(النرويج)
كان إسبين نوتيا جيدا شجاعا جدا عشق البحر وحرفة البحار. وقد ركب البحر فى الثانية عشرة من عمره على مركب شراعى كان يذهب حتى إلى أفريقيا للبحث عن هذه البضائع الثمينة التى لا يجدها الناس فى بلاد الشمس الساطعة. وكان قبطانه يحبه وكأنه ابنه الحقيقى وفى كثير من الأحيان كان يقول له:
"فى سن العشرين، ستتقن هذه الحرفة مثلى، وفى الخامسة والعشرين، ستكون قومندانا".
كان إسبين سعيدا وبدون فرح العودة إلى والديه كان يفضل دائما البقاء فى ميناء صيد السمك طويلا جدا.
غير أنه ذات يوم، عندما كانت السفينة مستعدة لرفع المرساة، ذهب النوتى يبحث عن قبطانه وأبلغه رغبته فى أن يغادر السفينة.
"ماذا، سأل البحار العجوز، تريد أن تتركنى؟ لكنك لا تفكر فى هذا... آه! أنا فاهم، لقد وقعت فى الحب وخطيبتك هى التى تريد منك البقاء فى البر!"
إسبين، الذى لم يكن عاشقا إلا للبحر والسفن احمر من ذلك خجلا حتى أذنيه لا أقل.
"أقسم لك أن الأمر لا يتعلق بهذا، قال. أقسم لك على هذا أيها القبطان".
- إذن، فسِّر لى. تريد أن تركب قاربا آخر؟
- أوه، لا، أيها القبطان، أنا فى أحسن حال معك.
- إذن، لقد أصابك الملل من هذه الحرفة؟
- ليس على الإطلاق، أيها القبطان، ولا أعرف شيئا آخر يمكن أن أفعله ويرضينى هكذا.
- ومع كل هذا فأنت لم تر الفئران تغادر السفينة؟
- أوه، لا، أيها القبطان، الأمر مخيف أكثر أيضا!
- ما هذا الكلام؟ أيكون بعض الحمقى قد حكوا لك قصة عن العاصفة ونذرها؟ هيا، تكلم!"
غير أن القبطان ظل يتوسل، ويصرخ، ويهدد عبثا، فلم يحصل على شيء أكثر. بقى المراهق صامتا مثل مرساة مقيدة بعشر قامات [حوالى ستين قدما من مقياس الأعماق] فى القعر.
ومع هذا فقد انتهى إلى القول لصاحب السفينة:
"اصغ إلىّ، أيها القبطان، أنا لا أريد أن يغادر القارب الرصيف. صدقنى، ينبغى البقاء. أنا أتوسل إليك، لا تعُدْ إلى البحر!"
البحار العجوز انطلق بضحكة كبيرة.
"البقاء فى المرسى، ولكنك لا تعرف معنى ما تقول، يا صغيرى. أنت لست فى كامل رشدك بعد. هيا، أعتقد فى الحقيقة أن من الأفضل أن أستبدلك".
وراح يهبط على المرسى ليحاول تجنيد نوتىّ آخر، عندما ألقى عليه إسبين الصغير بنفسه وتشبث بكل قواه بمعطفه الصوفى. وبالدموع فى عينيه وبصوته المختنق، نطق:
"لا، لا، أيها القبطان. سأبحر معك. ولكن ينبغى عمل ما سأطلبه منك".
إيمو، ذئب البحر العجوز، هدّأ الولد الذى انتهى إلى القول:
"يجب أن نضع على سطح القارب ثلاث ربطات من خشب البتولا".
بدا القبطان مندهشا. للحظة، راقب النوتى سائلا نفسه ما إذا كان هذا الطفل لم يفقد صوابه، غير أنه كان يوجد فى نظرة الصبى بصيص إخلاص وصداقة أقلقه. وراغبا فى أن لا يترك شيئا يظهر من أفعاله، هزّ كتفيه وقال:
"هذه بالفعل نزوة مراهق، ولكن فى نهاية المطاف، إذا تمسكت بهذا، فإن ما نشحنه أكثر ليس من ثلاث ربطات من الخشب.
- من خشب شجر البتولا، دقق النوتى، هذا ضرورى جدا، أيها القبطان.
- نعم، نعم، هذا مفهوم، من خشب شجر البتولا"، قال القبطان مبتعدا ليعطى أوامر.
ولدهشة الملاحين البالغة، تم تحميل الربطات الثلاث من الخشب وجرى رصها بصورة منفصلة على سطح السفينة، ثم، بكل الأشرعة مشرعة، أقلعت السفينة الكبيرة فى اتجاه عرض البحر.
سار الأسبوع الأول من الملاحة فى ظروف ممتازة. كانت الريح مواتية والسماء زرقاء صافية صقيلة مثلا طلاء خزفى. ومن وقت لآخر كان القبطان يقول لإسبين:
"إذن، أيها النوتى الصغير، ألا تشعر بالبرودة؟ لا. على كل حال، لديك ما يدفئك".
وكان يضحك مخفيا ضحكته فى لحيته الشقراء.
ولكنه، فى صباح الأسبوع الثانى، كفّ عن الضحك. وعندما كان الفجر يطلع، انقضت على السماء غيوم سوداء ضخمة، مدحرجة أجسامها المفتولة العضلات على المحيط المظلم. ازدادت الريح قوة وأخذت تثير دوامات وزوابع. وتجوَّف البحر وبدأت السفينة تتدحرج وتتمايل بطريقة مقلقة.
ولم ير أحد فى يوم من الأيام عاصفة مشابهة.
"أنزلوا الأشرعة!" صاح القبطان.
اندفع البحارة وبدأوا المناورة بينما بدأ النوتى يلقى من فوق ظهر السفينة أول ربطة من خشب شجر البتولا.
"ولكن ماذا تفعل؟ صاح القبطان. ليس خشبك هو ما سوف نلقيه!"
وبين زوبعتين، قال الصبى:
"بالطبع ليس هو، ولكنه هو ما سننقذه!"
و، مندهشا أكثر فأكثر، استطاع البحار المسن أن يرى أنه كلما كان الحطب يلمس الموجة كانت الرياح تفقد من عنفها وكانت الأمواج تهدأ.
"ياه! دمدم بين أسنانه، هذه مصادفة. إذا توقفت العاصفة، فهذا يعنى أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة".
وتم إصلاح بعض الأشرعة الممزقة وعارضة صارى مكسورة، ثم استأنفت السفينة سيرها تحت سماء تخلصت من اكفهرارها.
بعد ذلك بيومين، عاصفة جديدة أشد غضبا أيضا، وقد توقفت عن الهدير عندما ألقى النوتى الكومة الثانية من خشب البتولا.
وبالفعل بدأ القبطان يفرك لحيته فيما كان يطرح على نفسه أسئلة، ولكن بعد العاصفة الثالثة، عندما لم يعد لديه حطب على ظهر السفينة، طلب النوتى إلى كابينته وسأله:
"لا أستطيع أن أقول لك شيئا، أجاب الولد، لا شيء على الإطلاق. ولكن انظر إلى البحر، فربما تفهم".
اقترب صاحب السفينة من النافذة ورأى أن المحيط كان بلون الدم.
"غريب، قال، لكننى لا أفهم أكثر.
- إذن، ختم النوتى كلامه، قد تفهم فى اليوم الذى نعود فيه إلى المرسى. كل ما أريد قوله لك، أننا لن نتعرض بعد الآن لعاصفة".
وبالفعل، خلال ثمانية شهور، تواصلت الرحلة بلا عوائق، مع رياح ممتازة. فقط عندما عاد إلى ساحل النرويج، علم القبطان، والنائب الأول، ونوتىّ شراع مقدمة السفينة أن زوجاتهم توفين بمرض غامض على وجه التحديد فى اللحظة التى واجهت فيها سفينتهم هذه العواصف المفزعة.
النوتى، الذى سُئل مائة مرة، احتفظ دائما بسره، الذى سأبوح لكم به دون أن أكشف لكم ممن عرفته.
قبل إقلاع المركب، ذات يوم فيما كان إسبين وحيدا على متنها رأى ثلاثة من غربان الزاغ تحط على عارضة صارى الشراع الأعلى. وهذه الغربان الثلاثة التى كانت لها أصوات نساء كنَّ يقمن بإلقاء سحر مؤذ على سفينة وهُنَّ يقلن أنهن يُردْنَ التخلص من أزواجهن. وما إن عُدْنَ إلى تحليقهن حتى حط نورس ساخر على نفس عارضة الصارى وقال للنوتى:
"هذه الغربان الثلاثة هُنَّ ساحرات، إحداهن زوجة القبطان، والأخرى زوجة النائب الأول، والثالثة زوجة نوتى شراع مقدمة السفينة. وإذا أصغيت إلىّ فإن السحر المؤذى الذى ألقينه على السفينة سيكون بلا تأثير".
وشرح النورس للصبى ما يجب عمله لتهدئة العاصفة. ولأن إسبين أصيب بالذهول فإن طائر البحار الجميل أضاف:
"إذا كان لك مثل هذا الحظ، سيكون هذا يوم ميلادك، فالرياح الداخلية أحضرت إلى مهدك السباتى بأربع أوراق. غير أن هذا سرّ عليك أن تحتفظ به لنفسك، وإلا فإن حظك سيتخلى عنك".
فقط عندما نجح فى تهدئة العواصف الثلاث اقتنع النوتى حقا بأن النورس الساخر لم يكن يسخر منه.
أنقذ إسبين، الفتى النرويجى، حياته نفسها وحياة قبطانه عندما أصغى إلى أحاديث غربان الزاغ الثلاثة وطائر نورس. وقد امتلك العديد من شخصيات الأساطير، مثل بطلنا، هذه الموهبة الاستثنائية، سواء منذ الولادة، أو بتوسط شيء سحرى. أحد هؤلاء، وكان من سكان جزيرة ليسبوس الإغريقية، دَسَّ حجرا لامعا فى فمه. وذات يوم سمع أحاديث غراب. تكلم الطائر عن كنز مخبوء. ووجده الشاب وصار غنيا جدا.
ومع هذا فإن مساعدة شيء سحرى لم تكن ضرورية بصورة إجبارية. وكان يكفى أحيانا أن يكون المرء طيبا إزاء الحيوانات التى، لكى تشكرك، كانت تسمح لك بفهم لغتها. هذا ما حدث لشاب إغريقى، ميلامپوس، الذى صار إلى يومنا هذا شهيرا جدا.
أحب ميلامپوس كثيرا من الحيوانات، وكان يحميها دائما. وعلى هذا النحو أنقذ ثعبانين صغيرين كان خدمه قد قتلا والديهما.
وذات ليلة، فيما كان الصبى نائما، زحف الحيوانات الزاحفان إلى فراشه ولعقا أذنيه. استيقظ ميلامپوس، مرتعبا، غير أن دهشته كانت كبيرة عندما اكتشف أنه فهم ما قاله طائران حطا على نافذته.
الثعبانان، ليشكرا منقذهما على كرمه، سمحا له بأن يفهم لغة الطيور، والحشرات، والعديد من الحيوانات. اشتهرت سمعة ميلامپوس بسرعة وأتى الناس من بعيد طالبين منه النصيحة. ولكن إذا كان الكثيرون أحبوه، وقدروه، فإن آخرين كرهوه.
بعض الأعداء خطفوه وسجنوه. وداخل زنزانته، سمع الصبى المسكين أشعارا تبوح له بأن عوارض السقف قد نخرت تماما، وأنها لن تلبث أن تنهار.
سارع ميلامپوس إلى تنبيه سجانيه الذين نقلوه إلى سجن آخر. وقد انهار السجن الذى غادره بعد هذا بوقت قصير. وقد قام الحراس، متأثرين بشدة، ومعتقدين أنهم يتعاملون مع كاهن كبير، بتحرير السجين الذى غمروه بالهدايا من أجل كسب صداقته وثقته.
Bernard Clavel: Légendes de la mer