غازي أبو عقل :عن علي الجندي (1928 ـ 2009)النرجسي الماركسي المؤبد الإفلاس---من يهتم بالتفاصيلفي الثامن من آب 2009 رحل علي الجندي من مثواه ما قبل الأخير في اللاذقية إلى مثواه الأخير في سَلَمْيًة، يوم اتصلت بي (ابتسام) واسمها الحركي (سنونوة الضياء الأخير)، لتقول لي: "علي عطاك عمره". (بعد أن استنفده كله). فعادتْ بي الذاكرة إلى تلك الهنيهة وما تبعها من سفر حزين إلى مسقط رأسه لمشاهدة جسده يُوارى في بيداء يقع (أقرب جذع كرمة) إلى الضريح مسيرة ساعة على أقل تقدير.علمتُ بعد مدّة بوجود: (فَصّ) في مركز الدماغ يقوم بوظائف منها إحالة الذكريات التي لا يرغب صاحبها في استعادتها، إلى منفى لا تعود منه إلا بقرار يُتخَذ بعد تفكير.فوجئتُ بأن من اتخذ القرار باستعادة ذكرى ذلك اليوم، لا يقُيم في دماغي بل في مكان بعيد، وكنتُ أقُلبُ مَشَاهد (صندوق الفرجة) المعاصر (فيسبوك بالفصحى)، فأطلّت علي رسالة من منذر مصري: "مقالتي في (نوافذ) الثاني من آب 2015، في الذكرى السادسة لرحيل الشاعر علي الجندي 1928 – 2009".دَونتُ بعد قراءتي الموضوع تعليقاً وجيزاً طبقاً لتقاليد صندوق الفرجة: "مقالك عن علي الجندي جيد إلّا أنه غير دقيق".. جاء رده: "هذه قصيده لا مقال".. كتمت دهشتي وكتبتُ: "الغموض ضروري للشعر".اكتشفتُ في مخبأ معلومات FLASH أنني نشرتُ في الذكرى الأولى لرحيل علي مقالاً في ملحق الثورة الثقافي، جاء فيه: ".. يعرف كثيرون ما كان من أمر صداقتي للشاعر الراحل، لكن ما هو غير معروف فهو أمر الملحق الخاص الذي تٌعدٌه أسرةُ تحرير (الكلب) المحتجبة، وأنا منها، لينشر على أضيق نطاق ممكن ذات يوم بعد ضمان أنه لن يقرأه!".لم تتوقف (الكلب) لا عن الصدور بعد رحيل مؤسسها في أيلول 1972، ولا عن ذكر علي الجندي بمناسبة ومن دونها قبل رحيل صدقي وبعد ذلك، إلى أن رحل علي.لذلك بدأتُ أرتب أوراقي استعداداً للملحق الخاص بعلي، وهو الثالث في ترتيب الملاحق الكلبية الخاصة. حالت الأيامٌ التي تفعل ما تشاء بيني وبين إنجاز مشروع ملف علي الجندي، لهذا السبب ربما، اتخذتُ من (قصيدة) منذر مصري حافزاً لاستعادة ذكرى علي بطريقة بعيدة عن (الأكاديمية) المعتادة عند البحث عن إرث الراحلين، فأنا لا أعرف الخوض في مناهجها. الشاعر يخدع جمهورهسمعتُ (أبا لهب) يقول: "يظل الشاعر يخدع جمهوره إلى أن ينشر ديوانه".. ودار الزمن أكثر من مرة إلى أن نشرت دار جورجيت عطية في العام الألفين الأعمال الكاملة لعلي الجندي. وبعد أسابيع أٌقيم معرض صيفي للكتاب في اللاذقية وفي خيمة لواحدة من دور النشر، وقفنا علي وأنا نطالع العناوين، وانتبهتُ إلى أنه يحدق في الجزأين الضخمين الذين ضما أعماله، متحسراً كما بدَا لي على كونه لا يملك ثمنهما قلت له للتسرية عنه: أتذكر ما قلتَه لي عن الشاعر الذي يخدع جمهوره إلى أن تُنشر "أعماله الكاملة" ؟، فنظر إلى بدهشة المستنكر وأجابني بلهجته السلمونية المميزة: "أنا قلت هيك ؟". نويت بناء حكايتي حول ما كان يردده أبو لهب من شعر غيره، ولكن بعد المرور بحكايات أخرى تكشف بعض التفاصيل التي قد لاتهم أحداً. عمه أحمدالمعروف كونهما من طينتين متناقضتين شعرياً، وسمعتُ مرة من سأل العم: "هل علي ابن أخيك". فردَ: "نعم على مضض".اعتاد الأستاذ أحمد – الموظف – تناول غدائه أيام الجُمع في مطعم النورماندي الفخم في الخمسينات وما بعدها قليلاً، وكان علي الطالب الجامعي المفلس يظهر بغتة في المطعم، فيدعوه عمه إلى مائدته على مضض، ومن الطرائف أن شاعرنا المفلس كان يخرج محفظة نقوده متظاهراً برغبته في الدفع، فيتأمله عمه برهة قبل أن يقول له: لا تتعب نفسك، ليس في محفظتك إلا الهواء الطلق.وجاء يوم ظهرَ فيه ديوان علي الأول وعنوانه: (الراية المنكّسة) وقدمه إلى عمه الكلاسيكي شعرياً فبادره العم: علي، هذا ليس عنواناً يوُضع على ديوان شعر، بل يرُفع على مخفر للدرَك.ما قاله العم عن (الراية المنكّسة) بهذا الإيجاز البليغ، سمعتُ ما يماثله من علي بعد سنوات، لما التقى أخاه (عاصم) الذي تطوع في الجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش في لبنان، روى عاصم لأخيه أنه أنجز ديواناً كاملاً من شعره، كان معه أثناء مهمة في تلال البقاع عندما رصدَ طيار إسرائيلي سيارة (الفدائيين)، وما كادوا يقفزون منها إلى الخندق المجاور للطريق، إلا وكانت تحترق بنيران الطائرة، تصور ياعلي، لقد احترق مخطوط الديوان وليس عندي نسخة ثانية، فرَد عليٌ بوقار: "هذا الطيار الإسرائيلي هو أهم ناقد للشعر في المنطقة!". بتعرف يا ممدوحسهرَ عندي ذات ليلة، وكنا في مطلع الثمانينات، علي وممدوح عدوان وآخرون، وفي (عز السهرة) انتبهت إلى علي وهو يجول ببصره على الحاضرين واحداً واحداً، بعدها نادى ممدوحَ: "بتعرف يا عك... يا ممدوح أنك العلوي الوحيد حول هذه الطاولة". فجاءه رد ممدوح بسرعة البرق: "ومع ذلك أنا أكثرية".في سهرة ثانية حكى واحد من الحاضرين عن بلوغ عدد سكان سوريا تسعة ملايين ونصف المليون تقريباً، كما نشرت الصحف عن المكتب المركزي للإحصاء، فقال علي: "فيهم اثنا عشر مليون مُخبر". صاح ممدوح: "العمى كيف حسبتها والسكان أقل من عشرة ملايين". أجابه علي: "يعمل كثيرون مخبرين عند أكثر من جهاز(أمن طبعاً)!.لست في حاجة إلى التنويه بذكاء ممدوح وسرعة بديهته وخفة ظله.. فلقد خرجت من معرفتي بالاثنين علي وممدوح، برأي شخصي، أنه لولا الأول لازداد إنتاج الثاني الفكري بنسبة ثلاثين بالمئة عما أعطاه على غزارة إنتاجه.. أما الأسباب فلست في وارد شرحها...عن براءة الريف وجماله نعرف اهتمام علي بالشعراء الشباب الذين راحوا يتوافدون من قراهم إلى دمشق في ستينات القرن الماضي، وكان يحاول - إرشادهم- ما استطاع. وفي جلسة مع مشروع شاعر ريفي شاب، أصغى علي إليه وهو يمتدح براءة الريف والريفيين وصفاء الجو بحماسة، ولما أفرغ ما في جعبته فاجأه علي بقوله: "شُف يا فلان، والله إن الاستماع إلى نقرة كعب حذاء سيدة دمشقية على الرصيف أهم عندي وأجمل من ريفك كله".أبو معروف كان كثيرون من مثقفي (اليسار التقدمي الاشتراكي) يتخذون من مشرب أبي معروف في شارع العابد الدمشقي، محطة لا غنى عنها للتزود بالوقود الثوري لتحركاتهم وأفكارهم، وفي طليعتهم علي الجندي. مرَّ علي ذات مساء بأبي معروف لتناول كاس فاتح شهية قبل السهرة، وحكى لصاحب المحل: تغدينا اليوم أنا والعقيد غازي في المطعم... وشربنا زجاجة فودكا كاملة.. رد أبو معروف متهكماً: "نعم كأنك تقول إن راتب رئيس أركان الجيش وحاجبه المجند ألف وخمس ليرات.متى(يداوم)شَغلَ علي وظيفة (مدير أنباء) في أواسط ستينات القرن العشرين على ما أظن، وبعد أفول نجم (أصدقائه) في الأمن والجيش بقي في "عصمة" وزارة الإعلام إلى بلوغه سن التقاعد وفي زمن غاب عنه "الهاتف الجوال" ما كان الاتصال به مُتاحاً دائماً، كنت أسأل عنه في وزارة الإعلام التي احتلت قسماً من المبنى الضخم لجريدة البعث في طريق مطار المزة، وكان الصديق المشترك الراحل سهيل إبراهيم، المشرف على صفحة البعث الثقافية يرد على الهاتف ليقول لي: "علي ليس هنا..". مرة قلت لسهيل متى يداوم علي ؟ أجابني: "يحضر عادة في الثانية عشرة ويغادر في الثانية عشرة إلا ربعاً..".ثقافة الخلاف لا الاختلاف حكاية ترددتُ في تدوينها ولكن الظاهرة التي تشير إليها تستحق الإشارة. لمعتْ في ستينات القرن العشرين أسماء مثقفين ثوريين كثُر في دمشق منهم علي الجندي والشاعر محمد عمران والروائي حيدر حيدر وممدوح عدوان وغيرهم. وكنت على صلة بهذه البيئة برغم دهشة كثيرين وتساؤلهم كيف أتحمل علي الجندي بخاصة، دعوتُ ذات أمسية إلى بيتي ثلاثة من فرسان الثقافة الجديدة،علي ومحمد عمران وحيدر حيدر ومنذ بداية السهرة الودية بدأ" الحوار" حول مسألة ثقافية ما, غير أن الحوار أصبح جدلاً عنيفاً صاخباً، برغم عادية الموضوع، أوصل اثنين منهم إلى رفع السكاكين لا المصاحف، السكاكين التي كانت غير قاطعة مما طمأنني إلى النتائج، بخاصة وأن الأمر لم يتعد حدود رفعها كحركة رمزية تتماشى مع رمزية الشعر الحديث. رويت هذه الحكاية لأنها تشير إلى فقدان ثقافة قبول الرأي الآخر حتى من أصدقاء التيار السياسي الواحد، فكيف نطالب أفراد التيارات المتناقضة بقبول فكرة الحوار؟ أما قبول حق الآخرين في نقد آرائنا وقصائدنا ورواياتنا فلا تحلم به. أذكر في هذا الصدد هذه الحكاية، لما نُشرت" وليمة" حيدر حيدر أُعجب بها علي– مبدئياً – قبل أن يقرأها، وكانت ممنوعة في سوريا، وسألني مرات هل قرأت الرواية ؟ كيف أقرؤها وهي ممنوعة، إلى أن وجدتها في مكتبة دمشقية معروضة في مكان بارز، وفهمت أن" تهريبها" غير محظور. قرأت الرواية وقلت لعلي أظن أن نهاية هذا الفصل وذكرت رقمه ستثير عاصفة يوماً ما، واقترحت على علي أن نذهب مرة أخرى إلى زيارة حيدر في كوخه على شاطئ حصين البحر، وكنا زرناه مرتين قبلها ومرة لم نجده هناك، سألني علي لماذا تريد الذهاب ؟ أجبت لنحكي في الوليمة. قال لي" بدك تنتقدا ؟" قلت سأقول له رأيي بصراحة من منطلق" المونة" أذهلني علي بقوله" بيقًوسَك".. (أي يطلق النار ). هكذا في رأي علي ما سيكون رد حيدر على من ينتقد رواية، فما بالك بمن ينتقد الأعمال الكاملة.مع عبد المطلب الأمين:من لا يعرف الأديب الدبلوماسي المتصعلك صاحب الأبيات الشهيرة في حزيران 1967: لولا دمشقُ لما طارتْ قنيطرةُ...قضى عبد المطلب زمناً في بيروت، كذلك ثلاثة أخوة من آل الجندي، إنعام وعلي وعاصم.في أمسية ما كان عبد المطلب خارجاً من مشرب في الحمراء، فمر به علي، فقال عبد المطلب مساء الخير إنعام، فقال: أنا علي. رد عبد المطلب: تشابه علينا البقر...مع حسيب كيالي:لن أنسَ سهرة في بيت حسيب في دمشق قبل هجرته إلى دبي، كنا ثلاثة علي وأنا والداعي طبعاً، شعرت بمتعة الاستماع إليهما فور بدء السهرة، لأنهما كانا يتناوبان على إغناء الفكرة التي يقدمهما أحدهما... لم يتركا ميداناً لم يدخلاه.. الشعر والنثر والتاريخ والفلسفة والسينما العالمية والموسيقى الكلاسيكية، يتناول أحدهما نبذة من موضوع فيضيف الآخر ما عنده، وكنت أستمع وأستمتع بدهشة وإعجاب نادراً ما عرفتهما في حوار المثقفين.. كانا يتوهجان" ثقافة عامة" لكن الفودكا والويسكي كانا لهما بالمرصاد، برغم مقاومتهما الباسلة وصمودهما المعروف، راح وهجهما يخبو رويداً، وما عاد همهما تبادل كرة الأفكار لأنها أمست غير مرئية، وهكذا حملتُ من تلك السهرة صورة واقعية تضم نقيضَين.عندي حكاية ثانية ضمت بطليْ السهرة السابقة، وكانا معاً في عصمة وزارة الإعلام، علي كما أسلفت وحسيب في الإذاعة والتلفزيون، تسأله عن وظيفته فيجيب: مراقب لصوص – يعني كتبة النصوص.في يوم وحسيب يصعد السلم إلى مكتبه، التقى ممثلة شابة مشهورة وهي نازلة، فقالت له صباح الخير أستاذ، أحدثتْ هذه التحية أثراً فورياً ظهر في الزاوية التي كان يحررها في البعث بعنوان (صباح الخير) أو (حديث الصباح) عدتْ لا أذكر كما كان يقول حسيب. رد حسيب التحية بأحسن منها: أسعدَ اللهُ الصباحا كلما الزنبقُ فاحا واستراحا في قرارات المُهَجكلما قلبُ عنيفُ الشوقِ لَجّْ وابتهَجْأنتِ يا مالئةَ الدنيا دَهَشْلك حتى الوردُ بَشّْ....لما التقينا، حسيب وعلي وأنا راح علي يسخر من (شعرية) حسيب قائلاً: "هل يوجد شاعر في العالم يكتب (بَشْ) في قصيدة غزل؟ شُفْ لك شغل غير الشعر".شاعر ليس عنده ديوانه بعد أن ذاع أمر جوائز سلطان العويس، وتهافت المثقفون على نيل إحداها، اقترح الصديق المشترك وفيق خنسة على علي أن يتقدم إلى جائزة الإنجاز الثقافي فلم يبد حماسةً، وكنت على علم بالاقتراح، ولما أعاد وفيق الكرة اكتشفنا أن الشاعر ليس عنده أي واحد من دواوينه، وكان على المتقدم لنيل الجائزة إرسال ست نسخ من كل من أعماله المنشورة، وهكذا بدأنا نجمع ما لدينا من دواوينه واستعرنا بعضها و"صورناها" حدث الأمر قبل صدور الأعمال الكاملة، لكن شاعرنا لم ينل جائزة من أي نوع إلى اليوم، ولو بعد الوفاة، باستثناء (حفل تكريم) بالكلام أقامه فرع اتحاد الكتاب في اللاذقية مما سيأتي ذكره في مكان آخر.زيارة تستحق التنويه كدت أنسى حكاية أيام كان الدكتور رياض نعسان آغا وزيراً للثقافة في دمشق، بدأت الحكاية يوم اتصل بي الكاتب نجم الدين السمان وكان رئيس تحرير مجلة (شرفات الشام) أخبرني أنه في اللاذقية بانتظار وزير الثقافة لعمل ما وأن الوزير يريد زيارة علي الجندي وسيعيد الاتصال لترتيب الأمر.هالني النبأ، لأنني كنت على إطلاع بأوضاع علي في مسكنه البائس وحالته الصحية غير المرضية. مع ذلك حاولت ترتيب الأمر بمساعدة صديق مشترك اسمه الحركي (الماركيز) عرفني إليه علي نفسه قبل سنوات، وبذلنا بعض الجهد لإخراج الزيارة بشكل معقول قدر الإمكان، إلّا أن العراقيل وقفت في وجهنا من حيث لم نتوقع مما ليس هنا مجال حكايته. المهم جاء الوزير ومعه أمين فرع الحزب أو المحافظ -عدت لا أذكر- والمفاجأة كانت في عدسة التلفزيون التي لم نتوقعها.انحشر الجميع في (الزنزانة) أي بهو البيت، وجلس الوزير إلى جوار علي وأذكر أنه تكلم بحرارة وعفوية عن قيمة علي الشعرية، فالوزير متمكن من موضوعه كما لمستُه في كلمته المرتجلة يوم تكريم حسيب كيالي في إدلب (تموز2006 ) لما تكلم نحو عشرين دقيقة حلل فيها أدب حسيب دون أن يلحَن بكلمة واحدة، وها هو يعيد الكَرة وهو يحدث علي الجندي.في نهاية الزيارة وقفنا مع الوزير والشاعر وعدسة التلفزيون في أقل من مترين مربعين وفوجئت بالوزير يضع في يدي مغلفاً من الواضح أن فيه مبلغاً جيداً من المال...أجفلتُ لأن العدسة سجلت اللحظة وتحسباً لأي سوء فهم من المشاهدين الكرام مددتُ يدي فوراً وجذبت سترةَ علي ووضعت في جيبها الداخلي المليء بالهواء الطلق كالعادة المغلف على مرأى من العدسة.غير مهم كمية المال لكنه في زعمي المكافأة الوحيدة التي أعرف أنه نالها منذ التقيتُه، لقد تركت تلك الزيارة أثراً إيجابياً على نفسية علي وعلى صحته وأحواله.ــــــــــــــــــــــــــكنت في المرحلة الإعدادية لما بدأت أكتشف في مكتبة أبي المتواضعة مجلات مصرية ولبنانية، كانت واحدة منها تنشر حلقات عنوانها (تاريخ ما أهمله التاريخ) بتوقيع: حاء جيم، علمت في ما بعد أنه حبيب جاماتي، من يومها شَغَفتْني التفاصيل التي لا يهتم بها أحد لأنها غير مهمة... على ما يبدو.في البدء كان الصمتعلي الجندي وشعراؤهكان أبو لهب يترنم دائماً بأبيات انتقاها من شعراء آخرين، وسأحاول في السطور القادمة التنويه بما أعرف عن هذه (الظاهرة) تاركاً لمن يرغب استخلاص الانطباعات التي تناسبه.الغريب أنني لم أسمعه أبداً يردد جملةً لأي شاعر من شعراء الحداثة وما بعدها، إلا إذا كان يقرأ لواحد منهم.حديث المحبوبة والمطر احتلّ بيتان من الشعر مكانة خاصة بين ما كان علي يستعيده من شعر الأولين والآخرين، يعود البيتان إلى الشاعر أبي صخر الهُذلي، من العصر الأموي، عدّوه من الشعراء العذريين الذين لم ينالوا من الشهرة ما ناله غيرهم:وحديثُها كالقَطر يسمعُه (راعي) سنينَ تتابعتْ جَدبا ويصيخُ يرجو أن يكون حَياً ويَصيحُ من فرحٍ.. هَيا ربَّا..كانت متعة، سماع البيتين بصوت علي الرخيم، بخاصة وهو يمد هَيا رَبّا...حتى تظنه الراعي الجالس في خيمته يعاني شح المطر، فإذا جاءه الغيث لم يتذكر إلا صوت الحبيبة... ويحدثونك عن الحداثة...الخمر والهزيمة عرفت اللاذقية في منتصف القرن العشرين تماماً، شاباً متألقاً من مواليد (عين اللبن) وهي قرية في شمال اللاذقية، هو أحمد إبراهيم عبد الله.تخرج في المعهد العالي للمعلمين في بغداد، وعاد إلينا مدرساً للتاريخ في (تجهيزَي) البنين والبنات، أُعير إلى السعودية في الستينات وعانى جواً لم يألفه، وفي أمسية كئيبة كتب: يا حَبذا كأسٌ من العَرقِ في كُلّ مُصطبَحٍ ومُغتبَقِكأسٌ تُلَوّنُ وجهَ شاربها بملامحِ الإشراقِ والألقِوتُشيعُ في أرجائه قلقاً والعُمرُ لا يحلو بلا قلقِ والكأسُ مدرسةٌ فشاربُها جَمُ الثقافةِ واسعُ الأفقِأنا ما مررتُ على شواطئها إلاّ حلمتُ بنشوةِ الغَرقِ..لما سمعَ علي هذه الأبيات عَمَّدَ صاحبها (شاعراً) وصار يردّدها.وفي حزيران 1967 ارتفع بعد الهزيمة شعار إزالة آثار العدوان، ولما انتهى العام جاء بعض زملاء الأستاذ أحمد من دمشق ليسهروا ليلة رأس السنة، ودار حديثهم عن انقضاء عام الهزيمة.. وفي الصباح كتب (عام الهزيمة) التي وُئدت في مهدها، كما وئدت قصيدة بدوي الجبل الخالدة (من وحي الهزيمة) وقصيدة نديم محمد أيضاً وأيضاً.. هل ينبغي لي التنويه بكون الشعراء الثلاثة ولدوا في ثلاث قرى من ريف الساحل السوري؟ كتب الأستاذ أحمد: قالوا مضى عامُ الهزيمة وانقضى والشعبُ يرسِفُ في القيود ويرزحُ فأجبتهُم عامُ الهزيمةِ راسخٌ أنا لا أحسُ بأنه يَتزحزُحوبعد أبيات كلها سخرية سوداء يسطع هذا البيت: أقوى من النصرِ المبينِ هزيمةٌ لا شئ يُحزِنُ بعدها أو يُفرِحُ وفي مطلع السبعينات أُقيم مهرجان (انفتاحي) للشعر في دمشق دُعي إليه بدوي الجبل وعمر أبي ريشة ونزار قباني وكان الجواهري ضيف الشرف، وكان صدقي إسماعيل رئيس اتحاد الكتاب الذي نظم المهرجان -وهو مؤسس جريدة الكلب- فاقترحتُ عليه بصفتي محرراً تحت التمرين في الجريدة، إصدار ملحق خاص بالمهرجان، فوافق وطلب مني الاتصال بأستاذي أحمد إبراهيم مراسل الجريدة في اللاذقية للإسهام في العدد، وهكذا كان، وجاءتنا مقطوعة لاذعة يضيق المجال عن ذكرها، منها:في بلادي والشعرُ فيها عقيمُ صار للشعر مِهرجانُ عظيمُمهرجانُ هَزَ العروبةَ حتى لتنادتْ بالخوف منه (التخومُ)مهرجانُ حرب.. فشعر دفاع كان يُلقى فيه وشعر هجومُ (...)أنا بالبعثِ مؤمن فانظُروهُ كيفَ أحيا العظامَ وهي رميمُ في بناءٍ من حقهِ التهديمُ ليسَ يُجدِى الإصلاحُ والترميمُ...وهكذا صار البيت الذي أحيا العظام لازمة دائمة عند علي الجندي، ونتيجة لهذه النماذج كان علي يُسِرُّ لي: أحمد (أشعر) من صدقي.ليس في نيتي الآن البحث في (موضوعية) رأي علي، لأنني سأعود إلى العلاقة بين رئيس اتحاد الكتاب: صدقي، وعضو في أمانة السر أو غيرها، علي، عندما أحكي عن صورة أبي لهب في جريدة الكلب، بعد قليل...نديم محمد كان لنديم محمد صديق أثير، يكادان لا يفترقان هو المحامي عبد الله العبد الله، لكن هذا الصديق تُوفي فجأة فكتب نديم واحدةً من أكثر قصائده (جودة) في رأي علي على الأقل، لأسباب تبدو جلية في القصيدة.. وهي طويلة لكن أبا لهب التقط منها ما وافق هواه وهوايته، وهذه هي الأبيات التي كان يرددها دائماً:ياسميري ونحنُ روحان في الخمر سواء صباحُنا والمساءُ هَيءِ الكأسَ وأملأِ الأفقَ بالشعر.. ولبيكَ كلُنا إصغاء (...)لا تَلُمني على البقاءِ برغمي فملوم على البقاء البقاءُ (...)وغداً عندماً أضيعُ من السُكِر ويُمحَى في ناظريَّ الضياءوأرى باليدين مايشبه الناسَ وماخلْتُ أنها أشياءُ (... )أين مِنا إذا تعاوزنا السُكرُ وتُهنا.. الملوكُ والأمراءُ ما كان علي يردد هذه الأبيات بالترتيب الذي جاءت به في القصيدة، بل كما تُسعفه الذاكرة أو المزاج. وللموضوعية (الأكاديمية) كان يُبدل بعض المفردات أحياناً فكان يقول: يا صديقي ونحن روحان في الخمر وتعيا بذكرنا الأسماءُ وفي بيت آخر: لا تلُمني على البقاء برغميِ ( فملومُ من دونهِ الإبطاءُ)هذه هِنات بسيطة أعترف بأني حفظتها كما كان علي يرددها، ولما استعنت بصديق عنده القصيدة اكتشفتُ أن الذاكرة تؤدي دوراً سلبياً ما في تناقل الشعر شفهياً.المتنبي عدتُ لا أذكرُ كم من المرات سمعت علياً يردد هذا البيت: "يقولونَ لي ما أنتَ في كلِّ بلدةٍ وما تبتغي". العجيب أنه يتوقف في كل مرة عند – ما – ويسهب في شرح رأيه بسبب إغفال المتنبي ضمير العاقل – من – ولجوئه إلى ما.. وأذكر بيتاً كان علي يُكثر من استعادته: "زَودِينا من حُسنِ وجهكِ ما دامَ ... فحُسنُ الوجوهِ حال تحولُوصِلينا نصلْكِ في هذه الدنيا ... فإنَّ المقامَ فيها قليلُ".مع بدوي الجبل أبدأ بهذه الحكاية. نادراً ما شوهد بدوي الجبل في المقهى، غير أنه حضر إلى مقهى الروضة الدمشقي وبصحبته نجله منير، وكان علي الجندي هناك فتوجه إلى تحية البدوي الذي مازحه بشأن الشعر الحديث الذي كان ينتشر في تلك المرحلة وأظنها بداية الستينات وكيف ضاعت الأوزان، فالمحَ علي إلى بيت شهير كان البدوي قد كتبه قبل عشر سنوات: "أنا أبكي لكلِ قَيدٍ فأبكي لقريضي تغلُّهُ الأوزانُ"فابتسم البدوي قائلاً: أيها الانتهازي الجميل، أغلب الظن أن أبا لهب كان يعرف رأي البدوي الفعلي في الجدل الدائر، وأنه لا وجود لشعر قديم أو حديث شعرياً لا زمنياً، هناك شعر أو لا شعر.أقفز الآن إلى أواخر تسعينات القرن الماضي، أيام كنت في كسب، وكان علي قد أمسى لاذقي الهوى، فهاتفتُه ودعوته إلى قضاء نهاية الأسبوع عندي فلبى وقضينا وقتاً ممتعاً.في أول سهرتنا جلسنا على الشرفة والجو (شعري) بامتياز وساد بيننا صمت كنا نتذوق فيه عذوبة الجو، فوجئت بعلي يسألني عندك ديوان بدوي الجبل.. فجئته به وكانت زجاجة الفودكا (ستاليشنايا سعة لتر للدقة) تكاد لم ينقص منها شئ.قال لي افتح الديوان على قصيدة الأشعث الجَوَّاب ففعلت، وطلب مني قراءتها متمهلاً بيتاً بيتاً، وهكذا رحت أقرأ البيت وأستمع إليه وهو يتذوقه ويحكي فتزيد متعة التذوق، وأذكر أنه استرسل عند البيت الخامس:"وسدْتُكَ الُيمنى لعليَ في غَدٍ ... أرِدُ الحسابَ ووجنتاكَ كتابي"وكان الليل يمضي على وتيرة تلاوة القصيدة متمهلاً ومعه الفودكا، وفي الهزيع الأخير منه كنت قد تلقيت محاضرة مدعمة بالأمثلة عن كيفية تذوق الشعر ألقاها شاعر حقيقي مستعيناً بشاعر عظيم كوسيلة إيضاح.لا تبرح تلك السهرة خيالي، ذلك أن الشاعر في أهاب علي (غير الشعري) مظهراً ربما، يعرف أين يكمن الإدهاش والشعرية في قصائد غيره من الشعراء، ولعل النماذج التي قدمتُها على قلتها واختصارها تشير إلى شئِ ما في هذا الاتجاه.أود إضافة هذه الوخزة التي قد تؤلم أكثر من" شاعر" من محبي"الجندي الباسل".أحتفظ في الملف الذي كنت أحضره عن شاعرنا الراحل، بمقال نشرته أسبوعية (جيش الشعب) السورية بقلم علي عنوانه: (لا أحترم ثورياً يتغنى بشعر شوقي وصوت أم كثلوم). بوسع من قد يُغضبهم تطرفُ شاعرهم، ألا يُدرجوا أنفسهم في عديد الثوريين، وهم قِلةُ غالباً، وينضمُوا إلى الكثرة لكي يتمتعوا باحترام شاعرهم وهو احترام غير مضمون لمن يعرف أبا لهب عن كثب.على الجندي في (جريدة الكلب)يا ناشر الضوضاء في البَلدِينبغي لي، احتراماً لأصول البحث (الأكاديمي) تقسيمه إلى مرحلتين، إحداهما في حياة مؤسس الجريدة والثانية بعد رحيله المبكر في خريف 1972.أولاً في حياة صدقي إسماعيل مؤسس الجريدة.لم تتوقف الجريدة عن ذكر علي الجندي كما لم تتوقف عن الصدور إلى اليوم.انتمى صدقي وعلي إلى جيل واحد وإلى تيار سياسي وثقافي واحد"اليسار القومي التقدمي الاشتراكي" لكنهما ما كانا دائماً على انسجام، ولقد أدّى كل منهما دوراً ما في المرحلة التي سبقت وصول" البعث" إلى السلطة وفي خضمها، وكان حضورهما ملموساً، كما أفلَ نجماهما بالتزامن تقريباً، حيث غيبَ الموت صدقي مبكراً، وسُحب علي من التداول سياسياً في مطلع السبعينات، وإن احتفظ دورُه الأدبي بآثار من (مجده) الغابر.شهدتْ مرحلةُ وجود صديقينا في رئاسة اتحاد الكتاب معاً، عدداً لا بأس به من (عَضّات) الجريدة الساخرة التي كان يحررها صدقي في أوقات فراغه، لعلها أدت دوراً في التنافر بينهما، ولو كانت أوراقي في متناولي لنَوهتُ بها كلها التزاماً بالمنهجية (الأكاديمية). في هذه المرحلة يوم صدور ديوان علي: (في البَدء كان الصمتُ). رحبتْ جريدة الكلب بالديوان فكتب رئيس التحرير:"في البدءِ كان الصمتُ فاتَئدِ يا ناشرَ الضوضاء في البَلدِفكّرْ وأنتَ اليومَ مُنفلتٌ ماذا تقولُ غداً وبعدَ غدِمن سُنة الشعراء أنهمُ يحيَون يومياً مع الأبَدِ."اختار علي مناكفةَ (العهد العتيق) القائل: "في البدء كان الكلمة". كثيرون يظنونها: "كانت" لكن الكلمة هنا ترمز إلى الإله (والمدهش أن الصمت يتولد من الأدب والحكمة، مما يُثري العنوان)... أما أنا فإنني أُفضِل صيغة جاء بها الروائي الفرنسي (سيلين) الذي كتب بحثاً عنوانه: "في البدء كان الانفعال".تحضرني مقطوعة كلبية ثانية كان هدفها شاعرنا العزيز، ما عدت أذكر المناسبة التي قيلت فيها، مع أن جريدة الكلب كانت (تعضّ) أحياناً من دون مناسبة.يُخيل لي أن القصيدة التي حرصتُ على تقديمها كاملة لها أهمية (الأنموذج) لما هو عليه (النقد الأدبي) في الكلب.. نظرة ساخرة من زاوية غير متوقعة وخفة ظل تولد الابتسام – إن لم تسبب الضحك – كما كان يفعل حسيب كيالي في نقده الساخر للكتاب الذين صاروا مبدعين فحسب.. كان صدقي في هذه القصيدة يقول لعلي: "أنت في البال" أو في عقلي الباطن، أؤكد أنني لن أغامر بتفسير نوايا الأستاذ صدقي إسماعيل نحو صديقه (اللدود)، لكن معرفتي (بالجو) الذي ظهرت فيه القصيدة تتيح لي بعض الحرية في التأويل:"في الليل تَضطجعُ القصيدةُ كي تنامَ على القوافي وتُهدهِدُ الأحلامُ غفوتَها ووزنُ الشعر دافي وبلاغةُ المعنى تُغطيها بشئٍ كاللحاف تُغني البيانَ وسمكُهُ الفنيُّ دوماً غير خافيأما علي الجندي وهو حصيلةُ السبع العجافِ*فالشعرُ بين يديهِ منتوفُ وعريانُ وحافيأرِقُ تراهٌ من الصقيعِ يظلُ مُزرَقَّ الشفاِفوتراهُ من (حمىَّ التراب) العنكبية في ارتجاف**تفعيلة سكرانةُ الإيقاعِ ضائعةُ الضفافِمن بَعدها الفعلُ المضارعُ يستجيرُ من الزحافِوعليُ في ترويض جادتها يقومُ بما يُنافي مهلاً أبا لهبٍ لقد عجَّلتَ في جَني القطاف لا شيءَ ينضجُ قبلَ أن يأتي أوانُ الاصطيافِمِن أجل عنقودٍ يُعاني الكَرْمُ صيفاً من جَفافِوالشعرُ مثلُ النَبْع لا ينَساب إلا وهو صافي لو لم تكنْ بالطَبع فناناً.. ويلزمُكَ اعترافي ولديكَ مَوهبة مُسجلةُ برغم الانحراف لأراكَ في فَن الهجاءِ الكلبُ أعظمَ اكتشافِوعلى هجائكَ في المحافلِ كلّها ما من خِلافِ".* السبع العجاف: كانت سبع سنوات قد انصرمت على وصول البعث إلى الحكم في 1963.** (الحمّى الترابية): عنوان ديوان لعلي الجندي.عن جان جينيه وعلي الجندي و(الكلب)حدَث مهم أن يزور جينيه دمشق، جاءها وهو في طريقه إلى لقاء الفلسطينيين في الأردن، في أواخر خريف 1970، وربما كنتُ الوحيد الذي عرف موعد حضوره وأسبابه.كنت ألتقيه كل مساء في مقصف مطل على حديقة الجاحظ، لاحتساء كأس بيرة والرد على استفساراته المتصلة برحلته وغير ذلك من مواضيع راهنة.أخبرت أبا لهب بوجود الكاتب المهم، فعزم على زيارته في الفندق، وحكى لي بعدئذ أنه ذهب مساء ومعه سعدالله ونوس واستقبلهما جينيه في غرفته، وطلب من إدارة الفندق ما يقدمه لهما فاعتذرتْ لأن الليلة فيها مناسبة دينية لعلها رأس السنة الهجرية حيث يُحظر الخمر، ولما فهم جينيه السبب انهال تقريعاً على هذه الدولة الإشتراكية التقدمية التي ينتميان إليها.حكى لي علي أيضاً بعض ما دار في السهرة، وأن سعد الله سأل جينيه هل صحيح أنك من المثليين جنسياً؟ فابتسم وربتَ على ركبة السائل قائلاً: "لا تخف يا فتىJeune Home) ) على نفسك فأنا في السبعين".سألني جينيه في اليوم التالي: "ماذا يعني اتحاد الكتاب؟" فأجبته بما هو معروف فقال لي: "هل (يتَّحد) الكتاب عندكم ليكتبوا؟ اعلم أن الكاتب وحيد بخاصة عندما يكتب لذلك لن أذهب". سألته: "إلى أين؟" أجاب بالأمس دعاني السيد الجندي وهو من الاتحاد لكي التقي بالكتاب السوريين في الثامنة مساء اليوم. لم يقل لي علي إنه دعاه.جاء كبار المثقفين السوريين أملاً بلقاء الكاتب الشهير الذي لم يحضر، فامتعضوا وأولهم رئيس الاتحاد الأستاذ صدقي إسماعيل، الذي حمّل المسؤولية لعلي، ولم يكتف بذلك بل عمد إلى كتابة ملحق خاص للعدد102، من الكلب لشهر تشرين الثاني1970، ضمنه نقداً عنيفاً ساخراً لم أقرأ مثيلاً له من أول معرفتي بالأستاذ صدقي، بخاصة مطلع (القصيدة) التي تناول فيها أبا لهب بشدة مما لن أعيده هنا، كما تناول جينيه نفسه أيضاً:"كيفُ تَدعو الكٌتابَ من أجل شخصٍ باسمهِ الموبقاتُ دَوماً تُعَدُفهو لص ومجرم وسفيه قصدُنا أنهُ لمثلكَ نَدُوبغي في الجنسِ يحُكى عليه كلُ شيُءٍ.. وما على الحكْيِ رَدُ"ثم يكر صدقي ثانية على علي، بعد أن أصابتني بعض الشظايا:"يا دَعِيَ التجديد في الشعر والنثر ونقْد السماء.. ما أنتَ بَعدُ ؟ لستَ شيئاً برغم أنك شيء دون معنى والقصْدُ ما فيكَ قَصدُ".أغاظ النقدُ أبا لهب فكتب رداً موزوناً مُقفى يشبه قصيدة حسيب كيالي ذات (بَشْ) الشهيرة، قرأها لي وأحتفظُ بالنسخة الوحيدة لها، وهي الآن في دفتري المتضمن ما كتبَتْه الكلب عنه تمهيداً لإصدار ملحق خاص في ذكرى رحيله، أذكر أن عنوان قصيدة علي: (إن نَبحْتُم عَلَي أرتجلُ القَولَ).أتى صدقي على ذكر عليّ في الكلب نحو عشر مرات، تحمّلها على مضض.. يفسر هذا المضض ما كان علي يعيده على مسمعي من أن هذا النوع من (الشعر) الساخر الذي يكتبه صدقي لن يُكتب له البقاء، وكنت لا أتفق معه في ما ذهب إليه، وأقول له أتوقع له البقاء أكثر من الشعر الوقور، بما في ذلك الشعر الوقور جداً واسع الانتشار في ما بعد بعد الحداثة. بخاصة إذا جاء يوم يتاح له النشر (بلا رقابة على الكلب إلا رقابة الضمير).على أية حال، فإن حكاية زيارة جان جينيه دَونتُها في الكتاب الذي أعدَه د. مالك سلمان أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة تشرين: (جان جينيه – شعرية التمرد) ونشرته دار كنعان في دمشق 1998.p.S تصورتُ أبا لهب المعجب ب ( ما ) المتنبي وقد تضاءل غيظه من نقد جريدة (الكلب) لأن صديقه (اللدود) قال له: "ما أنت بَعدُ؟" مع هذا فأنا لن أغامر في تأويل ما المتنبي وما صدقي إسماعيل لاكتشاف دلالة كل منهما لجهلي (بفقه اللغة)، هذا إذا كانت المسألة تنتمي إلى هذا المجال.علي الجندي في جريدة الكلب: (نَرجسي (ماركسي) مؤبد الإفلاس)رحل صدقي إسماعيل في الهزيع الأخير من أيلول1972، قبل بلوغه الخمسين وقبل علي بنحو ربع قرن، من دون أن يتوقعا استمرار الكلب في (الصدور) -أشير إلى أن مفردة صدور هنا ذات معنييَن- بمحرر آخر هو صديق (ودود) لعلي بعد الصديق (اللدود) الراحل، وأن هذا المحرر سيبقى أميناً – قدْر المستطاع – لنهج المؤسس في تناول (الأدباء) ناهيك عن غيرهم ممن تهتم بهم وسائل الإعلام أكثر من أي شئ آخر.أتى المحررُ الجديد (للكلب) على ذكر علي الجندي في مناسبات عدة موزعة على أعداد الجريدة وهي ليست في متناولي الآن، لحسن الحظ، مما يختصر صفحات من هذا (البحث) الطويل. لذلك سأكتفي بحكاية واحدة بقيت منها شذرات في ذاكرتي، تعود إلى مطلع الألفية الجديدة، يوم قرر فرع إتحاد الكتاب العرب في اللاذقية (تكريم) الشاعر المعتكف فيها، وانتقى المتكلمين في الحفل وكنتُ منهم، اعتذرت لأكثر من سبب، فليس في جعبتي غير (الكلبيات) التي لا تنسجم مع وقار المناسبة، لكن الجهة الداعية ألحت بصفتي من أصدقاء (الفقيد).بدأ الحفل بكلمة الدكتور سامي الجندي شقيق الشاعر، أوقفها على (نضال) آل الجندي وفضائلهم وأسهب في التنويه بالبيئة التي وُلد علي فيها وترعرع. كنت أجلس إلى جوار علي الذي لم (يتأثر) بما يقال فهمس في أذني: "عن مين عم يحكي هادا"؟جاء دوري فبدأت (بالاعتذار) عن قلة وقار ما سأقوله، وسرحتُ في ما قاله مؤسس الكلب عنه كمناورة تشتت الانتباه عن إسهامي بعدئذ في الموضوع، منها النماذج التي قدمتها آنفاً.. وزعمتُ: إمعاناً في التنصل من تبعات (النقد الساخر) أن مجلة أدبية مغربية حديثة الصدور طلبت من مراسلها في سوريا تعريف قرائها بالشعراء السوريين، فوافاها بهذه (الرسالة) عن علي الجندي، لم أذكر اسم المجلة ولا أسم مراسلها، ذلك أن النقد الساخر في حضور (المنقود) يسبب الحرج. وهكذا بدأت أتلو افتتاحية أحد أعداد (الكلب) التي مازحتُ فيها صديقي الحميم ما زلت أذكر مطلعها: "شاعر يعشقُ الشآم كبايرون عندما كان يعشق الحريةْعاشَ فيها مشرداً ربع قرنٍ لم يدع في دِنانها من بقيَةْبَدويٌ بلا عِقالٍ تهادى في حواري القصاع والصالحيَّهْوهبَ الخمرَ والنساءَ لياليهِ وخَلّى نهارَه للقضيةْليس كل النهار.. فهو نؤومْ يبدأ اليومُ عنده في العَشيةْ".فوجئت باستيقاظ جمهور القاعة الذي صفقَ بحماسة وكانت قاعة المركز الثقافي تمتلئ دائماً فالدعوة من فرع منظمة شعبية، وبرعاية أمين فرع الحزب وحضوره.مررتَ في محطات كلبية أخرى لم يبق في ذاكرتي منها إلا هذه (المقطوعة):"لا تسَلْني عمَنْ يحبُ الكراسي فهي حتماً تضيقُ بالجلاّسِ أنتَ لم تنجذبْ كثيراً إليها يا (مديرَ الأنباءِ).. إن كنتَ ناسي سَلْ كراسي مقهى الشآمِ جميعاً ومقاهي طرطوس والميماسِ هل رأتْ في حياتها نرجسياً ماركسياً مؤبدَ الإفلاس؟"أُعجب الجمهور بالأبيات أيضاً مما استثمرتُه للتمهيد للانسحاب بمقطوعة أخيرة لم أعد أذكر منها إلاّ البيتين الأخيرين:"كانت الشامُ جَنةً لعلي أيكون الجحيمُ في اللاذقيةْ؟ألف كلا.. فنحنُ والبحرُ نرجو لعليٍ سعادةً أبديةلا بد أنه يستمتع بها ولكن في السَلمْيَة".ملحوظة: تساءلتُ عن حقيقة مشاعر جمهور يحضر تكريم شاعر فلا يتجاوب مع الكلام الجاد الوقور، لكنه يصفق لمن (يمازح) الشاعر كي لا أقول كلمة غيرها.الطبل والشعر والتدخينكلما ملأتُ صفحة بهذه الهَبْرَمَة في ذكرى رحيل علي الجندي، ازددتُ يقيناً من أن الملف (الكلبي) الخاص الذي اعتزمت إعداده لن يصدر، لذلك أضفتُ حكايةً تعود إلى ربيع1981 أنجبتْ عدداً فريداً من (الكلب) تصدرتْه صورة للشاعر الجميل يتجلى فيها وجهه الذي يستحق صفة photoGenique)) الفرنسية التي لا أعرف ما يماثلها في العربية.(وهي في الفرنسية: الشخص الذي تعطي صورتُه تأثيراً حَسناً، وهي أيضاً من يبدو في الصورة أجمل منه في الواقع).بدأت الحكاية يومَ تلقيتُ هدية من صنف جديد من السجائر ومعها كمية من القبعات والقمصان تحمل اسم الصنف للترويج. وكنت أعرف اهتمام علي به وأنه كان يجد صعوبة في الحصول عليه، فاتصلت به لكي يحضر مساء مع ممدوح عدوان لأمر يهمه.جاء الصديقان وأخبرتهما بأمر الهدية فانفرجت أسارير علي لما شاهد الكمية وما معها.زعمتُ لهما أن (الجهة المانحة) تسعى إلى ترويج الصنف الجديد ورصدتْ للأمر بعض المال.وأقنعُتْ أبا لهب بارتداء القبعة ووضع القميص على صدره بينما يمسك به ممدوح لكي لا يسقط، لأقوم أنا بالتصوير وإرسال الصورة إلى المانح الذي لابد له من القيام بما عليه، بخاصة وأنه يعرف الشخص صاحب الصورة. وهكذا نفذتُ الاقتراح وحصلت على صورة أظنها من أجمل صوره التي أعرفها، وأكملنا سهرتنا ونحن نضحك مستبشرين بمستقبل مضمون من حيث السجائر على الأقل، بفضل منافستنا غير القانونية للمؤسسة العربية التي تحتكر الإعلان، والتي لن يخطر ببال مصممي إعلاناتها مثل هذه الخاطرة.غداة سهرتنا تأملتُ الصور فجاءتني فكرة (كلبية) خبيثة، وسارعت إلى كتابة افتتاحية العدد الذي كان على وشك الظهور، للتعريض بإفلاس شعراء (الحداثة) من ناحية السجائر طبعاً. وجدت العدد الخاص /نيسان 1981/ والصورة فيFLASH قديم مما أغراني بإضافته إلى هذا الملف.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اللاذقية- أيلول - 2015