بقلم: كمال أبو ديب
مايعنيني الآن هو البعد الثقافي للصراع بين القوى المهيمنة في المركز الجديد (دول الأطراف) ضد المركز القديم (بغداد-دمشق-القاهرة)وصولالبيروت والقدس وعمان وبعض المنطلقات التي يستند إليها الفكر السلفي,المتخلف ,الماضوي في تكوينه ,وبناه الذهنية-التصورية ونزوعاته. وسأركز في هذه المقالة على السلاح الأول الذي يستخدمه هذا الفكر في حربه البشعة ضد ثقافة المركز القديم ونهضته وحضارته ,وكما يمكن أن نتوقع ,فإن هذا السلاح هو التكفير والتلحيدوالإرهاب الذي اقترن بهما في كل مرحلة من مراحل تاريخنا.
لا يتورع المفكر السلفي عن أي شيء في حربه التكفيرية هذه, من الإتهام الذي لايستند سوى إلى جملة الإتهام التي يقذفها..إلى تزييف النصوص والمواقف وتشويه الحقائق ..إلى الربط الخارج على كل مقاييس العقل والمنطق بين مواقف لارابط بينها,أونصوص لا علاقة تشدها ,أو مقولات وأفكار وتيارات متناقضة متعارضة .ويشجع هذا الفكر المتهافت على استخدام هذه الآليات اعتقاده بأنه قادر دائما على استفزاز المخزون الشعوري-الطقوسي-المذهبي عند الناس بمجرد ترديد عبارات وشعارات وأقوال لها طابع القداسة,وإقحامها في سياق الإتهام والتلحيد,سواء أكان هذا الإقتحام مسوغا أم غير مسوغ ,منطقيا أم واضح التهافت. إن سلاح هذا الفكر هو الإنشاء(الخطاب) المتلبس ,المشبع بمكونات النصوص الدينية واستثاراتها . وقد اقحمت الآن في سياقات لاتنتمي إليها أصلا .ويساعد هذا الفكر على القيام بكل هذا درجة هائلة من التعصب المذهبي والديني ,ودرجة أشد هولا من الجهل والتسرع في إطلاق الأحكام ومن وحدانية الرؤية.ورفض قبول الآخر أو رأيه أو تطلعاته . تبوأ الهامش بعد سنوات الإنقلاب النفطي مكانة المركز وأدى امتلاكه لثروة هائلة وتحوله لقوة إقتصادية وإلى الشريك الأول للهيمنة الغربية ,إلى أن يضعف المركز القديم ويجعله تابعا لإرادته السياسية ثم أخذ المركز الجديد يضاعف من عنف حملته لتقويض ثقافة المركز القديم كما قوّضه سياسيا .وقد استخدم في سبيل ذلك وسائل مختلفة:من شراء المفكرين والكتاب والأدباء للعمل فيه أو في مجلاته ووسائل إعلامه (مغرقا إياهم بما لايستطيعون مقاومته من مال وإغراءات في واقع جديد أسهم هو في خلقه من الضغوط المالية المستمرة على المرء في مجتمع استهلاكي مفاجىء اختل نظام القيم فيه تماما وأصبح للمال سحر طاغ وصار امتلاكه وامتلاك السلع قيمة خاصة ,اجتماعيا وأخلاقيا ,دحرت القيم الإنسانية النبيلة وحلت محلها).
إلى تشكيل عشرات شركات الإنتاج ووسائل الإعلام وقام بمصادرة الفكر والأدب والفن الذي يعتبره ممثلا للحداثة والعلمانية والتحرر وكل ماهو مستقبلي النزوع ونابع من ثقافة المركز القديم ومثقفيه وتكفيرهم. إنها مقصلة الإرهاب المشهورة في التاريخ العربي والتي ارتبطت دائما بمثل هذا الفكر المتخلف. لايكاد يكون هناك اسم واحد مضيء في الثقافة العربية المعاصرة لا يدرج في قوائم الكفار والملحدين لديهم,ولا تكاد تبقى شتيمة أو صفة لأهل الضلالة والكفر لا تلصق بأولئك المفكرين ووصف أفكارهم بأنها دعوة لخلخلة العقيدةكما تنتشر الدعوة لحماية عقول الناشئة من هذا الفكر الذي لا يقل خطورة عن المخدرات إن لم يكن أخطر منها برأيهم . ابتداء من طه حسين وانتهاء بمحمود درويش وسميح القاسم , وحين ترى هذه الحرب التي تشن على كل عقل ومفكر متنور تدرك أي كارثة نواجه وأية محيطات من ظلام وانحطاط التي تهدد وجودنا الثقافي والحضاري. إذا لم تقاوم هذه الحملة الضارية من قبل كل معني بمستقبل هذه الأمة وبشكل خاص من قبل مفكري المركز القديم ومبدعيه وفنانية بل ومن قبل أنظمته السياسية أيضا. إن المفكرين والمثقفين والمبدعين العرب مدعوون بقوة إلى حقيقة جوهرية :هي أن التناقضات التي تنشأ في الثقافة منها ماهو أساسي ومنها ماهو ثانوي . ولقد غرق كثير من هؤلاء -كما غرقت الأنظمة السياسية التحررية أيضا-في حمأة الصراعات فيما بينهم دون أن يدركوا أن ما بينهم ليس في الغالب إلا تناقضات ثانوية ,وأن التناقض الحقيقي هو ما يقوم بينهم جميعا وبين مذاهب التحجر والتكفير والفكر الماضوي الذي يستخدم كل سلاح يملكه لكي يقوض كل عمل أو جهد ينفح نسمة من الحرية والتفتح والحيوية والتجدد . لقد أخفق المبدعون العرب والأنظمة السياسية في ترتيب أولوياتها بطريقة سليمة ناضجة, أنهم جميعا يدفعون ثمن هذا الفعل , فهل يمضون في غيهم أم يعودون لمشروعهم ويبداون بالتصدي لمشروع قوى التخلف والإستنفاع في هذا الوطن البائس.