آخر الأخبار

تزوير تاريخ لبنان واختراع فخر الدين الثاني

صقر ابو فخر

سيعاتبني طلال سلمان وأدونيس كثيراً في الأيام المقبلة، أما أنا فستغمرني لوعة الفقد ويسربلني الأسى. قال لي أدونيس: سنزور معاً كمال الصليبي في ايلول حين أعود من فرانكفورت. ومراراً أعاد طلال سلمان تذكيري بضرورة تحديد موعد للزيارة. غير أن كمال الصليبي لا يحتاج الى موعد، فمنزله مفتوح في كل يوم لأصدقائه وعارفي فضله والمعجبين بعلمه. لكن مطحنة الحياة اليومية كانت تؤجل اللقاء. غير اني كنت أتسلل أحياناً برفقة محمود شريح ليلاً إلى منزل كمال الصليبي، فنقبس بعضاً من سويعات جميلة معه، او كنا نتحلق حوله في ظهيرة بعض أيام الآحاد مع سليمان بختي ومحمود شريح دائماً. وعندما أتاح لي أن أجري حواراً مسهباً معه استغرق أكثر من عشرة أيام متواصلة، خرجت بمحصلة علمية لا تضاهى. لكن الأهم هو انني اكتشفت فيه ما هو أبعد من المؤرخ المبدع وصاحب النظرية الفذة، أي ذلك الإنسان النادر والمفعم بالحياة والتأمل والحكمة معاً.

[ [ [

كمال الصليبي أحد الذين خربوا عقائدي القديمة وخلخلوا ما استقر في وعيي البدائي، اما أدونيس فهو المخرب الأروع. لذلك لم يكن غريباً أن نجتمع نحن الثلاثة معاً في مجلة «الآخر». فقد أمضيت مع كمال الصليبي أياماً ممتعة من الحوار الجميل. وهذا الحوار الذي ستنشره مجلة «الآخر» في نهاية أيلول

2011، فيه كثير من المعلومات الجديدة والمثيرة التي ستثير حفيظة كثيرين في لبنان. وكنا خططنا، كمال الصليبي وأنا، لإصدار هذا الحوار في كتاب منفرد، واقترحت عليه اسئلة جديدة، وكان يرحب دوماً بأن يمنحني المزيد من وقته للإجابة عن الاسئلة والاستفسارات الإضافية.

وها أنا، في صدمة هذا الموت، سأسارع إلى إصدار هذا الحوار، لكن من دون الإضافات التي كان ينتظر اسئلتها الختامية. غير ان الحوار كله سيكون بين أيدي الجميع في مجلة «الآخر» التي يرأس تحريرها أدونيس، والتي ستصدر في أواخر صيف 2011. وها نحن ننشر جزءاً من هذا الحوار تحية لاسم هذا المؤرخ الفريد والأستاذ الجامعي النادر والمفكر الألمعي وصاحب الرأي الشجاع. إنه العبقري بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وهذا ما بقي لنا منه ومن صداقته علاوة على الدمع والأسى.

ـ أصل عائلتك من عين حليا في سوريا. أليس كذلك؟

o لدي أقارب حتى اليوم في حمص من آل الصليبي، وأصلهم مثلنا من عين حليا. لكن هذا لا يقدم ولا يؤخر. فأنا فعلاً أحب البلدان العربية كما أحب بلدي. وأتمنى لها الخير كما أتمنى لبلدي. وإذا أصابها أي مكروه أشعر به في جوارحي.

ـ بهذا المعنى فإن فكرة العروبة لديك هي فكرة ذات محتوى حضاري وثقافي. وليست تذويباً أو وحدة اندماجية.

o إنها انتماء إلى ثقافة وإلى تاريخ ولغة وشعب وجغرافيا. ولم أشعر مرة بأنني مختلف عن العرب في أي بلد عربي. سيبقى هناك أفراد يظنون أن الجنسية اللبنانية مقصورة على أناس يجب التأكد من أن دمهم لا يحتوي على شوائب معينة... هذا مضحك. وأنا مسرور جداً لمعرفتي أنني لا يمكن أن أكون لبنانياً من هذا النوع، فشهادة ميلادي تقول إنني مصري. أنظر إلى صورة جدّي وراءك. لو كان حياً الآن لكانت جنسيته أردنية. لكنه كان آنذاك عثمانياً.

الساحل والجبل ورأس بيروت

ـ أنت من أهل الجبل، لكنك عشت في المدينة الساحلية بيروت. والمعروف أن ثمة عداوة تقليدية بين الجبل والساحل. ربما كان منشأ هذه العداوة المنافسة. ومهما يكن الأمر فإن تقاليد الجبل غير تقاليد الساحل. فالجبل بيئة زراعية وتقاليد الزراعة تختلف عن تقاليد التجارة في الساحل. والسلوك الجبلي يتميز بنوع من القساوة أو الجلافة. بينما الساحل التجاري أكثر مرونة لأن هذا ما تقتضيه التجارة. هل لاحظت فارقاً بين سلوك أهل جبل لبنان وسلوك أبناء المدن الساحلية وسلوك أبناء بيروت تحديداً؟

o لم أجد فارقاً واضحاً، لأن الانتقال كان ليناً. وأذكر أنني أول ما نزلت إلى بيروت كان انطباعي أنني أنتقل من وضع إلى وضع أحلى بكثير. فمن مصادفات أيامي أنني جئت إلى رأس بيروت. وخصوصاً أن من الصعب أن تجد مكاناً في العالم كله مثل رأس بيروت. يمكن أن تكون أكسفورد مثل رأس بيروت، ولكن تبقى بيروت شكل ثاني . منذ زمن بعيد كانت Harvard Square شبيهة بها. ومع الوقت بدأت أكتشف محاسن بيروت، وصرت، بالتدريج، أكتشف أن القيم التي كنت أعتز بها في الجبل هي قيم متوحشة.

ـ سؤالي هو التالي: إن السلوك الاجتماعي في لبنان يبدو كأنه سلوك مجتمع زراعي جبلي وثقافة مجتمع حديث. أي أن هناك نظامين للقيم: قيم الجرد والعصبيات المحلية، أي قيم المرجلة والبهورة، ثم قيم الساحل التجاري الذي يخضع ويؤدي الضريبة. والساحل التجاري يكون في الوقت نفسه منفتحاً ومساوماً ومسالماً لأنه يريد أن يحمي مصالحه التجارية. في مقابل قيم الجبل، أي جبل الموارنة والدروز، أقامت البرجوازيتان المدينيتان، السنة والأرثوذكس، نظام المحسوبية، أي أن كل شيء محسوب على الآخر، وحتى اليوم ما زلنا نقول: محسوبك . إذا صحّ هذا الوصف، فإن لبنان هو دمج لقيم المحسوبية بقيم الجرد في نسق واحد. وكل واحد اليوم محسوب على زعيم أو على طائفة أو على جماعة. هل هذا الأمر انعكس على تكوين لبنان الاجتماعي؟

o الدمج ليس غلطاً. لكن يمكن النظر إلى الأمور بطريقة مختلفة.

ـ كيف تقارن بيروت التي عرفتها في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات ببيروت اليوم؟

o أستطيع التحدث عن رأس بيروت. الغريب أن المدينة لم تتغير. والعناصر التي دخلت إلى رأس بيروت ليست هي من خرّب رأس بيروت. ربما خرّبتها قليلاً، لكن، في المقابل، أثّرت منطقة رأس بيروت في روحية مدينة بيروت كلها. في أي حال، أنا أرى أن منطقة رأس بيروت لم تتغير كثيراً. ربما تغيرت بيروت كلها. لكن رأس بيروت بقي على حاله. ترددت قليلاً على Down Town. والحقيقة أنني أحببت وسط المدينة. أحببت روح المنطقة. وأكثر ما أحببت الوجه اللبناني المبتسم الذي يحب الحياة. وأنا متأكد أن هذا الوسط مختلط بأشياء بشعة جداً. لكن الدنيا كلها هكذا. بينما هنا لدينا وجه لبنان المبتسم والذي لا أبدله بأي شيء في الدنيا. أنا أتمنى أن يصبح كل لبناني على صورة هذا الوجه، فبدلاً من الجلوس والتفكير بالسياسيين وهم يخططون للسرقة والنهب، فليفكر الإنسان بالأمور الجيدة والجديدة. ولا توجد فئة لبنانية خالية من هذه القدرات. فاللبناني خلاّق جداً. إنه ليس خلاّقاً بالضرورة في ميادين الفن والشعر، وربما يكون لديه أسوأ شاعر أو أسوأ فنان أو أسوأ معماري، ولكن لديه القدرة على العيش في أسوأ الظروف، والقدرة على تخطي البغض.

ـ رأس بيروت منطقة كانت مميزة جداً منذ بداياتها العمرانية، مع أنها منطقة حديثة نشأت مع نشوء الجامعة الأميركية. ولأنها ذات طابع متعدد وعلماني صارت مقصداً للبرجوازية الفلسطينية في سنة 1948 وللبرجوازية السورية منذ سنة 1957 فصاعداً. فالبرجوازي السوري القادم إلى لبنان لن يذهب إلى الضاحية الجنوبية على الإطلاق بل إلى رأس بيروت. والمعروف أن المدينة تمدن الوافد إليها من الأرياف، فتدمجه في إطارها ويتعلم في جامعاتها ويكتب في صحفها... إلخ. أما اليوم فيبدو لي أن مدينة بيروت بدأت تفقد هذه الوظيفة، ولا سيما بعد ظهور ما يسمى اقتصاد الضواحي. فنتيجة للحرب الأهلية وما رافقها من تهجير وتطهير طائفي نشأت الضواحي الجديدة، وصارت كل ضاحية منطقة قائمة بذاتها. خذ منطقة جونية ومحيطها، فلديها جامعة وأماكن سكن مترامية ودور سينما ونوادٍ... إلخ. ويستطيع الساكن في ذوق مكايل ألا يأتي إلى بيروت إلا عند الضرورة. والساكن اليوم في الضاحية الجنوبية لديه جامعة ومطاعم ونوادٍ ومدارس وثانويات. وقبل تسعينيات القرن العشرين لم تكن هذه الضواحي موجودة على صورتها الراهنة على الإطلاق. الآن كل ضاحية باتت مستقلة بذاتها. وساكن الضواحي حين يذهب إلى الحمراء كأنه يأتي للزيارة أو للمتعة أو للتسلية. وهذا ما يفقد المدينة طابعها المركزي، فالمدينة تشد الأطراف والضواحي إلى قلبها بقوة المصالح، فيما بيروت فقدت قلبها، وما عادت قادرة على جذب الأطراف إليها. هل تعتقد أن هذا الوصف سليم؟

o يجوز أن يكون هذا الوصف سليماً. لكنني لا أحب أن يكون موقع بيروت هكذا. ومع ذلك ربما يكون كلامك سليماً في ما لو استخدمت طريقتك في التفكير.

ـ في أثناء الحرب الأهلية ظهرت في جامعة الكسليك فكرة تداولها كثيرون، كإدوار حنين وفؤاد افرام البستاني وغيرهما. تقول الفكرة إن مشكلة لبنان في ترابه. هكذا وردت في مذكرات الأب بولس نعمان. أي أن لبنان كلما كبُرت مساحته زادت مشكلاته. فإذا صغّرناه تتضاءل هذه المشكلات. حينذاك كانت فكرة العودة إلى المتصرفية وبيروت ذات بريق سياسي، وحاول بعضهم الترويج لفكرة لبنان الصغير، أي لبنان المتصرفية زائداً بيروت، ورأوا في ضم الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان أمراً سيئاً لأنه ضاعف عدد المسلمين، ولذلك تفاقمت المشكلات. والحل، بحسب هؤلاء، هو تصغير لبنان.

o الحياة أمر متحرك، والناس تتوالد باستمرار. وإذا توالدت ولم تهاجر تختل التوازنات الديمغرافية. وهذا هو الأمر المنتظر حدوثه اليوم أكثر من الأمس. أنا ولدت سنة 1929. والناس الذين عرفتهم في يفاعتي هم ممن عاشوا في زمن المتصرفية. كانوا جميعاً يتحدثون عن المتصرفية، كأنهم يتحدثون عن أمهاتهم. ولا شك في أن للمتصرفية ميزاتها العظيمة. ولكن عندما كانت المتصرفية قائمة في لبنان كان اللبنانيون فالقين دينهم للمتصرفين و فالقين دين الدولة العثمانية. اللبنانيون لا يطاقون. لا يوجد متصرف غادر لبنان إلاّ فيه لوثة. الإنسان السياسي اللبناني لا يُطاق، لأنه يخلق من الحبة قبّة. إن أول متصرف على لبنان، أي داود باشا، هلكه يوسف كرم، و طلّع دينو . وفي ما بعد رحل عن لبنان وتابع صعوده في الإدارة العثمانية. وهنا، في لبنان المتصرفية، أشاعوا أنه سرق الأموال وغير ذلك من التشنيعات. والحقيقة أنه شخص أحب البلاد وفكّر في أن يصنع منها سويسرا الشرق . لكن اللبنانيين كانوا يفكرون بطريقة مغايرة. لماذا الحاكم ليس من الموارنة؟ وهذه طبعاً دعوى جاهلية كما كان يسمّيها النبي. أليس كذلك؟

ـ تؤكد في مذكراتك طائر على سنديانة أن المسيحيين في لبنان زوّروا تاريخ لبنان. ما هي الوقائع التي خضعت للتزوير؟

o أمور كثيرة خضعت للتزوير، بدءاً من الأمور البسيطة، خصوصاً تواريخ العائلات والطوائف، حتى صورة لبنان العامة. لبنان هو كيان ظهر سنة 1920. قبل 1920 لم يكن هناك ما يسمى لبنان أو مصطلح لبنان، كما لم يكن هناك ما يسمى فلسطين أو فلسطيني، ولم يكن هناك ما يسمى سورية أو سوري، إلاّ من ناحية إثنية وجغرافية. الفريق الذي أراد إنشاء لبنان بدأ يخطط لذلك منذ سنة 1880 تقريباً. ودراسة هذه الخطة لم تكتمل بعد. هناك بعض الكتابات في هذا الشأن، لكنها كتابات غير منشورة. فكرة لبنان بدأت في رأس مجموعة من المسيحيين الكاثوليك، بمن فيهم الموارنة، في لبنان وسوريا. ومن غرائب الأمور أن آباء لبنان ولدوا في الشام وعاشوا في الشام. لكن كان هناك ما يجمعهم، أي مسيحيتهم، وأنهم من الأثرياء الذين يطلق عليهم مصطلح برجوازية . هؤلاء أقاموا مشاريع تجارية، وخططوا لإقامة بلد اسمه لبنان بالحدود المعروفة، وهي حدود أخذوها من خريطة رسمها الفرنسيون سنة 1861. الخريطة كانت خريطة الطوائف، لكن هؤلاء الشوام قالوا آنذاك إن حدود ما أصبح لبنان الصغير في ما بعد يمكن أن تتعايش فيه الطوائف الموجودة في إطاره. وتطوّرت الأمور في سنة 1900 حتى صاروا يُسمّون هذا المكان Grand Liban أي لبنان الكبير، وراحوا يجربون صوغ تاريخ متماسك لهذا البلد المرسوم حديثاً؛ تاريخ يعود ستة آلاف سنة إلى الوراء، بل إلى بدايات التاريخ. من هنا جاءت قصة الفينيقية، مع أن لا شيء يربط لبنان اليوم بالفينيقيين. ولا توجد مؤسسة واحدة ظهرت في زمن الفينيقيين وما زالت مستمرة حتى اليوم، لا لغة ولا أدب ولا أي شيء آخر. ولكن مفبركي لبنان ألصقوا لبنان بفينيقيا غصباً عن الطبيعة. وجاء بعض علماء الآثار الفرنسيين ممن استهوتهم هذه الفكرة وانخرطوا في الترويج لها من دون أن يصدّقوها. وأنا أعرفهم، ولي مع بعضهم صداقات. كانوا يستهزئون باللبنانيين الذين يصدقون هذه الأفكار. إن الكلام على تاريخ عمره ستة آلاف سنة للبنان مجرد تزوير لا تزوير بعده. الخطير في الأمر أن هذا التزوير تحوّل في عقول بعض الناس إلى فكر راسخ. وحين نصحح لهم الأمر ونقول لهم إن هذا تزوير مكشوف، يرشقوننا بتهم مثل: مارق أو خائن... إلخ. الغريب في الأمر أن الناس الذين رفضوا الفكرة اللبنانية اعتقدوا أنني أبشر بالفينيقية.

ـ كتبك لا تتضمن ذلك البتة.

o ليست كتبي وحدها. بل إنني، منذ بدأت الكتابة، وللعلم فقد بدأت أكتب بالفرنسية لأننا كنا نتعلم الفرنسية في زمن الانتداب الفرنسي، كتبت مقالات في صحيفة L Orient أوردت فيها أن تاريخ لبنان هو تاريخ توافقي وليس تاريخاً حقيقياً. وإذا كانوا يريدون أن يكتبوا تاريخاً للبنان فيجب أن يكون تاريخاً حقيقياً. كان فينيقياً نعم، لكنه كان يمتلك عقلاً منفتحاً. لنأخذ تاريخ العائلات الحاكمة في لبنان. إن أول تزوير هو أنهم قالوا عن أنفسهم إنهم عائلات حاكمة مثل البوربون في فرنسا أو سكان جبال البيرنيه التي تفصل فرنسا عن إسبانيا. وعلى سبيل المثال آل شهاب وآل معن وآل بحتر، وهولاء ادعوا أنهم أمراء. يجب أن يتوقف المرء قليلاً ليفحص ماذا تعني كلمة أمير . إن كلمة أمير تعني قائد، أو ضابط. كان هناك عسكر وآمر على العسكر. هناك أمير عشرة، وهو أدنى رتبة. وأمير أربعين، وأمير مئة. أي أن أمير العشرة لديه عشرة خيالة تحت إمرته، وأمير المئة يكون تحت إمرته مئة فارس ومعهم ألف عسكري مشاة، وهذا يسمونه أمير مئة. أي أن لقب أمير هو لقب عسكري بحت. وكان العثمانيون، بدلاً من أن يدفعوا إلى هؤلاء القادة رواتب، يمنحونهم ما يسمّى إقطاعاً ، أي يقطعونهم منطقة ليجبوا منها الضرائب.

ـ أي أنهم مجرد ملتزمي ضرائب.

o سأقول لك تماماً كيف كانت الأمور تجري. يصدر فرمان يتضمن ما يلي: أنت يا فلان عيّناك أمير عشرة، ولك الجباية في منطقة عين المريسة. وعليك أن تذهب آخر كل شهر أو آخر السنة وتأخذ الجباية من عين المريسة. وأنت يا فلان جعلناك أمير أربعين، وسلمنا إليك المصيطبة، ما يعني أنك، حين يحين وقت الجباية، تذهب إلى بيت المال وتقبض منه ما تمت جبايته من المصيطبة. أحياناً تكون هناك بلاد صعبة الجباية. والعسكر الذين يتم تجنيدهم لخدمة الدولة قلما يقبلون الخدمة إلاّ تحت إمرة زعمائهم. فتأتي الدولة، في هذه الحال، بزعمائهم وتعينهم أمراء، وتمنحهم إقطاعاً ما. وعندما تمنحهم هذا الإقطاع فهي لا تعطيهم أرضاً ليمتلكوها، بل تعطيهم الحق في استلام الضرائب. وفي بعض الأحوال، إذا كانت جباية الضرائب صعبة، يأمرون هذا الأمير بالقول له: إذهب واجْبِ الضرائب. ومع ذلك يتحدثون عن الإقطاع اللبناني . وهذا ليس إقطاعاً. الإقطاع نظام أوروبي له تراتبيته، وأناس تخضع لأناس، والملك هو رأس هذا النظام... إلخ. هنا في لبنان لم يوجد هذا ولا ذاك. وهؤلاء الجماعة الأمراء لم يكن لهم أي رأي أو مشورة في حكم البلاد. إنهم مجرد عسكر وأمراء على العسكر. ومن جملة الأكاذيب، بل الكذبة الكبيرة، القول إن لبنان كان طول التاريخ محكوماً بأمراء من شعبه. وهذا غلط. كان هناك بالفعل، ما يسمى المقدّمون في بعض المناطق التي يسكنها أناس من ذوي المراس الصعب، مثل جبة بشري وبشري وإهدن والمنيطرة. فتأتي الحكومة وتعين شخصاً قوياً مقدماً عليها. والمقدّم هو من يجبي الضرائب ويقتص من المجرمين.

ـ أي يفرض الأمن.

o نعم، يفرض الأمن. أما في حال قيام هذا المقدم بأمر خاطئ، يرسلون إليه بعض الجنود ويلقنونه درساً لا ينسى، وأهم مثال على ذلك جبّة بشري. مَن يريد أن يدرس تاريخ لبنان قياساً على أوروبا في العصور الوسطى لن يتوصل إلى أي نتائج. العصور الوسطى في أوروبا لا تتطابق بالضرورة مع لبنان، مع أن اسم لبنان لم يكن موجوداً. جبل صنين لم يكن في لبنان. صنين كان في كسروان وبعد صنين شمالاً يمكن القول إننا في لبنان.

ـ لبنان هو بشري وجبة المنيطرة فحسب.

o من المنيطرة للجبّة مروراً ببلاد جبيل والقويطع. وبعد هذه الضنية، ثم عكار. وتلك المناطق لا تقع في لبنان.

ـ الشوف لم يكن في لبنان.

o الشوف كان منطقة قائمة بذاتها.

ـ وجبل عامل؟

o جبل عامل كان أمراً آخر وخارج الصورة تماماً. أما أن تأخذ هذه المناطق كلها، وتسمّيها اسماً واحداً هو لبنان، ثم تجعل لهذه المنطقة الجديدة تاريخاً جديداً، فهذا هو التزوير، وأنا صححت مساري في الكتابة التاريخية بالتدريج، لأن ثمة فكرة رسّخوها في رؤوسنا منذ طفولتنا، وكنا نعتقد فعلاً أن لبنان أبدي سرمدي.

ـ هناك كلام لأرنست رينان يقول إن كل شعب يجب أن يزور تاريخه ليصنع من نفسه شعباً متماسكاً. ومثال ذلك اليهود عندما أرادوا تحويل الدين إلى قومية اخترعوا تاريخاً له أول وليس له آخر.

o الفرنسيون أنفسهم فعلوا ذلك. فرنسا صارت دولة بعدما اجتاحت القبائل الجرمانية البلاد. فرنسا لم تظهر عندما كان فيها شعب الغالوا مثل أهالي ويلز. الغالوا اليوم غير موجودين إلاّ في بريتاني. واللغة الفرنسية متحدّرة من اللاتينية وليس من لغة أهالي بريتاني.

لبنان اختراع دمشقي

ـ عرضت بشكل مختصر قصة مشروع لبنان الكبير الذي هو مشروع البطريرك الياس الحويك. ويقال إن البطريرك الياس الحويك أصله من عين حليا، وجده يدعى شلهوب العوام، وكان أرثوذكسياً. ثم نزحت العائلة إلى شمال لبنان وتمورنوا، وامتهنوا الحياكة، لذلك سُمِّي جدهم الحويك. المهم، أنك تقول إن مشروع لبنان الكبير كان مشروع البطريرك الياس الحويك والمطران عبد الله الخوري، وأن الذي وضع المخطط هم كاثوليك دمشق وأدباء أمثال بولس نجيم.

o بدّل بولس نجيم اسمه إلى جو بلان . وعندما قرأت ذلك الكتاب اعتقدت أنه فرنسي، إلى أن اكتشفت أنه لبناني.

ـ هل وثائق هذا المشروع متوافرة؟

o لا أستطيع أن أقول لك إنها متوافرة، لأنني لم أشتغل عليه. وعندما قرأت ما أنجزه بعضهم في هذا الشأن استفدت كثيراً. وكان لديّ طالب أصبح فيما بعد زميلاً، وهو فهيم جداً، ولديه الروح التاريخية الصحيحة، وهو من عائلة طرابلسية هو مروان بحيري، وكان جامعاً للكتب. ولأن والدته من آل سارافيان وهي عائلة أرمنية هبطت لبنان قبل قصة مذابح الأرمن، أي منذ القرن التاسع عشر، وتاجرت مع العالم العربي ومع اليمن، وكان لديها مركز في الحُديدة، وهذه العائلة كانت مغرمة بجمع الصور والكتب والوثائق. وقد أطلعني مروان بحيري على وثيقة تتضمن خطة لإنشاء لبنان الكبير Grand Liban وشق طريق مهم يربط بيروت بدمشق، على أن يكون لبنان الكبير مرتبطاً بالداخل السوري لأسباب منها أن لبنان هذا سيقوم على ساحل البحر، وسيكون له شأن في التجارة، فيستورد البضائع من الخارج وينقلها إلى بقية أرجاء سوريا. وتلحظ الخطة حتى الفنادق التي لن تكون لخدمة بيروت وحدها، بل للمنطقة كلها. ولاحظت الخطة أن لبنان الكبير هذا، مع أنه ينتج الفاكهة الطيبة والخضراوات، إلا أنه لا ينتج المواد الأساسية بكميات كافية كالقمح مثلاً، وهو سيموت جوعاً إذا فرض الحصار عليه يوماً. لذلك سيعتمد لبنان على الداخل الزراعي السوري لتأمين حاجات سكانه. ولهذا السبب سيكون من الضروري وجود شبكة طرق وسكك حديد وقطارات، فهو يحتاج إليها لأن مساحته ضيقة، وتجب إقامة محطات على الطريق إلى دمشق، خصوصاً لأن في وسطه عوائق طبيعية تحتاج إلى ما يساعد القطار على صعود الطلعات القوية. وهو يحتاج أيضاً إلى كروسة ، أي طريق معبدة.

فخر الدين اختراع لبناني

ـ تقول إن لا وجود لفخر الدين الأول. من اخترعهُ؟ ولماذا جرى اختراعه؟

o خلال القرن التاسع عشر بدأت المعلومات عن أوروبا تنتشر في هذه البلاد. ومن جملة الأحداث أن شخصاً يدعى أرنست رينان جاء إلى هذه البلاد وسكن في قرية معاد في بلاد جبيل وراح يعمل في الحفريات الآثارية، ويكتب عن فينيقيا. وكان معه شخص درس في عين ورقة اسمه طنوس الشدياق، وهو شقيق فارس الشدياق. وفي كتابه أخبار الأعيان في جبل لبنان يذكر فينيقيا. وهؤلاء اللبنانيون، من خلال اتصالهم بالأوروبيين، صاروا يعرفون أن في إنكلترا وفرنسا مثلاً لوردات، وأن توارث الألقاب والسلطات ينتقل من الجد إلى الأب الأكبر إلى الإبن بحسب قوانين معينة، وينطبق الأمر نفسه على ملوكهم وأمرائهم. واستساغ بعض المؤرخين اللبنانيين هذه الفكرة وطبقوها على لبنان. وكان هناك شخص اسمه فخر الدين، وفخر الدين هذا كان ملتزماً جباية الضرائب في سنجقي بيروت وصيدا. وبعد ذلك التزم الجباية في بيروت وصيدا وصفد، ثم في بيروت وصيدا وصفد وعجلون... إلخ. أي أن الدولة العثمانية كانت توسع له نطاق التزامه. وعندما كبُر رأسه قام بالعصيان، فاعتقلته السلطات وساقته إلى الآستانة فحوكم وأُعدم. هذه هي قصة فخر الدين. وفخر الدين كان، في الوقت نفسه، شخصاً ذكياً جداً. فعندما سافر إلى إيطاليا وأقام فيها خمس سنوات...

ـ في توسكانا.

o صحيح. وقد سجل رحلته. ويمكن أن يكون أحد رجال حاشيته هو من كتب تفصيلات هذه الرحلة. وهي رحلة تعد أجمل من أي رحلة غربية للشرق. وفي النتيجة استفاد من رحلته فنظم طرقاً لتربية المواشي ولتطوير الزراعة والعمارة. وجاء بالطليان ودفع لهم الأموال لينشئوا له، في جملة ما أنشأوا، حديقة حيوانات. وكان موقعها في مكان Virgin Mega Store اليوم في قلب بيروت.

ـ كان اسم المبنى قبل الحرب سينما أوبرا .

o صحيح. وهذه شهادة لفخر الدين. لكنه كشخصية تاريخية لم يكن أكثر من سنجقدار، أو سنجق بيك التي تترجم إلى العربية أمير اللواء. ولهذا السبب صاروا يسمّونه أميراً. وفخر الدين هو قائد كتيبة، كان أمير لواء بيروت وصيدا ثم زيد عليها صفد وعجلون.

ثم جاء طنوس الشدياق وآخرون مثله ومنهم حيدر الشهابي، وكتبوا تاريخ لبنان على أساس أنه إمارة.

ـ كتاريخ أوروبا.

o بل مثل إمارة مونت كارلو. وكتب هؤلاء المؤرخون أن فخر الدين حين مات اجتمع الناس في سهل السمقانية وعقدوا الولاية... إلخ. والحقيقة أنهم لم يجتمعوا في السمقانية ولا من يحزنون. هم اجتمعوا في السمقانية ليروا ما هي الضرائب التي ستُدفع عنه. أما فخر الدين الثاني فهو مجرد تسمية أطلقت حين زوّر المؤرخون هذا التاريخ وجعلوه تاريخاً لدولة بيت معن. والحقيقة أن لا فخر الدين الثاني ولا أمراء في هذه البلاد، بل مقدمون. وعندما كان أحد المقدمين يعصى الدولة، أو لا يقوم بواجباته، تنحيه الدولة وتأتي بمقدم آخر. وكانت تحصر اختيارها بعائلة أو بعائلتين أو بثلاث عائلات.

ـ يفترض أن يكون والده يُدعى قرقماز.

o لم أجد قرقماز أيضاً، بل وجدت شخصاً آخر هو سويروس. ووجدت فخر الدين عثمان الذي أنشأ جامع دير القمر، والذي لا يمكن أن يكون له علاقة بفخر الدين الثاني لأن سلالته معروفة. ثم أن فخر الدين عثمان هذا جاء في آخر العصر الذي كان الاسم واللقب ما يزالان شائعين في الأسماء. فالاسم هو عثمان، واللقب هو فخر الدين. إذاً، هذا الشخص اسمه عثمان وفخر الدين لقبه.

ـ حكايات آل الخازن.

o بين الأسماء والألقاب في بلادنا لا يوجد فخر الدين الأول ولا الثاني بطبيعة الحال. هناك فخر الدين فقط. وفخر الدين هذا عندما كتب عنه أحمد بن محمد الخالدي الصفدي لم يسمّه فخر الدين الثاني. إن من أسماه فخر الدين الثاني هو مَن نشر كتاب الصفدي أي فؤاد افرام البستاني وأسد رستم. وهذان أسمياه فخر الدين الثاني. ولكن عندما تقرأ التواريخ لا تجد اسم فخر الدين الثاني، بل تجد أن هذا الرجل كان جابياً للضرائب. وتاريخه كله عبارة عن أعمال تحتاج محاسباً. كان لديه فلان في اسطنبول، وهذا الذي في اسطنبول غشّه بكذا من المال، وهو لاحقه في اسطنبول وأقام عليه دعوى. وجميع أعماله الرسمية مقصورة على جمع المصاري للدولة العثمانية والإبقاء على قسم من هذه الأموال في جيبه. وعندما مات قتل جميع أبنائه. والإبن الصغير تربى...

ـ عند الموارنة.

o مهلك. لم يتربّ أحد عند الموارنة. هذه حكاية اخترعها آل الخازن حتى يكبّروا أنفسهم. فقالوا إن ابنه الأصغر ربّاه الحاج كيوان. والحاج كيوان كان أزعر ونشّالاً. كان من الانكشارية المحلية (يارلية). وهؤلاء كانوا ما بين العسكر والزعران. وفي الحالات التي لم يكن العثمانيون قادرين على ضبط الأوضاع يلجأون إلى تسييبهم، ويقولون لهم إجمعوا ما تستطيعون من الأموال لكن عليكم تهدئة الوضع وضبط الأمن. وكان العثمانيون أنفسهم يشتكون منهم، وكثيراً ما كانوا يقتلونهم جراء ظلمهم الناس. وأخيراً عندما جاء حاكم قوي على بشامون قتل الحاج كيوان. ويزعم مزورو التاريخ أن الحاج كيوان هرّب فخر الدين وهو طفل مع أخيه يونس ليخبئهم لدى آل الخازن من أصحابه الموارنة، وأن آل الخازن ما زالوا يحفظون قصصاً كثيرة عنه وعن أخيه يونس عندما كانا صغيرين. هذا كله تجليط . هل رأيت وقاحة في تزوير التاريخ أكثر من هذه الوقاحة؟ منذ سنة 1953 وأنا أكتب في التاريخ. ولم أكتب لأخبئ نتائج أبحاثي، بل نشرت ذلك كله، وألقيت محاضرات كثيرة. فهل أثّرت كتاباتي في إعادة النظر في تاريخ لبنان المزوّر؟ لم تؤثر. لأن لا حياة لمن تنادي. والطريف أنهم ألفوا قصصاً عن فخر الدين الصغير وعن أخيه يونس حين كانا يلعبان في منازل آل الخازن، وبيت الخازن ما زالوا يحفظونها ويرددونها حتى الآن، وهي كلها حكايات موضوعة.

ـ فؤاد افرام البستاني كان يدرّس التاريخ كحكايات خرافية.

o في بداياته كان مختلفاً. فؤاد افرام البستاني كتب روائع. لكنه مع مرور الوقت، تغيّرت فلسفته. المسيحيون هم أرباب الأدب العربي. جميع الشعراء الكبار في الجاهلية هم نصارى، وحتى في العصور الإسلامية. مثلاً، أبو تمام كان مسيحياً. لذلك شدد نصارى لبنان على التراث العربي وارتبطوا به. لكن عندما اختلفوا مع المسلمين ارتدوا عن تراثهم بطريقة قبيحة وتنكروا لكل ما هو عربي. أنا عندما كنت في صف الفرشمان درست الروائع. والروائع فعلاً روائع. لكنني في نهاية المطاف لم يرق لي فؤاد افرام البستاني في برامجه التلفزيونية، وكيف يروي تاريخ لبنان وتاريخ فخر الدين. وعندما كتبت عن فخر الدين اعتمدت على تحليل الوقائع، فأصبت. أما اليوم فإن عبد الرحيم أبو حسين يؤكد استنتاجاتي. يقولون إن أباه سلطان البر ، أو جده سلطان البر. هذه نكتة سخيفة.

ـ أمير عربستان.

o عربستان تعني سوريا، نفير سوريا بحسب بطرس البستاني الذي يقول: بلدنا ومشربنا هي سوريا المعروفة ببلاد الشام وعربستان، جميعنا نتنشق هواها ونشرب مياهها ونأكل خيراتها. أما فخر الدين فقد حمّلونا إيّاه. وأنا في كتابي بيت بمنازل كثيرة قلت إن الدروز، الذين هم أصحاب فخر الدين، يعرفون حقيقته.

ـ لماذا لا يقولون الحقيقة إذاً؟

o لا يسمونه أمير البلاد. فخر الدين كان زعيماً محلياً وتسلم مركزه في زمن العثمانيين، وكان هناك مَن هم ضده، وآخرون وضعهم في السجن. وهؤلاء ساهموا في تسليمه إلى العثمانيين. وبعد الاستقلال قامت المؤسسة اللبنانية المسيحية بصنع تمثال له، ونصبته في بعقلين، فنسفه الدروز سنة 1983.

ـ كان وليد جنبلاط يعتبره عميلاً للغرب.

o أنا أفهم هذه العقلية لأنني عشت بينهم. إن فخر الدين المزوّر الذي نسفوا تمثاله في بعقلين ما زالت صورته معلقة كزعيم درزي. هم أصحاب القضية يعرفون الحقيقة لكنهم لم يكتبوا تاريخاً. والمشكلة أن بقية الطوائف ما عدا الموارنة (أو المسيحيين عموماً) لم تكتب التاريخ. فصارت الحال كما يقول المثل (مثل ما بتطبخ الطرما بياكل جوزها الأعمى). ثم جاء طنوس الشدياق وصاروا مثلما يطبخ يأكلون. يقول أنتم أصلكم من اليمن فيجيبون نعم أصلنا من اليمن؛ أنتم أصلكم ليس من اليمن، نعم أصلنا ليس من اليمن؛ أنتم أصلكم من حوران، نعم نحن من حوران؛ أنتم أصلكم غساسنة، نعم نحن أصلنا غساسنة... إلخ.

ـ تقوم النظرية العامة للمؤرخ جواد بولس على أن سلسلة لبنان الشرقية هي فاصل قومي بين لبنان وسورية. كيف تنقد هذه النظرية؟

o أين هو هذا الفاصل الإثني؟ حتى اليوم لا توجد منطقة صافية للموارنة. البترون وجبيل فيها مجموعات سنّية.

ـ أنت تسخر من اللبنانيين في كثير من الحالات، فتقول إنهم كذّابون، منافقون ويدّعون العكس، ويشتغلون عند بعضهم بعضاً ويُحِبّون الأشياء نفسها، ويكرهون الأشياء نفسها، ويشتركون في صغر العقل بشكل مثالي. حتى لعب الورق في الجبل اللبناني يصبح للنكايات و التزريك وليس للتمتع. وتنقل عن البطريرك بولس المعوشي قوله إن الموارنة شعب مخّه يابس مثل صخور هذا الجبل. هل يختلف الموارنة في هذا الشأن عن بقية سكان الجبل في لبنان، وعن بقية سكان الجبال في بلاد الشام؟

o الموارنة أصدق من غيرهم. أحياناً يرون الحقيقة على حالها ولا يخشون من قولها. عندما قال لي بطريرك الموارنة هذا الكلام، وأنا لست مارونياً، وهو يعرف ذلك، فهذا أمر يُحترم. وحتى عندما يكذبون يقولون: هذه كذبة. الوعي لديهم متطور أكثر من سواهم، ولديهم ثقة بأنفسهم لأنهم ظلوا مدة طويلة يتخذون قراراتهم بأنفسهم، وحقبة طويلة أيضاً كانوا يتخذون القرارات بالنيابة عن غيرهم. أخطأوا أحياناً، وزادوها أحياناً أخرى، و خبّصوا ، ولم تكن نهايتهم كبدايتهم، هذا كله صحيح. ولكن لا مأخذ عليهم إذا قالوا إننا شعب مخّه يابس، وإن تاريخنا قرون من معاندة الصخر.

عربي أم فينيقي؟

ـ هل لبنان عربي أم متوسطي أم سرياني أم فينيقي؟

o لبنان عربي. أكثر بلد عربي عروبة هو لبنان. وفيه جميع أخطاء العرب، وجميع صفات العرب الحميدة. نحب الحرية ونتزعرن . هات تاريخ العرب وأعصره تجد تاريخ لبنان. وبهذا المعنى فإن لبنان أكثر بلد عربي في العالم العربي. إنه بلد عربي لا دين له. كان المرء يذهب إلى إفريقيا الشمالية يجد ما يسمى المسلمون الفرنسيون ، ولا توجد كلمة عربي. اليوم صاروا يقولون عن أنفسهم عرب. وعندما يقولون عربي فهذا يعني أنه مسلم . أنا تجوّلت في العالم العربي المشرقي. لم أجد مكاناً إلا اعتقدوا فيه أنني مسلم. وعندما أقول لهم أنا لست مسلماً بل مسيحي، كانوا يصابون بالدهشة، ويروحون يسألونني: إذاً كيف تتكلم العربية؟

ـ لا يستطيعون التفريق بين الدين والقومية. ميشيل عفلق أبو القومية العربية الحديثة، ومعه قسطنطين زريق، وكذلك جورج حبش وأنطون سعادة. هؤلاء جميعهم مسيحيون. هذه المشكلة موجودة في شمال إفريقيا. ولكن في المشرق العربي (لبنان وسورية وفلسطين والأردن والعراق) أعتقد أن هناك وضوحاً في أن العروبة هي إطار ثقافي وحضاري، أما الدين فشأن آخر.

o بلادنا، وأنا أحب استعمال كلمة بلادنا حتى تشمل أبعد من لبنان، وكي لا يقولون عني هذا سوري قومي أو قومي عربي، هي أرض العروبة الأصلية. العروبة لم تأتِ من الجزيرة العربية، بل نشأت هنا.

ـ تقصد العروبة كفكرة وكثقافة.

o لا. العروبة كلغة. أول كتابة عربية ظهرت في بلادنا، قرب درعا في حوران. كان عالم الآثار الفرنسي الشهير مسيو دونان الذي اشتغل على جبيل، وجد في درعا نصّاً بالحرف المسمى فينيقياً، وهو الحرف الذي كتبت فيه لهجات مختلفة من اللغة الكنعانية ومنها العبرية التوراتية ومنها ما يسمونه الفينيقية، ومنها لغة شرق الأردن المسمّاة موآبية... إلخ. هذا النقش حيّرهم. ولم يتمكنوا من فك لغته أو قراءته بالفينيقية أو الكنعانية. جربوا جميع اللهجات الكنعانية ولم يستطيعوا شيئاً. أخيراً، خطر في بالهم قراءته بالعربية. فتبين أنه عربي، ومكتوب بالحرف الكنعاني. وهذا يعني أن العربية ليست أحدث لغة كنعانية. الكنعانية كُتبت قبل العربية، لكن العربية هي أقدم اللغات السامية. واللغة الكنعانية هي مجرد لهجة من لهجات العربية، وكذلك اللغة الآرامية والتي ألفظها هكذا: إرامية (بكسر الألف) بحسب لغة القرآن. وإحدى مآسي التاريخ ان اليهود اتخذوا الاسم الغلط لهم. هم يهود وليسوا إسرائيليين. ثم إنهم سكّروا على أنفسهم الأبواب التي يمكن أن تساعدهم في فهم أنفسهم وتاريخهم ولغتهم وأدبهم.

ـ علم الآثار الإسرائيلي ما برح يبرهن صحة نظريتك ولو بصورة غير مباشرة. وعلماء الآثار الإسرائيليون لم يجدوا خشبة واحدة حتى الآن، لا من هيكل سليمان ولا من حقبة داوود ولا أي أثر مما ورد في الرواية التوراتية التقليدية.

o إنهم يقولون الحقيقة.

(*) مقاطع من حوار طويل ينشر كاملاً في العدد الثاني من مجلة الآخر ، الذي سوف يصدر في أواخر أيلول الجاري.
(السفير)