آخر الأخبار

تقرير مجموعة الأزمات الدولية حول سوريا(1)

لقد شكلت الانتفاضة السورية تحدياً للتوقعات والأنماط التقليدية التي تأسست في بلدان أخرى في المنطقة منذ البداية. أولاً، لقد حدثت، وهذا بحد ذاته كان مفاجئاً بما فيه الكفاية للكثيرين. لم يكن النظام وحده هو الذي يعتقد بشكل من الاستثنائية السورية التي ستحميه من الاضطرابات الشعبية الخطيرة. حتى عندما بدأت الانتفاضة، فإنها لم تتطور بسرعة، كما في مصر أو تونس. ورغم أنها لم تبقى سلمية، فإنها لم تنزلق إلى حرب أهلية عنيفة، كما في اليمن، أو إلى نزاع طائفي، كما في البحرين. وحتى هذا اليوم، فإن الحصيلة تظل موضع شك. لقد تنامى حجم المظاهرات بشكل كبير غير أنها لم تحقق كتلة حرجة بعد. لقد تراجع التأييد الذي يحظى به النظام مع ازدياد وحشية الأجهزة الأمنية، غير أن العديد من الشرائح لازالت تفضّل الوضع الراهن على مستقبل غير أكيد ويحمل احتمالات الفوضى. غير أن الأمر الواضح هو الدرجة التي تحوّل بها طيف واسع من الشرائح الاجتماعية، والعديد منها كانت من دعامات النظام، ضده وكيف أن العلاقات بين الدولة والمجتمع تغيّرت بشكل كامل.

لقد تمثل الخطأ الأول للنظام في التعامل مع الاحتجاجات بتشخيصه الخاطئ لها. ليس من الإنصاف القول بأن النظام لم يفعل شيئاً رداً على العلامات الأولى على الاضطرابات؛ فقد أصدر عفواً عاماً وأطلق سراح عدد من منتقديه البارزين، وصدرت تعليمات للمسؤولين بإيلاء شكاوى المواطنين قدراً أكبر من الاهتمام، وفي عددٍ من المناطق اتخذت إجراءات لتهدئة السكان الغاضبين. إلا أن النظام تصرّف كما لو أن كل اضطراب كان حالة معزولة تتطلب رد فعل موضعي بدلاً من اعتبارها جزءاً من أزمة وطنية يمكن أن تتعمق ما لم تحدث تغييرات جذرية.

خلال العقد الماضي، ساءت الأحوال بشكل كبير بالنسبة لمعظم شرائح المجتمع. ظلت الرواتب مجمدة إلى حدٍ كبير حتى عندما ارتفعت تكاليف المعيشة بشكل حاد. وألحقت السلع المستوردة ضرراً كبيراً بالمصنّعين الصغار، خصوصاً في ضواحي العاصمة التي تقطنها الطبقة العاملة. وفي المناطق الريفية، تصاحبت الصعوبات التي أحدثتها عمليات تحرير الاقتصاد بالجفاف. وأدى الإهمال والإفقار الشديدين للأرياف بنزوح أعداد كبيرة من السوريين المُهمّشين إلى المراكز القليلة للنشاط الاقتصادي. شهدت مدنٌ مثل دمشق، وحلب وحمص نمو ضواحي متناثرة استوعبت المهاجرين الريفيين. أعضاء الطبقة الوسطى من الموظفين الحكوميين، الذين وقعوا بين تدنّي الرواتب، ورفع الدعم عن السلع وتضاؤل الخدمات من جهة وارتفاع النفقات من جهة أخرى وبالتالي دُفعوا خارج مركز المدينة باتجاه الحزام غير المتطور المحيط بدمشق. وقد جعلت غطرسة وجشع النخبة الحاكمة هذه الورطة أمراً لا يحتمل. وفي هذه الأثناء، فإن الوعود بالإصلاحات السياسية لم تتمخض عن شيء على الإطلاق.

لقد ساد الجزء الأكبر من هذه الظروف منذ فترة من الزمن، إلاّ أن السياق الإقليمي جعل الوضع مختلفٌ تماماً. لم يكن واضحاً تماماً أن رؤية الجمهور السوري للأمور كانت تتغير كرد فعل على الأحداث الواقعة في أمكنة أخرى، غير أنه كان هناك علامات على ذلك؛ فقبل بداية الاضطرابات الجدية في منتصف آذار/مارس 2011 بوقت لا بأس به، كان يمكن الشعور بأثر الاضطرابات الإقليمية في سلوك السوريين العاديين. في مجتمع لم يكن مُسيّساً منذ وقت طويل - أو فُرض عليه عدم التسييس - فإن النقاشات العابرة بدأت وبشكل مفاجئ تتخذ طابعاً سياسياً. ما كان النظام يفعله دون أي شكل من أشكال المساءلة بات موضع تدقيق شعبي نقدي ومكثّف. وبدأت تعبيرات خفيفة وحذرة عن التمرد بالظهور. وبدأت أشكال المضايقة والابتزاز التي كان الموظفون الحكوميون يمارسونها بشكل روتيني في السابق ودون احتجاج يُذكر، بدأت بمواجهة مقاومة غير عادية من قبل المواطنين العاديين الذين اكتسبوا قدراً أكبر من الجرأة مما كانوا قد شاهدوه في تونس، ومصر وأماكن أخرى. وعلى نطاق أوسع، فإن السوريين - الذين يحبون أن يتخيلوا بأنهم في طليعة العرب - باتوا يشعرون على نحو متزايد بالإحباط نظراً لأنهم ظلوا على هامش التاريخ في وقت كانت أجزاء كبيرة من المنطقة تشهد حالة نهوض.

النظام، الذي اتخذ خطوات محدودة لتهدئة السكان والتقرب منهم، قام أيضاً بعملية قمع وحشية وغير تمييزية في كثير من الأحيان. كان يمكن لذلك أن ينجح في الماضي. أما في هذه المرحلة، فإن ذلك كان كفيلاًً بتوسيع حركة الاحتجاجات وامتدادها على مساحة البلاد. في كل مكان انطلقت فيه الاحتجاجات، أدى الاستعمال المفرط للقوة إلى توسيع نطاق التحركات مع انضمام الأقارب، والأصدقاء، والزملاء وغيرهم من المواطنين الذين باتوا يشعرون بالغضب الشديد من سلوك النظام إلى هذه التحركات. الأسوأ من ذلك هو أن إستراتيجية النظام المبنية على الإنكار والقمع كانت تعني عدم قدرته على مواجهة التبعات الاجتماعية والسياسية المترتبة على أعماله والتي كانت تحقق تأثيراً عكسياً.

أخطأ النظام أيضاً عندما حاول أن يوصّف أعداءه. تزعم السلطات السورية بأنها تحارب مؤامرة إسلامية تحظى برعاية أجنبية في حين كان يشن حرباً ضد قواعده الاجتماعية الأصلية. عندما وصل نظام الأسد الأب إلى الحكم، كان يجسّد الأرياف المهملة، وفلاحيها وطبقاتها المُهمّشة والمستَغلة. أما النخبة الحاكمة اليوم فقد نسيت جذورها. لقد ورثت السلطة ولم تقاتل من أجلها، ونشأت في دمشق، واختلطت بالشريحة العليا من الطبقة الوسطى، وحاولت تقليدها وقادت عملية تحرير اقتصادي عادت بالفائدة على المدن الكبرى على حساب المحافظات الأخرى. تخلت الدولة عن شرائح من الشعب، وتعاملت معها على نحو متزايد من خلال الأجهزة الأمنية الفاسدة والمتغطرسة. لا شك أن هناك تياراً تحتياً إسلامياً لهذه الانتفاضة. إلاّ أنه نتاج عقود من الإهمال الاجتماعي والاقتصادي الذي مارسه النظام وليس انعكاساً لمؤامرة خارجية يقوم بها أصوليون متدينون.

صحيح أن المناطق التي تتركز فيها الأقليات بشكل أساسي كانت بطيئة في الانضمام للانتفاضة؛ كما أن دمشق وحلب ظلتا هادئتين نسبياً، كما ظلت شريحة رجال الأعمال متحفظة وحذرة. غير أن الولاء الذي كانت هذه الشرائح تحسّ به تجاه النظام في الماضي بات عرضة للخطر منذ بعض الوقت. لقد عانى معظم هؤلاء، بشكل أو بآخر، من الممارسات الجشعة للطبقة الحاكمة التي دأبت وعلى نحو متزايد على التعامل مع البلد وكأنه ملكيتهم الخاصة. حتى العلويين، وهي أقلية تنتمي إليها العائلة الحاكمة والجزء الأكبر من العاملين في الأجهزة الأمنية، أصبح لديهم ومنذ وقت طويل ما يبرر الشكوى والتذمر والغضب من رؤية نخبة تضيق حلقة أعضائها بشكل مستمر ولا تبدي اكتراثاً بإعادة توزيع الثروة على أبناء الطائفة التي تنتمي إليها.

وهذا يترك الأجهزة الأمنية، التي يعتقد العديد من المراقبين بأنها تشكّل الورقة الأخيرة للنظام. لا ينطبق هذا على الجيش النظامي غير الموثوق به من قبل النظام والمفرَغ من محتواه والذي تراجعت معنوياته منذ وقت طويل، بل على وحدات مثل الحرس الجمهوري ومختلف فروع الشرطة السرية التي تُعرف بشكل عام بالمخابرات والتي تتكون طواقمها بشكل أساسي من العلويين. ويبدو أن النظام نفسه يتبنى وجهة النظر هذه، وقد أرسل قواته للانخراط في عرض شرس للعضلات، كان يرقى في بعض الأحيان إلى العقاب الجماعي. لا شك في أن هذه القوات خدمت النظام جيداً على مدى السنين؛ وفي الشهور الأخيرة أيضاً لم تظهر أية رحمة في محاولاتها لسحق حركة الاحتجاجات.

غير أنه في هذا المجال أيضاً يمكن للمظاهر أن تكون خادعة. فمنذ بداية الأزمة، كان العديد من أفراد قوات الأمن يشعرون بعدم الرضا وبالرغبة في التغيير؛ فمعظمهم يتقاضون رواتب متدنية ويعملون لأوقات طويلة ويظهرون استياءً من الفساد على المستويات العليا. لقد رصّوا صفوفهم خلف النظام، رغم أن هذا لم يكن مدفوعاً بالولاء بقدر ما هو نتيجة للمنظور الطائفي الذي يرون من خلاله حركة الاحتجاجات وأيضاً نتيجة ظهور آلية دفاعية لدى الطائفة. هذا إضافة إلى أن الوحشية التي لجأ إليها العديد منهم يمكن أن تشجعهم على الوقوف خلف النظام خشية العمليات الانتقامية ضدهم في حال انهار النظام.

إلاّ أن غريزة البقاء الطائفية التي يعتمد عليها النظام يمكن أن تؤدي إلى مفعول عكسي. قد يكون معظم المتشددين داخل الأجهزة الأمنية مستعدون للقتال حتى اللحظة الأخيرة. غير أن الأغلبية ستجد صعوبة في الحفاظ على هذا الزخم. بعد تجاوز هذا العنف الجنوني حداً معيناً، فإن غريزة البقاء الطائفية هذه يمكن أن تدفعهم إلى الطرف الآخر. بعد قرون من التمييز والاضطهاد على أيدي الأغلبية السنية، فإن العلويين وغيرهم من الأقليات الدينية خلصت إلى استنتاج مفاده أن قراهم الواقعة في مناطق جبلية يصعب الوصول إليها توفر الملاذ الآمن الحقيقي الوحيد. من غير المرجح أن يعتقدوا بأنه يمكن ضمان سلامتهم في العاصمة (حيث يشعرون بأنهم ضيوف عابرون)، من قبل نظام الأسد (الذي يعتبرونه ظاهرة تاريخية غريبة ومؤقتة)، أو من خلال مؤسسات الدولة (التي لا يثقون بها). عندما يبدأ العلويون بالشعور باقتراب النهاية، فإنهم قد لا يقاتلوا حتى الرجل الأخير. من المحتمل تماماً أن يعودوا إلى المكان الذي أتوا منه.

يمثل هذا التقرير، وهو جزء من سلسلة حول الحركات الشعبية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، الجزء الأول من جزأين سينظران بقدر من التفصيل إلى الانتفاضة السورية. وهو يركّز بشكل أساسي على بداية وتكوين حركة الاحتجاجات. أما الجزء الثاني، الذي سيُنشر بعد وقت قصير، فإنه سيركّز على رد النظام على هذه الحركة.