آخر الأخبار

ما بعد كاترينا





ليلة الثلاثاء، وفيما ارتفع منسوب المياه التي غرقت في لججها معظم بقاع نيو
أورليانز بثت محطة ال سي. ان. ان الفضائية تقريراً فحواه ان الطعام في البرادات
لن تستمر صلاحيته لأكثر من أربع ساعات، لذا ينبغي رميه مع النفايات. وأما الفقرة
الاخبارية التالية من ال سي. ان. ان فكانت خواراً مترعاً بالسخط يجأر مستفظعاً
صنيع النهَّابين الذين استولوا على محتويات المحلات والأسواق ولم تكلف القناة
خاطرها ولم تتجشم حتى أي عناء لإخفاء الطابع العنصري لتلك التغطية التي تنضح
بالتعصب.





وراحت الصحافة تصف بشكل مفضوح الناجين البيض بأنهم أناس يحاولون الحصول على ما
يقتاتون عليه من طعام من محل غرق بمياه الفيضانات التي أحدثتها الأعاصير التي تجتاح
المنطقة . هذا في حين جرى تلطيخ سمعة السود الذين انهمكوا في الصراع ذاته من أجل
البقاء، وشوهت صورتهم باعتبارهم لصوص نهب وسلب .



وسرعان ما أضفى الإعلام على إجلال مسألة الممتلكات والحفاظ عليها وحمايتها هالة
من القداسة فصار موضوعاً طغى حضوره على فقرات كثيرة من نشرات الأخبار التي أفردت له
حيزاً كبيراً فصار الدفاع عن الفجوة والفراغ الحاصلين وفرض النظام يكاد يحظى
بالأولوية المطلقة ويصبح الأمر الأهم الذي تتلقاه قوات حفظ الأمن والنظام والذي
يلقي على عاتقها هذه المهمة حصراً.



ونلحظ ليلة الثلاثاء أيضاً ان نشرات الأخبار كانت تورد تقارير مفادها انه في مدينة
يماثل حالها التعس وأوضاعها البائسة حال داكا عاصمة بنجلاديش قبل بضع سنين لم يكن
هناك سوى سبع طائرات مروحية تابعة لخفر السواحل لتقوم بعمليات الاغاثة والمساعدة
والانقاذ. فأين مروحيات الحرس الوطني؟ انها على الأرجح تتولى قصف المدنيين
العراقيين على الطرقات في التخوم الخارجية لبغداد وحولها وفي أنحاء مدينة الفلوجة.



وفيما يتعاظم الحنق الشعبي الكاره لهذه الحرب المناهض لها، ثمة ملايين من البشر سوف
يسألون عما قريب: ما سبب وجود الحرس الوطني في العراق، بدل ان يهب لإغاثة المنكوبين
على طول خليج المكسيك ويشد من أزرهم في الساعات الأولى العصيبة الحرجة؟ وذلك قبل ان
تتحول نيو أورليانز وبايلوكسي وموبايل الى حاويات لقاذورات المراحيض السامة وقبل ان
يهرع المنكوبون الى أسطح المنازل هرباً من عوامل الهلاك التي تحاصرهم بعد ان تركتهم
الكارثة في وضع يائس.



وفيما يواجه آلاف السكان الذين حاصرتهم هذه المحنة شبح الهلاك المريع المحقق
لانعدام سبل النجاة من هذه المدينة التي دهمتها الفيضانات كانت أولى بوادر استجابة
بوش لهذا الحدث الجلل ان سارع بفتح صنابير المخزون الاحتياطي الاستراتيجي من
البترول تلبية لطلب شركات النفط وبإصداره أمره الى وكالة انتاج الطاقة بأن تلغي
معايير الهواء النقي التي يفترض ان تكون مرعية في محطات الكهرباء وتوليد الطاقة وفي
مصافي تكرير البترول في أرجاء البلاد، ويفترض انه عمد الى هذا الاجراء لزيادة
امدادات الوقود، وهو هدف لطالما سعى إليه من أمد بعيد أصدقاؤه الحميمون في كبريات
شركات النفط.



وفي مؤتمره الصحافي الذي اتسم بالقلق والهلع في روز جاردن توجه بوش بالخطاب الى
أولئك النفر من الناس الذين تحدق بهم المخاطر من كل جانب على امتداد ساحل خليج
المكسيك وطلب منهم ان يدعوا القلق فسلاح المهندسين في طريقه للبدء في إعادة إعمار
أرض الجنوب . لكن سلاح المهندسين هذا الذي يتحدث عنه هو فرق المهندسين ذاتها التي
أخفقت بعد انقضاء سنوات ثلاث من العمل في جعل بغداد تنعم بالماء الصالح للشرب
وبالكهرباء لمدة تزيد على ثلاث ساعات يومياً فقط، وهي المدينة التي لم تعهد مثل هذا
الوضع البائس حتى في أسوأ أيام النظام السابق.



ما كان ينبغي ان يكون الحال على هذا السوء والتردي. وما كان ينبغي ان تضيع مدينة
نيو أورليانز بأسرها. وما كان ينبغي ان يهلك مئات البشر. ومع ذلك فقد غدا واضحاً
الآن ان إدارة بوش قد ضحت بنيو أورليانز على مذبح المضي قدماً في حربها المجنونة في
العراق.



وكما أوردت صحيفة نيور أورليانز تايمز بيكايون في سلسلة مقالات نارية متفجرة
توالى تدميرها الكاسح على مدى العامين الماضيين، فإن مجلس المدينة البلدي ومسؤولي
الدولة وسلاح المهندسين قد طلبوا مراراً وتكراراً تمويلاً تعزز به السدود المتناثرة
على طول بحيرة بونست تشارترين والتي تصدعت مع اندفاع الفيضان غير ان إدارة بوش دأبت
على الضرب بهذا الطلب عرض الحائط وإشاحة وجهها عن مضامينه وتحذيراته مراراً. وأعادت
هذه الإدارة برمجة التمويل لتحوله من تعزيز السدود وتقويتها الى وزارة الأمن
الداخلي ولينفق أيضاً على الحرب في العراق.



وخلال هذا العام اقتطعت إدارة بوش أيضاً من التمويل الذي كان يتلقاه سلاح مهندسي
نيو أورليانز مبلغاً يزيد على 71،2 مليون دولار، وهي نسبة خفض مذهلة تصل الى 44،2%
عن المستويات التي كانت سائدة في عام 2001.



وسلط تقرير لسلاح المهندسين الضوء على انه في الوقت الذي كان هناك رفض لمنح عقود
تنفيذ مشاريع كبيرة للحماية من الأعاصير والفيضانات لشركات هندسية محلية.. جرى
أيضاً تجميد تمويل دراسة ترمي الى تحديد سبل حماية المنطقة من اعصار التصنيف الخامس
وقبعت الخطة حبيسة الأدراج .



وكان العمل في سد الشارع السابع عشر الذي تصدع يوم الاثنين قد توقف في وقت مبكر من
هذا الصيف للافتقار الى تمويل لا تتجاوز قيمته المليوني دولار.



وكان والتر مايستري، رئيس إدارة الطوارئ في ابرشية جفرسون في لويزيانا قد تحدث الى
صحيفة تايمز بيكايون في يونيو/ حزيران من العام الماضي فقال: يبدو ان المال قد
جرت ازاحته في ميزانية الرئيس ليصب في خزانة وزارة الداخلية وليذهب الى الحرب في
العراق. وأنا أفترض ان هذا هو الثمن الذي ندفعه. والكل مبتئس هنا على الصعيد المحلي
وليس ثمة مخلوق سعيد او راض عن حقيقة ان السدود لم يستكمل بناؤها ولا صيانتها ونحن
لن نألو جهداً وسنفعل كل ما في وسعنا لتحويل هذه المسألة الى قضية أمنية تمس أمننا
نحن .



ثمة حشد من الحقائق الدامغة المريعة التي ينبغي ان تتحول الى وقود ينشط ويحرك آلة
الدعوة الى التغيير في الحزبين كليهما ويحفزهما على المناداة إما باستقالة بوش او
عزله فقد طفح الكيل.



والهم الأعظم لهؤلاء الفقراء الذين يعانون في زماننا هذا قد جاءت ترجمته على لسان
الرئيس هوجو شافيز زعيم فنزويلا الذي أعلن فور فراغه من دردشة كان يجريها مع الزعيم
فيدل كاسترو ان فنزويلا ستعرض ان تقدم لفقراء أمريكا بترولاً بسعر مخفض وذلك من
خلال شبكتها الشركاتية سيتغو . وقال شافيز إن سعره سوف يحطم التسعير اللصوصي
النهاب المعمول به في كل محطة وقود امريكية. وسوف تصدر سيتغو لمشتري كل خزان وقود
سيارة مملوءة قسائم تخولهم استشارات طبية مجانية يحظون بها من خلال خدمة الانترنت
المتواصلة مع الأطباء الكوبيين في فنزويلا.

ولربما توقظ هذه المصيبة الجلل التي حلت في ربوع ساحل خليج المكسيك الناس وتنبههم
الى اعوجاج السبل التي يسير عليها مجتمعنا وإلى تفشي الظلم الفادح. وهذا هو في أغلب
الأحيان التأثير الذي تخلفه الكوارث الطبيعية التي تضرب بني البشر، كما كان الشأن
بزلزال المكسيك، حيث حفز تلكؤ جهود رجال الشرطة وتقاعسهم المواطنين العاديين كي
يتولوا أمور الإغاثة بأيديهم.







* كاتب ومحلل وناقد صحافي يتولى تحرير موقع كاونتر بانش