثير من الخلافات، لكن عندما نعمل معا، لا تتأخر النتائج».
في الثامن من شباط أوفد الرئيس بوش كوندليسا رايس للقاء شيراك. والملف الرئيسي: لبنان!
منذ بداية اللقاء، لم يهتم الرئيس شيراك باختيار عباراته «الأقلية العلوية تقود سوريا بيد من حديد، منذ الحرب الباردة، وبوسائل مستمدة من الحكم السوفياتي. لقد حل مكان حافظ الأسد ابن لا يملك لا خبرته ولا ذكاءه. وهو حجر الزاوية في نظام سينهار من دونه، لكن القادة السوريين الحاليين لا يعرفون إلى أي اتجاه يجب أن يتجهوا، لذلك تتعثر حركتهم».
ويضرب لها مثالا الاستقبال الذي لقيه تيري رود لارسن في دمشق: حار من قبل بعض القادة السوريين، ومهين من جانب متطرفي النظام. وبحسب شيراك، فإن نزوع النظام إلى التصلب يبدو بوضوح على حدوده مع العراق، حيث يستمر عبور مقاتلي القاعدة، كما يتواصل الدعم المالي للفصائل الفلسطينية الإرهابية، رغم النفي الرسمي. «في لبنان، اضاف شيراك، الاتجاه السوري ينحو إلى التصلب، لأن دمشق مصممة على عدم التغيير، سواء في ما يتعلق بمخابراتها، او بجيشها. وستحاول أن تؤثر على الانتخابات عبر قانون انتخابي مفصل وفق رغباتها، وعبر الضغوط ومحاولة زرع الفرقة في صفوف المعارضة حيث يتواجد دروز وسنة، لا يجب أن ندعهم يخنقون الديموقراطية العربية الوحيدة المتجذرة».
كان شيراك مصمما: «تجب مواصلة الضغوط، إن القرار 1559 سدد ضربة قوية لدمشق، ان تيري رود لارسن محترف، ويتمتع بخبرة جيدة بالرجال والملفات. ويجدر الانتباه لشيئين: الأول لا يجب الخلط بين الديموقراطية في لبنان، وعملية السلام، وإلا أضفنا إلى اوراق دمشق ورقة أخرى. ينبغي دعم الديموقراطية في لبنان من اجل الديموقراطية وحدها ومن اجل لبنان.
والشيء الثاني، يجب التهديد بفرض عقوبات مالية قادرة على ضرب نظام الرشوة القائم بين دمشق وبيروت».
كان شيراك يحض الولايات المتحدة على الذهاب أبعد مما تبتغي، وكان لذلك يحاول أن يجر خلفه الأوروبيين.
رايس المستمعة بانتباه عبرت عن «اتفاقها الكامل» مع توصيتي شيراك. لكنه عاد إلى الإصرار على «وجوب التذكير كلما سنحت الفرصة، بالقرار 1559 والمطالبة بتطبيقه، إن من شأنه أن يوهن عزيمة المتصلبين في دمشق، ويعين المعتدلين على ضرورة تغيير الاتجاه المتبع. ليس من مصلحتنا على الإطلاق أن نرى قوسا شيعيا في الشرق الأوسط، من إيران إلى حزب الله فالعراق وسوريا».
هذه الجملة الأخيرة تلخص جوهر قلق شيراك، وقد جرى التعبير عنه في مناسبات عدة، خلال إرهاصات الحرب في العراق: كان على الدوام يخشى من سيطرة الشيعة، والأسد حليفهم. وهو يفضل السنة، من صدام حسين إلى رفيق الحريري.
الرئيس الفرنسي هنأ نفسه على تعزيز التعاون الفرنسي الأميركي بفضل هذا الملف اللبناني السوري. وبديهي أن لكل منهما اولويته. أولوية باريس: سيادة لبنان، لواشنطن الأولوية هي الحصول على دعم سوريا في الحرب على الإرهاب في العراق. لكن دمشق نقطة الالتقاء، ونظامها في مرمى باريس وواشنطن. بعد هذا اللقاء مع كوندليسا رايس، خطط شيراك لعشاء مع جورج بوش، في 21 شباط 2005 على هامش قمة أوروبا الولايات المتحدة.
احداث درامية أخرى كانت ستتكفل بقلب أجندة مواعيده رأسا على عقب.
السفير
يتبع ...