آخر الأخبار

كواليس برنامج تلفزيوني حواري

وعجلة البدء ستدور بعد قليل لإنتاج برنامج تلفزيوني أشبه ما يكون بـ"وجبة سريعة". هذه الخلاصة، وإليكم التفاصيل.

نحن المشاركون، هكذا سمّونا لكنهم أرادوا لنا دوراً آخر؛ كنا مدججين بالأسئلة منذ أيام انتظاراً لهذه الساعة. الدعوات وزعت تقريباً على كل الجامعات التي ينطق طلبتها بالإنجليزية. خمس درجات، قالت معلمتنا إنها ستمنحها لمن يشهد "البرنامج الحدث"، كانت كفيلة لأن نتسابق قبل أسبوع من موعده لتسجيل أسمائنا لدى سكرتير قسم الصحافة. غرفته كانت ممتلئة بالطلبة عن آخرها. يبدو أن معلمين آخرين كانوا أكرم، ووعدوا طلبتهم بأكثر من خمس.

على مدار أسبوع، ناقشنا موضوع الحلقة ومحوره العراق، وهو ما يحمله اسم البرنامج أيضاً. تحاورنا، تبادلنا المقترحات، مررنا لبعضنا الأسئلة، قدحنا زناد أفكارنا لاستخراج أقواها وأجرأها، وحللنا إجاباتها المفترضة. بات الموضوع مثار حديثنا اليومي. خُيل لبعضنا أننا أصبحنا مختصين في الشأن العراقي. آخرون، استعانوا بزملاء عراقيين ليعطوهم خلفيات عن أبجديات الصراع السياسي قبل الغزو، وتعقيدات التركيبة السياسية الجديدة بعده.

يوم "الساعة"، وصلنا إلى مكان انعقاء اللقاء قبل ساعتين بالعشرات. تماماً كما لو كنا ذاهبين للمطار. كان المصعد معطلاً. الاستديو في الطابق الثاني عشر. لاعتقادنا أن الأمر يستحق، صعدنا بمعية أحد ضيوف البرنامج، نائب السفير البريطاني في القاهرة، سلالم اثنا عشر طابقاً. وصلنا جميعاً نلهث. البعض سلى نفسه بعدّ درجات السلم.

انقسم العادون حول عددها بالضبط بعد الوصول. انشغلت بتقسيم عدد تقريبي لها على الدرجات الخمس الموعودة. قلت لو كان لكل طابق 20 درجة وضربناها بـ12 فسيكون الناتج 240 تقسيم 5 يساوي 48. مع صعود كل 48 درجة سنمنح واحدة! قليل جداً! شتمت معلمتنا في خيالي بعدد الدرجات التي صعدتها وأكثر. ندمت أني فكرت بالمجيء. مزاجي بدأ يتعكر. بقايا عزائي تعلّقت بالمشاركة للمرة الأولى في برنامج تلفزيوني.

الاستديو يطل على الكورنيش. القاهرة تبدو جميلة من عَليّ فقط. لم أعرف بعد سر تعثرنا الدائم في طرقاتها! بدأنا ننتظم عشوائياً فوق المقاعد المرصوصة على منصة من أربع درجات. صديق اختار لنفسه ظهوراً تلفزيوياً رفقة صديقته الأمريكية. جاور آخر زميليه كما اعتادوا داخل غرف الدراسة. ثلاث أجنبيات اخترن احتلال ثلاثة مقاعد متلاصقة. مجموعة كبيرة من الطلاب مازالت تحتل ساحة الاستديو بعد أن امتلأت المقاعد عن آخرها.

مُنظم "حفلة البرنامج" لم يعجبه المشهد. أراد تطعيماً من نوع خاص للجالسين، فأرتأى إعادة تموضعنا: فتاة بين كل ذكرين. يبدو أن شكلي لم يعجبه. أزاحني من السطر الأول إلى الأخير في مقعد طرفي. ثم اشتغل باستبدال بعض الجالسين بمن كانوا في الساحة. كان يختار أشخاصاً ذوي بشرة نضرة، وأجسام نحيفة، وملابس أكثر هنداماً.

بقينا جالسين في مقاعدنا دون حراك نحو الساعة ننتظر وصول بقية الضيوف. قال المنظم: من منكم سيسأل؟ كلنا تقريباً أجبناه برغبتنا في ذلك. قال: إن وقت البرنامج لا يسمح. عليكم اختيار ثلاثة فقط لهذه المهمة. اختفى للحظات ثم رجع. تبسم ضاحكاً واختار هو بنفسه ثلاث فتيات جميلات. يبدو أنه عقد معهن صفقة من نوع ما.

لم يعجبني تصرفه. قلت: عليك أن تعطينا كلنا حرية متساوية. أضفت: نحن طلاب إعلام ويفترض في أي وسيلة إعلامية أن تحفظ الحق في حرية الحديث للجميع. تكدرت ملامح وجهه. رمقني بنظرة تهديد قائلاً: أرجوك لا تتدخل في عملي. أردف: أنت من أين؟ قلت: فلسطيني من غزة. هز رأسه مغمغماً بكلمات غير مفهومة ومضى. على الأرجح أنه شتمني. وهكذا أنا فعلت.

بعد أن أخذ الضيوف الخمسة أماكنهم على خلفية النيل المتلألئة بالأنوار، طل علينا المذيع. اقترب منا. قال: من يريد أن يسأل؟ الفتيات الثلاث اللاتي وقع الاختيار عليهن جاوبنه. صديق لي أراد أن يسأل هو أيضاً. مال المذيع نحوه مستفهماً عن مضمون سؤاله. دار بينهما حوار قصير. فهمت من ظاهره تقبل المذيع للسؤال، لكن ملامح وجهه كان تشي بأنه سيتجاهله خلال التسجيل للبرنامج. وهو ما كان بالفعل. لم يستفهم المذيع من الفتيات الثلاث عن مضمون أسئلتهن. قبل اقترابه منا، همس له المنظم في أذنه بمضامينها. فقد كانا قبل قليل ينظران إلينا بينما ينقل له الأجواء في أوساطنا.

هدوء تام، تلمظنا خلاله شفاهنا. المذيع يتناول كوباً من الماء، هو الخامس تقريباً في بضع دقائق! الضيوف انتصبوا في مقاعدهم منزهين أياديهم فوق ربطات أعناقهم. بدأ التسجيل وانطلق المذيع بمقدمة حماسية ثم قدم ضيوفه. أخذنا إلى فاصل. المخرج أوعز للمذيع بالتوقف إلى حين وضع مزيد من المكياج على وجوه بعض الضيوف، إذ بدت شاحبة قليلاً. توقف التسجيل مدة تقرب من العشرين دقيقة. إذن، الفاصل الإعلاني الذي يبث ضمن البرنامج على الشاشة أقصر وأرحم من نظيره في الاستديو!

عاد المذيع لطرح الأسئلة على الضيوف الواحد تلو الآخر. في كل مرة يسأل ضيفين أو ثلاثة على الأكثر قبل أن يأخذنا إلى فاصل "من أبو 20 دقيقة". لم يتورع المذيع عن مقاطعة جميع المتحدثين، وتقطيع إجاباتهم خلال التنقل بينهم، فهم خمسة ولا بد أن يعطي الجميع حق الكلام. يبدو أنه لم يدرك إلا حين بدء التسجيل أن خمسة ضيوف يصعب حشرهم في ساعة نقاش واحدة!

هكذا استمر البرنامج، بين قطع إجابات الضيوف، وتقطيع الفقرات تحت وطأة الفواصل، إلى أن تنبه المذيع أخيراً لوجودنا قبل نهاية الحلقة بنحو عشر دقائق. ما أن بادرنا بلفتته الكريمة، حتى رفعنا كلنا أيادينا. اختار واحدة من الفتيات حسب الاتفاق. تذكرت موقفاً من مراحل تعليمنا الأساسية، حين كان يشهد موجهاً تربوياً درساً لأحد معلمينا، فيوعز لنا الأخير قبل يوم من الدرس بأن نرفع جميعاً أيادينا عند السؤال، على أن يتولى هو ندب الأنجب للإجابة.

فاجأنا المذيع أنه بعد الفاصل الحالي سيختم البرنامج. لم نشعر بمرور الوقت. على الأرجح لأننا كنا مشغولين حد الشغف بتسجيل التفاصيل المثيرة لما نشهد بأعين ذاهلة وحواجب معقودة. مصدر استغرابنا أن المذيع لم يف بوعده لبقية من أرادوا المشاركة بطرح أسئلتهم. أشفقت على أحد الضيوف الذي لم يتكلم إلا مرة واحدة طوال الدقائق الستين، إذ بدا الرجل ديكوراً!

بدأ التسجيل للفقرة الأخيرة. دارت همهمة بيننا حول الفوضى التي عجّ بها البرنامج. التسجيل مازال مستمراً. شكر المذيع ضيوفه وهكذا فعل معنا. التسجيل مازال مستمراً. اعتذر المذيع ممن لم يتسن لهم المشاركة. التسجيل مازال مستمراً. صفق البعض لا إرادياً ببرود لمجرد سماعهم كلمة "المشاركين". التسجيل مازال مستمراً. نهض آخرون من مقاعدهم للرحيل. التسجيل مازال مستمراً، ثم ودع المذيع الجميع بتحية طيبة مباركة. انتهى التسجيل.

لم تعجب الخاتمة المخرج أبداً. أوعز للمذيع من داخل غرفته بإعادتها. قال لنا المنظم: أريد تصفيقاً حاراً. لا تغادروا مقاعدكم إلا بإشارة مني. هكذا كان له ما أراد. أن نكون ديكوراً يُجمّل به البرنامج، وشهود زور على حلقة نقاش أريد لنا أن نكون فيها متفرجين!

التسجيل استمر نحو ساعتين لإعداد برنامج من ساعة واحدة. التقطنا صوراً تذكارية مع الضيوف والمذيع لفترة قاربت الساعتين، أطول من مدة البرنامج ذاته. حضورنا سبق التسجيل بساعتين. تساءلت هل يستحق برنامجاً من ساعة واحدة إضاعة نحو ست أخرى من وقت الناس؟! الشيء المهم بالنسبة لي كان الدرجات الخمس. لم أتأكد بعد إذا ما أضيفت إلى رصيدي أم لا!؟