أن تبصقك حشريتك في الوطن الذي ظننت يوماً أنه لا يهتز وأن مخابراته قادرة أن تكبح أي جنوح قبل وقوعه. أن يدفعك فضولك إلى حيث يقول البعض إن مؤامرة خارجية تحاك ضد النظام فيما يقول البعض الآخر إن النظام يقتل شعبه.
هكذا ترى نفسك بين أناس "طبيعيين" أخذوا إجازتهم السنوية ويعيشون حياتهم على بحر اللاذقية الأزرق بهدوء والعباءة جنباً إلى جنب مع "المايوهات". التجار يفتحون محالهم بلا نقصان، وأصحاب المطاعم يرحبون بضيوفهم "باللياقة السورية" ذاتها. وعلى مقربة من كل هؤلاء، على بعد مرمى حجر من بانياس، وعلى مقربة من جسر الشغور، في قاعة مغلقة في فندق فخم، مواطنون يناقشون الهواجس والطموحات مع أكاديميين وأعضاء في مجلس الشعب وناشطين في الشأن العام من لبنانيين وسوريين على قاعدة أن "اطرحوا الأسئلة المحرجة وإلا فنحن من سيطرحها ويجيب عليها". تحط ملامح الطائفية التي تسللت إلى سوريا من بوابة ما سمي بالثورة الشعبية فيصرخ نقولا: "ابني عاد من المدرسة منذ يومين وسألني بابا هل أنا مسلم أم مسيحي فامتعض الوالد وصرخ في وجه ابنه، نحن سوريون وحسب"... سوريون "علمانيون علميون" ولكن لديهم الكثير من المطالب التي يجزمون ألا علاقة للتحركات بها لأن من يقوم بهذه التحركات "ليسوا بسوريين". يتحدثون بديمقراطية تفاجئ من سمع طوال حياته بأن دولتهم ديكتاتورية وممنوع فيه الكلام في السياسة. يتحدثون عن فساد بعض المسؤولين المحيطين بالرئيس السوري بشار الأسد ويطالبون بمحاكمتهم فور انتهاء "الفورة" في سوريا. فلولا فساد هؤلاء وقبضهم الرشوة وتعاملهم مع الخارج لما دخل السلاح إلى سوريا ولما غزاها المتطرفون.
يتساءلون عن سبب صمت الكثير من النواب والوزراء والمسؤولين طيلة فترة الأزمة. يريدون أن تكون أماً لشهيد وزيرة في حكومة جديدة. يشكرون الأزمة التي فرزت "الوطنيين من غير الوطنيين" على وقع مقولة أن ربّ ضارة نافعة ولا تكرهوا شيئاً لعله الخير لكم". يريدون ألا عفا الله عما مضى لئلا تتكرر التجربة. ويقولون "فلنخرج من عقلية المزرعة"! كثيرون في سوريا يعتقدون أن هذه الضربة حررت "السيد الرئيس" من المسؤولين في سوريا.
إنهم يفصلون تماماً بين شخص بشار الأسد وبين أركان النظام. ويصرخون عالياً ضد "المصفقين ومبدأ الإجماع". يفخرون بأنهم تصدوا للحرب الاقتصادية بذكاء من خلال شراء الليرة السورية بأثمان مرتفعة للحفاظ على قيمتها ويسألون التجار أن يدعموا الجيش السوري بالمال ويفتحون نافذة على الدستور. إنهم يريدون أولاً وضع مادة تسجن كل من يتكلم بلغة طائفية على أنه خائن. يرفضون إسقاط المادة الثامنة المتعلقة بحكم حزب البعث في الشارع ويريدون أن تكون الأولوية لإسقاط المادة الثانية القائلة بأن "دين رئيس الجمهورية هو الإسلام".
ويرغبون بسحن كل محافظ سقط بمحافظته تمثال ل"الرئيس الخالد" حافظ الأسد. وعلى هامش كل هؤلاء شباب يتحركون في مختلف الدول تحت عنوان "الدبلوماسية الشعبية الصامتة".
شباب ذهبوا إلى تركيا وبعدها إلى روسيا وسيحضورن قريباً إلى لبنان حاملين همّ وطنهم الذي لا مشكلة لديهم بأن ينتقل الحكم فيه من"أسد إلى أسد ولكن ليس من خدّام إلى خدّام"... بلا تحفّظ يتحدثون في الكثير من المواضيع. يسألون ولا يوافقون ولكن وحدها "سوريا المقاومة والممانعة" هي الخط الأحمر بالنسبة إليهم.
تستنفر سيدة سبعينية وتقفز بعصاها لتقول: "أرجوكم لا تنسوا الاستقرار والأمن الذين لطالما عاشت بهما سوريا" وتقدّم شهادتها هي التي واكبت العهدين الأسدين مع الأب والإبن: "أنا بنت بائع خضري تعلّمت ووصلت إلى مراتب عالية بفضل القوانين التي وضعها حافظ الأسد الذي حرر المرأة وأعطاها حقوقاً مطلقة في سوريا".
لا يريد السوريون قطع شعرة معاوية مع تركيا ولا يريدون الوقوف عند الجزء الفارغ من الكوب فقط. ويحثون الشعب الذي لطالما اتكل على "السيد الرئيس" في كل شيء بأن يكون شاهداً وفاعلاً ومبادراً للدفاع عن أرضه وليكن كل سوري مراسل ينقل حقيقة ما يحصل في بلاده.
في الثالثة صباحاً يسمع في محيط بوابة اللاذقية صوت إطلاق نار "إنها متفرقعات قطاع الطرق" يقولون ضاحكين وكأنهم اعتادوا بشهور قليلة على ما لم يروه دهراً.
سوريا تحاور ذاتها وأهلها مقتنعون بأن ما يحصل في العام 2011 ليس أخطر مما حصل في العام 2005 ويحذرون: "المجتمع المنغلق لا ينتج حضارة ولا يمكن أن ينتج حرية ويجزمون أخيراً بصوت واحد: "نعم إن الثورة حصلت ولكن بقيادة الرئيس بشار الأسد"!!
رندلى جبور- سوريا
هنا لبنان