من الملك هنري الرابع الى بيل كلينتون مروراً بجون أف كينيدي ,وسيلفيو برولوسكوني وموشي كاتساف وبعض الرؤساء الفرنسيين, تكثر الحكايات الصغيرة عن زعماء كبار أغوتهم الاضواء والنجاحات وأطلقت العنان لشهواتهم, وصولا ببعضهم الى حد الانحراف الجنسي.فما هو سر هذه السلطة التي تحول بشراً طبيعيين الى مفترسين جنسياً وتصل برجل كان على عتبة أشهر من الاليزيه (بحسب استطلاعات للرأي) الى زنزانة أحد أسوأ السجون الاميركية سمعة؟
عندما كان المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي دومينيك ستروس-كان يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية في فرنسا قبل خمس سنوات، سألت مجلة "الاكسبرس" الفرنسية الاعلامية الشهيرة آن سانكلير هل تزعجها سمعة زوجها "زير نساء"، فأجابت "لا"، بل "أنا فخورة بذلك".ففي رأيها "من المهم للسياسي أن يكون فاتناً.وما دام لا يزال جذابا بالنسبة اليّ، وأنا جذابة بالنسبة اليه، فهذا كاف".
قد يكون هذا "الفخر" الذي عبّرت عنه سانكلير في حينه هو نفسه الذي دفع مسؤولين فرنسيين وآخرين في صندوق النقد الدولي الى غض النظر عن الشائعات التي تراكمت عن الحياة الجنسية لستروس-كان، بدءا من الصحافية والكاتبة الفرنسية تريستان بانون التي اتهمته بمحاولة اغتصابها عام 2002، من دون أن تضغط لتوجيه اتهامات إليه، وصولاً الى مرؤوسته في صندوق النقد بيروسكا ناغي التي زعمت بأنه استغل منصبه لإجبارها على إقامة علاقة معه.
ومع أن إدارة الصندوق اعتبرت في تحقيقها أن العلاقة كانت مؤسفة وعكست خطأ فادحاً من ستروس-كان، إلا انها برّأت ساحته من التحرش أو المحسوبية أو استغلال السلطة، وأكدت أنه سيظل في عمله، واكتفى هو في حينه باصدار اعتذار عام عن العلاقة.
الجنس والسلطة
لفلفت المؤسسة الدولية فضيحة ستروس-كان -ناغي سريعا، ربما لحاجتها آنذاك الى الرجل لانقاذ الاقتصاد العالمي، بعد الكفاية التي أظهرها في خضم الازمة المالية العالمية.بيد أن توقيفه أخيراً في مدينة نيويورك بتهمة محاولة اغتصاب عاملة فندق، أحيا جدلا قديماً في شأن الجنس والسلطة. ومع أنها قليلة المرات التي واجه فيها زعيم أو موظف كبير تهماً جنائية بتعد جنسي، كما حصل أخيراً، فلا شك في أن اروقة القصور والمناصب الكبيرة حافلة بمثل هذه الممارسات التي خرج بعضها الى العلن فيما بقيت أخرى طي الكتمان.
فعبر التاريخ شكلت السلطة مثيراً للشهوة الجنسية، وغالباً ما نجح زعماء ونافذون في التوفيق بين حياتهم الجنسية وحياتهم السياسية، وخصوصاً عندما كانت الامور تظل سرية.
ليس غريباً عن الاميركيين انتخابهم وتكريمهم شخصيات ذات تاريخ مشبوه، من توماس جيفرسون الذي يعتقد أن له أولاداً من عبدة، مروراً بجون ف.كينيدي الذي لا يزال في أذهاننا ذلك الزعيم الشاب الوسيم والمثالي الذي يريد تغيير أميركا، والمهووس بالجنس والنساء، بمن فيهن تلك التي يقال إنه تقاسمها مع زعيم عصابة، وصولاً الى بيل كلينتون وعلاقته الشهيرة بالمتدربة في البيت الابيض مونيكا لوينسكي والتي كادت تطيحه من منصبه قبل أن يعود وينهي ولايته تاركاً البيت الابيض مع نسبة تأييد زادت عن 60 في المئة.
من جهتهم، يدعي الفرنسيون بأنهم لا يتدخلون في الحياة الشخصية لزعمائهم، الا أن ستروس-كان ليس السياسي الفرنسي الاول تتصدر حياته الجنسية عناوين الصحف.
أكثر ما يتذكر الفرنسيون اليوم عن فليكس فور الذي حكم بلادهم بين 1895 و1899 أمرين، دوره في قضية دريفوس والطريقة الغريبة التي توفي فيها.ففي 16 شباط 1899، كان وحده في احدى غرف الاليزيه مع عشيقته مارغريت ستينهل عندما أصيب بنزف دماغي قاتل.
كثرت الروايات عن الظروف الحقيقية لوفاة الرئيس الفرنسي. ووفقا لأحد المؤرخين وجد الاثنان نصف عاريين فيما يد الرئيس عالقة في شعر ستينهل التي كانت تصف نفسها بأنها "مستشارة نفسية" وتزور القصر على نحو دائم حيث كان يرافقها محقق خاص من باب جانبي!
والى فور، كان الفرنسيون مدى سنوات عارفين بهفوات الرئيس الراحل فرنسوا ميتران. ومع ذلك ساد شعور بالصدمة عندما كُشف عام 1994 أن الرئيس أبقى منذ 1981 عائلة أخرى سرية.وتبين أنه خلال القسم الاكبر من رئاسته، كان يمضي أكثر لياليه في شقة آن بانجو، الباحثة في تاريخ الفن، وأن عقيدا في الدرك وظف خصوصاً لحماية بانجو وابنتها مازارين من ملاحقة الاعلام.
وعلى رغم تلك الحياة السرية، تتذكر مازارين الرئيس الراحل بأنه كان اباً لطيفاً يهتم بها، خلافاً لمذكرات أبنائه الشرعيين الذين يتذكرونه بارداً وغير ودي.
وعلى غرار بعض من أسلافه، وصل جاك شيراك الى الاليزيه عام 1995 وهو معروف بحبه للنساء.وكتبت زوجته برناديت في مذكراتها عن صعوبات العيش مع رجل "وسيم" يحظى "بشعبية كبيرة" بين النساء، موضحة أنها بقيت معه من أجل أولادهما.
وشاطرها رأيها السائق السابق لشيراك الذي كتب في مذكراته: "الى درجة مَرَضية تقريباً...كان لشيراك محازبات وسكرتيرات...أمضى معهن خمس دقائق عمل!".
لاينفي شيراك هذه الادعاءات على نحو كامل، الا أنه يعتبر أنها مبالغ فيها.وفي مقابلة عام 2007 قال: "لم تلعب المغامرات الغرامية دوراً حاسما في حياتي.كانت هناك نساء أحببتهن كثيراً بأكبر تكتم ممكن". ولم ينف التقارير التي تحدثت عن اقامته علاقة طويلة مع صحافية اذ كان رئيسا للوزراء في سبعينات القرن الماضي، الا أنه قال إن"الامر لم يكن ذا تأثير كبير بالنسبة الي".
وعلى رغم حبه المعلن والواضح للنساء، نقلت عنه تقارير أنه اندهش كثيراً خلال زيارة خاصة لفيلا رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلوسكوني، لافتاً الى أن التباهي الجنسي للزعيم الايطالي ومجموعته الواسعة من المواد الاباحية تجعله "رجلاً غريباً".
وتشغل مغامرات برلوسكوني الصحف الايطالية منذ أشهر، فهو متهم بإقامة علاقة جنسية مقابل مال مع مغربية قاصر تدعى كريمة المحروق الملقبة "روبي"، بين شباط وأيار 2010، واستغلال منصبه للإفراج عنها بعد توقيفها بتهمة السرقة.
وهذه ثالث فضيحة جنسية يتورط فيها برلوسكوني، بعد فضيحتي نويمي في أيار 2009، وهي القاصر التي كلفته علاقته بها طلب الطلاق من زوجته، وفضيحة إداريو، في حزيران 2009، المومس التي روت تفاصيل ليلة امضتها مع الملياردير الايطالي.
غير أن هذه الفضيحة الثالثة هي الأخطر إذ إنها قد تؤدي إلى صدور حكم بسجنه ثلاث سنوات بتهمة الدعارة، و12 سنة بتهمة استغلال منصبه.
...في الليلة نفسها التي وجهت فيها الاتهامات لستروس-كان، أقر الحاكم السابق لولاية كاليفورنيا أرنولد شوارزينيغر بأن السبب الحقيقي لانفصال زوجته ماريا شريفر عنه في وقت سابق هذه السنة كان اعترافه لها باقامته علاقة غير شرعية مع إحدى العاملات في منزلهما وإنجابه منها ولداً منذ أكثر من عشر سنين.
خيانة ثقة واستغلال سلطة
في التفاصيل، قد لا تشبه هذه القصص بعضها عن زعماء ونافذين عاشوا في الظل حياة لاءمت أحلامهم وغرائزهم المكبوتة غالباً، وعادت بهم مراهقين بعيدين كل البعد عن الانشغالات الكبيرة التي تحفل بها مواقعهم. الا أن ثمة قاسماً مشتركاً اكيداً بينها يكمن في خيانة الثقة واستغلال سلطات عامة لتشريع قواعد خاصة. والمفارقة أن السمعة السيئة لكثير من هؤلاء لجهة تصرفاتهم مع النساء لم تقوض صعودهم الى السلطة،وهو ما يثير تساؤلات كبيرة عن المسؤولية والمحاسبة. وإذا اعتبرنا أن حكام عالمنا الثالث منزهون عن كل محاسبة، شخصية كانت أم سياسية، لا يبدو العالم موحداً حيال هذا الامر.
حرب ثقافية
مع توقيف ستروس-كان، اندلعت حرب ثقافية بين ضفتي الاطلسي. فالوزير الفرنسي السابق كان محفظة العالم، والمالي البارع والمتبصر الذي أنقذ صندوق النقد من التهميش في الوقت المناسب لانقاذ الاقتصاد الاوروبي.وعلى رغم "هوسه" وعلاقاته المشبوهة بالنساء، يعتبر باعتراف مناصرين وخصوم، أحد ألمع أبناء جيله في فرنسا وصار الاوفر حظاً لاطاحة نيكولا ساركوزي في الانتخابات الرئاسية المقررة السنة المقبلة.
في فرنسا تنوعت تعليقات الصحف على نشر شرطة نيويورك صورة ستروس-كان مكبلا.والى نظرية المؤامرة التي أثارها بعض الاعلام، اختلفت عناوين الصحف والمجلات بين"صدمة" و"قنبلة سياسية" و"رعد" وصولاً الى "المنحرف". وسادت بلبلة بلغت حد الذعر بين الفرنسيين الذين تحظر سلطاتهم تصوير مشتبه فيه بهذه الحال، على أساس أنه انتهاك لقرينة البراءة. واعتبرت وزيرة البيئة ناتالي كوشيوسكو - موريزيه أن صورة فرنسا هي ضحية قضية ستروس-كان.
أما في أميركا التي تتباهى بأنها تعتبر الجميع متساوين أمام القانون، فقد رد رئيس بلدية نيويورك مايك بلومبرغ على الغضب الفرنسي بحسم وثقة قائلاً: "اذا لم تكن تريد أن تعامل كمجرم، لا تقم بالجرم".
عموماً، تجمع أميركا وفرنسا مصالح اقتصادية وسياسية كبيرة، الا أنه في بعض المجالات، مثل الجنس والقضاء،لا تزال ثمة هوة ثقافية واسعة تفصل بينهما.ففي أميركا تعتبر حرية التعبير قيمة أساسية، فيما تلتزم فرنسا "قانون الصمت" حيال الحياة الشخصية للشخصيات العامة، وتمتنع الصحف عن تناول حميميات هؤلاء.
كان ستروس-كان معروفاً على نطاق واسع بأنه "زير نساء".ونشرت الصحف الفرنسية أخيرا أن ساركوزي حضه بعد تعيينه في صندوق النقد عام 2007 على "تجنب أخذ المصعد وحيداً مع متدربات، إذ لا يمكن فرنسا أن تسمح بفضيحة". ومع ذلك، لم يواجه هذا الرجل أي شكوى قضائية، ولم يفتح في حقه أي تحقيق، ولم يتطرق الاعلام الا عرضاً الى حياته الشخصية.
والى الدفاع المستميت لزوجته آن سانكلير عنه، قالت زوجته السابقة بريجيت غيميت :"نعم يعاني ضعفا حيال النساء، ولكن هذا لا يعني أنه يمكن أن يفعل ما هو متهم به.لا أعتقد أنني رأيته يقفل الباب (على امرأة).العنف ليس جزءا من طبعه.لديه عيوب عدة ولكن ليس هذا (العيب)".
وعلى الضفة الاخرى من الاطلسي، ارتفعت انتقادات لـ"قانون الصمت" الفرنسي الذي يمنع النساء من الحديث علناً عن تحرشات جنسية يتعرضن لها من موظفين بيروقراطيين "يمنحهم نسبهم الاكاديمي أو وظيفتهم العامة هالة تلقائية من القداسة".
وفي المقابل، خرج من يحتج على الحماية التي تمتعت بها عاملة الفندق الغينية نافيساتو ديالو، الضحية المفترضة لستروس-كان والسماح لها بالبقاء بعيدة من الاضواء، وقت تصدَّرت صورته مكبلاً الصفحات الاولى لصحف العالم. وكتبت "الموند: "ماذا نعرف عن عاملة الفندق؟". وذهب الفيلسوف الفرنسي برنار هنري-ليفي الى انتقاد فندق "كبير" يرسل خادمة بمفردها لتنظيف الغرفة.
في الايام الاولى، أعادت فضيحة ستروس-كان إحياء الشكوك المتبادلة بين واشنطن وباريس والتي شهدت الاستعدادات لحرب العراق آخر فصولها، الا أنها فتحت في باريس ايضاً سجالاً من نوع آخر يتعلق بمسؤولية الاعلام عن محاسبة الحياة الشخصية للشخصيات العامة.
ولكن قبل الشكوك بين الحليفين القديمين ومسؤولية الاعلام، لاشك في أن فضيحة ستروس-كان أثارت تساؤلاً مشتركاً في أذهان الكثيرين،وهو كيف يمكن أشخاصاً بهذه المناصب وهذا الذكاء الاستسلام لغريزة حيوانية أحياناً؟ أهي السلطة التي توفر فرصاً فريدة لاشخاص من ذوي الشهوات؟ أهو الجانب الخفي للعبقرية التي ترتقي بالبعض الى أعلى المناصب؟
في كتابه "هؤلاء المرضى الذين يحكموننا"، تحدث بيار أكوس عن الزعماء الذين يحتفظون بمناصبهم على رغم مشاكلهم الصحية. ولا شك في أن المرض الذي ينهش النفس والروح قد يكون أكثر وطأة من ذلك الذي يصيب الجسد...
موناليزا فريحة
(النهار)