فرانسيس بيكون هو فيلسوف علم إنجليزي ورجل دولة، يعد أبرز سياسي عصره وأبرز مفكريه أشتهر بقيادتهِ للثورة العلمية عن طريق فلسفته القائمة على الملاحظة والتجريب.
شعر بيكون أن الدراسة ليست غاية أو حكمة في حد ذاتها وأن المعرفة أن لم تكن مقرونة بالعمل ليست سوى زهو وغرور علمي شاحب، يقول: ” إن إنفاقك في الدراسة النظرية وقتًا طويلًا ضرب من الكسل والخمول، والتحلي بها تصنع وتكلف ومحبة في الظهور واستنادك في حكمك دائمًا على أحكام الدراسة النظرية وقواعدها ضرب من مجون العلماء وأمزجتهم. هنالك حكمة خارج الدراسة النظرية وأهم منها وهي حكمة تُكتسب بالملاحظة، ينبغي أن يكون الفكر مساعدًا للملاحظة لا بديلًا عنها “. أن تعليق بيكون هذا يضع حدًا للفلسفة المدرسية ويضع أهمية التجربة والنتيجة التي تميز الفلسفة الإنجليزية والتي بلغت ذروتها في فلسفة البراغماتزم أو (المذهب العملي) وهو المذهب الذي يقول: أن أهمية المبادئ في نتائجها العملية.
يقدم لنا بيكون أوهام العقل الإنساني أو كما يُسميها « أصنام العقل» ومن هذهِ الأوهام :
أولًا “أوهام القبيلة” وهي أوهام طبيعية بالنسبة إلى البشرية عمومًا، فقد زعم الإنسان باطلًا أنه مقياس لجميع الأشياء. عقل الإنسان يشبه المرآة غير المستوية والتي تعكس خواصها على الأشياء المختلفة وتشوهها. إن أفكارنا صور عن أنفسنا أكثر من كونها صور للأشياء. ومن طبيعة الفهم الإنساني أنه يفرض في الأشياء درجة من النظام أكبر مما يجده فيها.
ومن أخطاء العقل أنه أذا أمن برأي ما سواء كان إيمانه بهذا الرأي عن طريق التسليم العام بهِ، أو من أجل لذة ومنفعة تعود عليه من هذا الرأي، نجده يُرغم كل شيء آخر لتأييد وأثبات رأيه، على الرغم من وجود الكثير من الأدلة القاطعة المغايرة لرأيه الذي آمن بهِ أولًا. وبعد أن ينتهي الإنسان من تقرير القضية وفقًا لإرادته، نجدهُ يلجأ إلى التجربة فـ يُخضعها ويجعلها موافقة لرأيه، ويسوقها كأسير في مِوكب. باختصار أن العقل الإنساني ليس جافًا بل يتأثر بالإرادة والعواطف.
إما الطائفة الثانية من الإخطاء هي ما يسميها بيكون “أوهام الكهف” ، هي الإخطاء التي يمتاز بها الإنسان الفرد ” لأن لكل إنسان كهفًا خاصًا بهِ يعمل على حرّف أضواء الطبيعة وتغيير لونها ” وهذا الكهف هو طبعه كما كونته الطبيعة ومزاجه أو حالة جسمه أو عقله. بعض العقول مثلًا تنزع إلى التحليل وترى أوجه الخلاف والتباين في الأشياء أينما وجدت، وبعض العقول بطبيعتها تركيبية تميل إلى البناء والتركيب وترى أوجه الشبه بين الأشياء. وبعض العقول تميل كثيرًا إلى تقدير كل ما هو قديم، وبعضها تحتضن بحماس كل أمرًا جديد، والقليل منها تستطيع الاحتفاظ بالحد الوسط، فلا تقضي على ما أوجده الأقدمون من أمور صحيحة ولا تنظر بعين الاحتقار إلى الاختراعات الجديدة، لأن الحقيقة لا تعرف تحيزًا أو تحزبًا.
أما الطائفة الثالثة من أخطاء العقل هي “أوهام السوق” التي تنشأ من التجارة واجتماع الناس بعضهم ببعض. لأن الناس يخاطبون بعضهم بعضًا عن طريق اللغة التي فرضت كلماتها على الناس وفقًا لعقلية أهل السوق والعامة. حيث ينشأ عن سوء تكوين هذهِ الكلمات وعدم موافقتها تعطيل شديد للعقل. فالألفاظ تتكون بطبيعة الحال طبقًا للحاجات العلمية والتصورات العامية، فتسيطر على تصورنا للأشياء، فتوضع ألفاظ لأشياء غير موجودة بالفعل، أو غامضة أو متناقضة، وهذا يحدث كثيرًا في المناقشات فتدور كلها على مجرد ألفاظ.
والطائفة الأخيرة من أخطاء العقل هي الأوهام التي انتقلت إلينا من نظريات الفلاسفة المختلفة وقوانين البراهين والأدلة الخاطئة والتي يسميها بيكون “أوهام المسرح”، وفقًا لبيكون أن الأنظمة الفلسفية التي نتلقاها عن الفلاسفة ليست سوى روايات مسرحية تمثل عالمًا خلقه الفلاسفة أنفسهم بطريقة روائية مسرحية وقد تُلاحظ في روايات هذا المسرح الفلسفي نفس الأشياء التي توجد في مسرح الشعراء وأن القصص التي ابتدعت للمسرح أكثر انسجامًا وإحكامًا من قصص التاريخ الحقيقية. إن مشاكلنا ومصاعبنا ناجمة عن العقائد التي تحول بيننا وبين الوصول للحقيقة، أننا لا نتوصل إلى حقيقة جديدة لأننا نأخذ بعض القضايا والآراء كشيء مسلم به ولا نزاع فيه مع أن هذه القضايا عُرضة للسؤال والخطأ، أننا نأخذ هذهِ القضايا المسلم بها نقطة الابتداء في البحث ولا نفكر أبدًا في وضعها موضع الفحص والملاحظة والتجربة.
وفقًا لبيكون يجب تطهير العقل وتنقيته من الأفكار المجردة والتصورات السابقة والآراء المتحيزة، أي يجب تحطيم أوهام العقل. إن كلمة “وهم” كما يستعملها بيكون هي الصورة التي ترتسم في الذهن عن الحقيقةْ، أي فكرة العقل الخاطئة عن الشيء.
المراجع:
1. قصة الفلسفة / ويل ديورانت
2. الأورجانون الجديد/ فرانسيس بيكون
3. قصة الفلسفة الحديثة / زكي نجيب محمود