آخر الأخبار

النظام السوري في "القوقعة"

منذ زمن ارتبطت الرواية بالخيال، أما واقعنا العربي اليوم فقد استعصى على أخصب خيال، وإليكم الواقع الذي يكاد يستحيل على مخيلة أي روائي، مُكثفاً في رواية "القوقعة.. يوميات متلصص"، والتي تسرد تفاصيل حقيقية لثلاثة عشر عاماً من حياة شاب سوري مسيحي يُدعى مصطفى خليفة، قضاها في السجون السورية بشبهة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، رغم أنه مُلحد.

يتخرج خليفة، في إحدى كليات الإخراج السينمائي في فرنسا، يقرر بعدها العودة إلى بلده سوريا بعد ست سنوات قضاها في الغربة، وبمجرد وصوله إلى المطار يقتاده رجال الأمن إلى الحجز، ليدخل في رحلة عذاب طويلة، يكون فيها شاهداً حياً على التفاصيل المرعبة لما يدور في سجون أحد الأنظمة العربية المليئة بأصناف لا حصر لها من التعذيب والإذلال.

جلد، شبح، شرب من المجاري، إجبار السجناء على اللواط ببعضهم البعض، حرمان من العلاج، إعدام دون محاكمات، موت بطيء بأمراض بسيطة مثل الجرب، رقص على الجثث وتمثيل بها.. كلها أشياء تتم وسط قهقهات السجانين وشتائمهم البذيئة للمعتقلين، الذين يُجبرون على مناداة سجانيهم بعبارة "يا سيدي"، وهي كلمة لا تحمل توقيراً في هذا المقام، بقدر ما تنضح به من معاني الذلّ والعبودية.

وهنا أعرض عشرة مشاهد كما عايشها كاتب الرواية مصطفى خليفة في السجون السورية.

(1) بداية التلصص

مع دخوله السجن، يشتكي السجين خليفة في إحدى المرات لمن جاوره في المهجع من الظلم الواقع عليه، وكيف أنه حُشر هنا وهو مسيحي وملحد، ليفاجأ بالرجل ينتفض قائلاً: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يا شباب في واحد نصراني كافر، في عندنا واحد جاسوس.

هذا الإعلان كلفه عزلة مطلقة، ومعاملة مثل الحشرات، وأصبحت مقاطعة بقية السجناء له تامة، على مدار سني سجنه. ويقول: "مع الأيام بدأت تنمو حولي قوقعة بجدارين: الأول صاغه كرهم لي، حيث كنت أسبح في بحر من الكراهية والحقد والاشمئزاز. والثاني صاغه خوفي منهم، وفتحت نافذة في جدار القوقعة القاسي وبدأت أتلصص على المهجع من الداخل".

(2) الحشر في الدولاب

يُحشر خليفة في الدولاب الخارجي لإطار السيارة، بحيث تصبح قدماه مشرعتين في الهواء، ثم تنهال الضربات بكابل موتور دبابة عليهما وهو ممدد أرضاً. الكابل الأسود يرتفع ثم يهوي، ثم يرتفع ناثراً معه نقاط الدم ونتف اللحم الآدمي. ووسط زعيق الجلادين عليه للإفصاح عن أسماء خليته التنظيمية الإخوانية، يكرر لهم الإجابة أنه مسيحي، وأكثر "أنا رجل ملحد.. أنا ما بآمن بالله"، فيسخرون من كل إجاباته ويعتبرونها تمويهاً ليس إلا. يستمر المشهد حتى ينساب البول من بين قدميه ويغمى عليه.

(3) 86 رجلاً ومرحاض

ستة وثمانون رجلاً، يُحشرون في غرفة مساحتها لا تزيد عن خمسة وعشرين متراً مربعاً، تحوي مرحاضاً واحد وصنبور ماء يتيم. يكاد المرء يختنق من نتانة الروائح المحيطة به، غابة من الأقدام والأرجل، رائحة الأقدام القذرة، رائحة الدم، رائحة الجروح المتقيحة، رائحة الأرض التي لم تنظف منذ زمن طويل، الأنفاس الثقيلة لأناس يقفون متلاصقين. أما الحديث بين الناس فيجري همساً، الأمرالذي يولد أزيزاً متواصلاً يخيم فوق الجميع.

(4) ثلاث مراحل للنوم

النوم يتم على ثلاثة مراحل، المجموعة الأولى تستلقى على الأرض بسيف، أي بجانب الجسم، تليهم المجموعة الثانية في الوسط من المقرفصين، ثم الثالثة من الواقفين على الجانب الآخر من الغرفة. يستيقظ المستلقون ليحل مكانهم المقرفصون، فيما المستقلون يأخذون مكان الواقفين، ويدخل الواقفون بدورههم في طور القرفصاء استعداداً للاستلقاء.

(5) سيارات اللحمة

في عملية نقل السجناء من غرف الاحتجاز إلى السجن الصحراوي، تكون اليدان مقيدتان بقيد حديدي إلى الخلف، كاحل القدم مربوط بجنزير حديدي إلى كاحل سجين آخر، يسير السجناء بصعوبة، يتعثرون.. ممرات.. أدراج.. يسحبون إلى الخارج، يتكدسون في سيارات يطلق عليها "سيارات اللحمة"، حيث يصطفون داخلها كما تُصف الذبائح.

سلم معدني ذو ثلاث عوارض، نصعد بصعوبة بسبب الأرجل المقيدة وعدم إمكانية الاستعانة باليدين، يجلسونناعلى أرضية السيارة، تمتلئ عن آخرها، يُغلق الباب بقفل كبير، يجلس عنصران من الأمن أمام الباب من الخارج. ولأن الرحلة تستغرق نحو خمس ساعات، يضطر السجناء إلى التبول داخل السيارة، بعضهم يتقيأ من تعب الرحلة، فيختلط البول بالقيء، ولك أن تتخيل عذاب الاطلاع على هذا المشهد ممن لم يغمَ عليهم..!!

(6) كما ولدتك أمك

تصل السيارة، يفتح رجال الأمن الأبواب، عناصر الشرطة العسكرية اصطفوا حولنا بما يشبه الدائرة، اليد اليمنى تحمل إما عصى غليظة أو كبلاً مجدولاً من أشرطة الكهرباء، أو شيئاً مطاطياً أسودَ يشبه الحزام. جميع السجناء يتحاشون النظر مباشرة إلى عناصر الأمن، رؤسنا منخفضة قليلاً، أكتافنا متهدلة، وقفة فيها خشوع، وقفة تصاغر وذل، وكأننا تدربنا عليها سابقا، يخلع الجمع ثيابهم كما ولدتهم أمهاتهم بحجة التفتيش، وسط ضحكات السجانين الساخرة.

(7) الشرب من مياه المجاري

حملة الشهادات الجامعية، ليسانس، بكالوريوس، دبلوم، ماجستير، دكتوراة، الأطباء، المهندسون، المحامون، أساتذة الجامعات، وحتى المخرج السينمائي، شربوا جميعاً من بالوعة المجاري، شربوا وبلعوا االمياه القذرة بما فيها من بصاق ومخاط وبول وقاذورات أخرى. الطعم لا يمكن وصفه..!! والغريب أنه لا أحد من بين كل الشاربين تقيأ، كما يقول السجين الكاتب، ويضيف أصبح بين هؤلاء جميعاً شيئان مشتركان، الشهادة الجامعية، والشرب من البالوعة..!! يلي ذلك "حفلة" من التعذيب بالكرابيج لكل سجين، بحيث لا يقوى على المشي بعدها..

(8) إعدام ثم تمثيل

يُنادى على المحكوم عليهم بالإعدام، ينهضون من فورهم إلى الحمام فيغتسلون، يستبدلون ثيابهم إن كانت جيدة بأخرى رثة، يصلي كل منهم في موضعه وعلى الهيئة التي يكون عليها، فالصلاة العلنية هنا ممنوعة، وأقل ما يمكن أن يكلفك تصرف مثل هذه هو الموت.. وبسهولة.

من ثقب صغير أحدثه الزمن في جدار المهج، يتلصص خليفة على ساحة السجن ليشاهد الإعدامات التي تتم كل اثنين وخميس أسبوعياً. ثماني مشانق غير ثابتة، لا يصعد إليها المحكوم بالإعدام، بل هي التي تنزل إليه، حيث يُميل السجانين المشنقة إلى أن يصل الحبل إلى رقبة السجين، يثبتون الحبل حول الرقبة جيداً، ثم يسحبون المشنقة من الخلف، يرتفع وتتدلى رجلاه في الهواء، بعد أن يلفظ أنفاسه ينزلونه إلى الأرض. وتأتي الدفعة الثانية ثم الثالثة...

في حال تأكد عدم موت السجين بعد إنزاله من المشنقة، يتناوله اثنان أو ثلاثة من الجلادين، ويلوحون به في الهواء عدة مرات قبل أن يقذفوه في الهواء إلى الأعلى بكل ما أوتوا من قوة، فيهوي على الأرض صريعاً. تتكرر هذه العملية إلى حين التأكد تماماً من أن السجين قد فارق الحياة.

يصعد السجانين على أكوام الجثث وبأيديهم عصي غليظة، ينهالون بالضرب على الجثة، الشرطة يراقبونهم ضاحكين، ومع كل ضربة عصى على الجثة يصرخون بصوت عال :عاش الرئيس المفدى، بالروح بالدم نفديك يا رئيس، ولك يا كلب بتشتغل ضد الرئيس، رئيسنا أحسن رئيس، الرئيس قبل الله نعبده.. وشعارات أخرى يستحي المرء من ذكرها.

(9) إحصاء الضحايا

يدخل السجناء في عملية إحصاء غريبة لضحايا الإعدام، عبر التلصص من خلف جدران مهجعهم، كل صوت ناجم عن اتطام الجثة بأرضية سيارة اللحمة هو رقم، حيث يلقى بالجثث استعداداً لدفنها بشكل جماعي على الأرجح، ومع كل ارتطامة يتصاعد العدد ليصل في كل ليلة من ليالي الإعدام إلى ما بين أربعين أو ستين ضحية..

ويسرد الكاتب بالتفاصيل توسلات رجل سبعيني سجين أمام ضباط السجن كي لا يعدموا أولاده الثلاثة المسجونين معه أيضاً، لكن دون جدوى، يعدم أبناءه الثلاثة دون رحمة. وفي إحدى المرات يتم الخلط بين كشف أسماء الإعدامات وآخر للمحاكمات، فيعدم عدد ممن لم يحاكموا بعد، وهي محاكمات ميدانية داخل السجن، قبل أن يتبين الضابط المسؤول أن من أعدموا هم من كشف المحاكمات، لكن فات الأوان بعد أن أعدم العشرات دون محاكمات.

(10) الموت جوعاً ومرضاً

وتحوي الرواية تفاصيل كثيرة مثيرة ومرعبة عن قضاء السجناء أشهراً وهم محرومون من الأكل، يقتصر نصيب الواحد منهم طوال اليوم على أقل من ربع رغيف، يغمى على العديد منهم، يصاب آخرون بفقر الدم، تخار قوى العواجير والكهول، حتى الشباب يموتون. فجأة تغرقهم إدارة السجن بالطعام، وتحديداً الخبز، لدرجة أنهم لا يجدون متسعاً في المهجع للنوم، فيضطرون إلى إذابة أكوام الخبز بالماء وتصريفها عبر فتحة المرحاض. وبسبب عدم النظافة والازدحام تنتشر الأمراض والأوبئة، حتى أن بعض السجناء قضوا من أمراض بسيطة مثل الجرب.

ما رأيكم في هذا النظام؟!