وينفخ في حجم الأنصار فيتضخم فجأة، فتشيع بينهم الأمية الحزبية، ويتوه صوت العقلاء في زحمة الأطروحات السطحية للمحدثين والحزبيين الجدد، فيتكاثر مجاهدو الفضائيات كما الفطر.. وهكذا، يُختصر الحزب في راتب، والحركة المقاومة في وظيفة.
هذا بعض ما أصاب حركة المقاومة الإسلامية حماس، والتي عندما دخلت معترك السياسة بكل ثقلها عام 2006 تسلل إليها تجار سياسة ومقاولو مقاومة لا تهمهم المبادئ بقدر ملء جيوبهم، وتسلق جدرانها أصحاب رؤوس أموال متنفذون، سرقوا من الفقراء أموالهم للمضاربة في بورصة أوهام سمّوها "أنفاق"، حطبها أناس تحولوا إلى "قوارض بشرية"، وأصبح يتحدث أغنياؤها باسم فقرائها، ومواطنوها باسم لاجئيها، ويخطب من على منابرها مَنْ كان لا يعرف للمسجد طريقاً.. وبتنا نسمع ونرى أنْ نبت بين ظهرانيهم بعض مدخنين، ومُترْمِلين (من يتعاطون علاج ترامال).
وقد كان معروفاً في ما سبق أن الانتماء لحماس لا يتم بمجرد إصدار بطاقة للعنصر، بل بيمين على المصحف أمام أحد ثقاتها، بالإخلاص لمبادئها، والانتصار لعقيدتها، والذود عن حياضها. أما اليوم فيعمل في أجهزتها أناس ممن كان يستحيل دخولهم للحركة لأسباب أقلها شكوك أمنية. وفهم الكثير من أفرادها الجدد أن الصلاة في المسجد ضمانة أكيدة لراتب آخر الشهر، على خلاف الدور المعهود للمسجد في التكوين السياسي والفكري للعنصر الحمساوي. أما الثقافة الحزبية للمنتمين الجدد إلى حماس فهي قشور قائمة على نفي أي آخر، يتم استلهامها على عجل من واقع جديد ورؤى مفترضة، تفتقر عمق التفكير والتعبئة السليمة.
فمثلا، يخرج علينا أحد مجاهدي الفضائيات ليعُد 56 مقاتلاً قضوا في الحرب على غزة 2008-2009، أما أكثر من 1400 آخرين فلا بواكي لهم.. ثم يتلو علينا آيات من "النصر الحكيم"، مُحدثاً بكلام خطابي لا حظ له من المنطق عن انتصار تحت زخ القنابل وهي تتساقط على رؤوس أناس أبرياء.
ثم ينقسم جمع السياسيين داخلياً وخارجياً على توصيف نتيجة الحرب: أهي انتصار أم هزيمة؟ قال بعضهم لكبيرهم، وقد شغل الفضائيات ملء شدقيه كلاماً عن نصر لم نر له رايات مرفوعة: "كفاك نسجاً لخيوط نصر لم تعش تفاصيل أحداثه إلا في خيالاتك". يستدرك آخر لاحقاً واضعاً نظرية فلسفية جديدة في علم السياسة عن ماهية النصر والهزيمة فحواها: لم ينتصر أحد ولم يهزم أحد!
أما عن التعيين العشوائي فالحديث ذو شجون، فهذا مدرس للثانوية العامة لم يتخرج في جامعته بعد، وذاك مدير عام لوزارة لا عهد له بها إلا اسمها، وثالث مدرس جامعي تخرج لتوّه وقد حل مكان دكتور تفرغ للوزارة، ورابع قفز إلى كرسي الوزارة، حين لم تجد الحركة بديلاً عن مجاملته في استشهاد ابنه المنتمي للحركة.. وخامس مدير عام لصحيفة الحركة اليومية، رغم أنه لم يخطَّ في حياته خبراً ولم يكتب مقالاً ولم يُجرِ مع أحد حواراً.
أقول ذلك منتقداً ومعاتباً ومتسائلاً في آن: هل هذه حماس الولاء والبراء؟! هل هذه حماس القسم لمبادئ الأمة؟! هل هذه حماس سيد قطب ومعالمه في الطريق؟! هل هذه حماس بادئة ذي بدء مع نشأتها ونشئها بسورة "تبارك" وكتاب الإيمان؟! هل هذه حماس قنوت آخر الليل وقرآن ما بعد الفجر؟! هل هذه حماس عنفوان الرنتيسي وشبابه وحكمة الشيخ وعقلانيته؟!
وأنا لا أسحب كلامي السابق، حين أقول إني أكنّ لبعض قيادات الحرس القديم وقليل من المتنورين الجدد في حركة حماس احتراماً ومازلتُ، وإن كان لا لشيء إلا لأن عدداً منهم كان محاضراً لي حينما كنت طالباً في الجامعة. أما وأن تصل الهرطقة في صفوف الحركة إلى هذا الحد وأكثر، فكان لابد من هذا المقال.