آخر الأخبار

ذاكرة الجسد في كتابة آميلي نوثومب

هل لأنّها امرأة أو لأنّها كاتبة أو لأنّها منتمية لحضارة استعماريّة مغرقة في الاستنزاف و التّوسع تبدو الكاتبة الفرنسيةأميلي نوثومب كإسفنجة رهيبة تمتصّ كلّ ما يعترضها من إشارات كونيّة و جماليّة و تلوك ثمّ تلقي ما يبدو لها فاقدا للإمتاع و الإدهاش و القدرة على الإيهام بالجوع؟ تبدو أميلي نوثومب في كتابة سيرة الجوع وكأنّها تصنع موسوعة تلمّ بكل ّنواحي هذه الثيمة الرّوائيّة و الوجوديّة في آن و الجوع لديها ليس الجوع الضّروريّ للبقاء و لكنّه الجوع الضّروريّ لإرادة القوّة النّتشويّة فهي عاشقة لكلّ ما هو سكريّ و ما هو مقليّ وما هو مشويّ وما هو نيّء عصيّ وما يحمل ظلّ مرارة أو ظلّ غموض و ما يلهم بالسّكـْر بل يتعدّى الجوع إلى من يُلهمونكَ الصّراع و السّعي و البحث عما وراء المعنى و هذا تمامُ الإمتاع في اللعبة الإستعمارية فالمستعمر قد لا يهتم بك إذا كانت لديك كل الثروات التي ينشدها إذا لم ينخرط في لعبة وجود و كيان و صراع هدفه الأخذ و الإثراء و تبدو الموارد المادية في اللعبة الحربية مستوى أوّليا غير مثير للإهتمام بقدر انطلاق لعبة الوجود و إثبات الذات بين الطرفين كمتعة ضرورية و شرط لمواصلة الصراع و هنا تحضرني "الجزائر" معشوقة الساسة الفرنسيين، الثائرة من أول يوم لآخر يوم "العذراء بعد كل اُغتصاب" كما يقول كاتب ياسين.
إن هذه الإسفنجة الإستعمارية تملك نشوة الكتابة قبل أن تخط ّ حرفا على الورق لأن علاقتها بالعالم علاقة نفوذ و اُنتشاء مسبق لا يخضع للجوع بل يوظف الجوع كخلفية للتوغل أكثر في العالم و اُعتباره لعبة طفل يكتشف في كل مرة مناطق جديدة فيها و علاقات جديدة خصوصا و إن تدخلت أطراف للعب معه فتكون المتعة الثنائية متعددة الأطراف و الوجوه :" ألا يكفي أن يضع المرء قطعة من الشوكولاتة اللذيذة لا لكي يؤمن بالله و حسب بل لكي يشعر بجلال حضوره؟ الله ليس هو الشوكولاته بل إنه اللقاء بين الشوكولاتة و الحنك القادر على تذوقها. الله كان أنا في حالة المتعة أو إمكان الفوز بالمتعة: أي أنه كان أنا طول الوقت" ص38
كل متعة في هذا العالم يقابلها جوع لاستيعابها و إعطائها قيمتها الجمالية و الحسية و الفكرية فاللغة متعة تتطلب الجوع حتى التمعش بتفاصيلها و اللغة الباردة -وسيلة الكاتب- لا يمكن أن تكون محل جهد للحصول عليها "لم أكن جائعة إلى الإنجليزية تلك اللغة المطبوخة المهلهلة، هريسة اللثغات، العلكة الممضوغة من فم إلى فم (...) و مع ذلك كنت أفضل الإستمرار بأداء خدمتي العسكرية في كنف اللغة الملذة الممتعة لا أن ألهو في كنف اللغة المسلوقة"ص44
كيف تتشكل اُحتياجات الكاتب؟ هل هي سابقة للكتابة أم لاحقة لها؟ هل تدعم الكتابة احتياجاتنا القديمة و تزيدها شراسة أم تخلق لدينا احتياجات إضافية تتعلق بالمزاج الإبداعي الخالص مثل الجوع إلى البطالة أو العزلة أو إلى شخص بعينه و الجوعُ إذا وصل أقصاهُ عرف حالة من الإرهاف و الشفافة تجعله يتحول إلى كحول أي إلى حاجة عقلية لا يمكن التغاضي عنها "لم يكن ميلي إلى عشق الكحول حائلا دون توقيري الماءَ فالماء يلبي ظمأ مختلفا عن ظمئ الكحول فإذا كانت الأخيرة تلبي حاجتي إلى ما يُحرّق، إلى الحرب، إلى الرقص، إلى الأحاسيس المتوقدة فإن الماء، كان من جهته، يهمس بوعود مجنونة في أذن الصحراء الدهرية المقيمة في حلقي. كان المعبد هو النبع و الشرب هو الصلاة و بلوغ المقدس مباشرة"ص53/55
إن كل ما في الكون و العالم هو مصدر للكاتب، مصدر لتوليد حالات جديدة، مفردات جديدة و صور جديدة و بقدرما تكون التجربة متعددة تصير اللغة مهجّنة فسيفسائية و غرائبية خاصة إذا كان الجمال خيطـَها الناظمَ. و كتابة السيرة تظل من أصعب الأجناس الأدبية فهي تطرح في الوقت ذاته مدى صدق الكاتب و مدى كفاءته الإبداعية و مدى قدرته على فك شيفرة العالم القريب و البعيد و جعل تجربته الذاتية مفيدة للقارئ في كل مكان.فالسيرة المغرقة في الذاتية لا تثير القارئ و لا تبعث فيه الفضول للاكتشاف أما ما يميز كتابة آميلي نوثومب فهو امتزاج الفضاء السير-ذاتي بأدب الرحلات مما يجعل الفضاء أكثر تعددا و طرافة و كشفا لميولات الكاتب و تأثراته. و لكن رغم أن أدب الرحلات هو أدب سيرة الكاتب إلا أننا لا نجد أميلي نوثومب هناك فطول الوقت نجدها تتحدث عن عائلتها
أو مربيتها أو عن شخصيات قابلتها في مدن مختلفة و لكنها لا تجوس دواخلها هي إلا عبر لحظات المتعة و القوة و كأنها ترفض ضعفها أو كأن هذا الضعف منطقة تخشاها هي نفسها فتراها تتحدث عن "إنجه" التي شربت العشق و العدم في ذات الكأس و "بيتر" الصغير الذي فقد والده في حرب لا يستوعب مُسوّغاتها و مربيتها التي نجت من قنبلة هيروشيما 1945 و من زلزال هدّ بيتها سنة 1995 أما هي فلا تكتفي في كل هذا إلا بالدموع تعبيرا جسديا عن رفضها دون أي تدخل عقلي يفسد لحظة السفر أو لحظة القراءة.

*بيوغرافيا الجوع: أميلي نوثومب.
ترجمة: بسّام حجّار.
نشر: المركز الثقافي العربي.