فراس السوّاح
في عام 1971 قصدتُ الولايات المتحدة في منحةٍ دراسية قدمَتْها لي المنظمة الدولية وكنت حينها في الثلاثين من العمر. وصلتُ إلى واشنطن العاصمة في ذروة اشتعال ثورة الشباب التي انتقلت من أوروبا إلى أمريكا متأخرةً بعض الشيء، تلك الثورة التي طمحت إلى تغيير العالم في ذلك الوقت، وإلى تقويض البنى السياسية والاقتصادية للرأسمالية الحديثة. ملايين الشباب الذين ينتمون إلى أسرٍ ميسورة الحال تركوا بيوتهم ورغد عيشهم وراحوا يجوبون أنحاء البلاد يتظاهرون ويغنون ويرقصون، لا من أجل مطلب معيشي، وإنما من أجل زعزعة الديمقراطية الأمريكية الزائفة ونُشدان العدالة على مستوى العالم، وكان مطلع أغنيتهم المفضلة يقول: Power for the people أي السلطة من أجل الشعب. مشيتُ معهم وتظاهرت ضد حرب الفييتنام، وشاركتهم جلساتهم المسائية أمام خيامهم التي نصبوها على ضفة نهر الباتوماك. ولا أنسى ذلك الأسبوع الذي تقاطر خلاله متظاهرون قادمون من شتى أنحاء الولايات إلى العاصمة وحاصروا البيت الأبيض ومبنى الكونغرس وبقية المؤسسات الحكومية الفيدرالية، وملأوا المدينة التي بقيت تحت سيطرتهم عدة أيام.
لقد بقيتْ تلك المشاهد محفورةً في ذاكرتي مدةً طويلة، وكنت أتسال عما إذا كنا سنحظى بثورةٍ مشابهةٍ في العالم العربي. ولكن الثورة تأخرت وخبت الذكريات والآمال حتى ابتُعثت بعد أربعين سنة عندما اندلعت حركة الشباب المثقف في سورية، تلك الحركة التي أكدت لي أن الحيوية التي عُرف بها الشعب السوري عبر تاريخه لم تمت إنما كانت كجمرٍ تحت الرماد يوشك أن يكون له ضرام، وحلمت بحركةٍ شبابية على مساحة الوطن تعيد خلق المعارضة السياسية ابتداءاًَ من الشارع لا من جلسات النخب السياسية المثقفة. ولكن سرعان ما تبين لي أن هذه الحركة، (أو الثورة كما يفضل أهلها أن يدعونها) التي قدحت الشرارة الأولى لاحتجاجات الشارع، مطالبةً بالإصلاح السياسي والاقتصادي، قد ولدت مُخَتَرَقة. وهذا الاختراق جاء من عدة جماعات تبعت الشباب المثقف إلى الشارع متسترة بمطالبه.
جاء الاختراق الأول من قبل الأصوليات الإسلامية التي نعرف من تاريخها أن لا أداة لها في السياسة إلا العنف. وبما أن العنف يستجلب بطبيعته العنف المضاد، فقد ناشدتُ الشباب في ندائي الأول لهم على FaceBook أن يعزلوا أنفسهم عن هذه الجماعة لأن أقدام الفريقين المتحاربين سوف تدهسهم وتجهض حركتهم النبيلة، لاسيما وأن فريقاً مُضلَّلاً من هذه الجماعة بدأ برفع شعارات تحض على الفتنة الطائفية التي ما لبثت أن اندلعت في عدد من الأحياء والمدن، وتحولت إلى مواجهات عنيفة بين أبناء البلد الواحد.
الاختراق الثاني جاء من حركة احتجاجات ذات مطالب معيشية، وأصحابها لم يكن يهمهم إصدار قانون جديد للانتخابات أو الأحزاب بقدر ما يهمهم حل مشاكلهم الاقتصادية. وبما أنهم ينتمون إلى أقل الشرائح في المجتمع حظاً من التعليم، فقد كان من السهل عليهم الانقياد بسهولة إلى دعوات العنف من جهات مشبوهة، فحملوا السلاح وتجابه أبناء الوطن في حربٍ لا رابح فيها.
الاختراق الثالث جاء من ثقافة الثأر المتأصلة في السيكولوجيا العربية. ففي أي مواجهات بين المتظاهرين وقوات حفظ النظام، حيث يبلغ الأدرينالين أعلى مستوياته في الدم، سوف يكون هنالك إصابات في صفوف كلا الفريقين، وهذه الإصابات تزداد مع إفراط الأمن في استخدام القوة على ما آلت إليه الأحوال لدينا، ويتولد في الشارع غليانٌ دافعه الثأر فقط، وكلما زاد عدد الإصابات في الجانب المدني زادت الرغبة في الثأر، وصار من الصعب كسر هذه الحلقة المفرغة.
الاختراق الرابع جاء من تحرك تلقائي لجماعات من المراهقين الذين رُمي بهم خارج نظام التعليم لأسباب متعددة، وخارج سوق العمل الضعيف، فوجدوا في حركة الشارع تنفسياً عن غضبهم وعن طاقات المراهقة المتفجرة، فانتظموا في عصاباتٍ ترمي الأحجار على الأمن وتعتدي على الأملاك العامة والخاصة.
الاختراق الخامس جاء مما يدعى بالمعارضة الخارجية، التي رحل ممثلوها الذين نراهم على شاشات التلفاز عن الوطن منذ عدة عقود، واندمجوا في مجتمعاتهم الجديدة حيث حصلوا على الجنسيات وأنجبوا أولاداً صاروا في سن الشباب لا يعرفون اللغة العربية، ويشعرون بالحرج أمام رفاقهم من أصولهم المشرقية. وأنا إذ لا أنكر على هؤلاء المغتربين الاهتمام بشؤون الوطن الأم، ولا حتى تنظيمهم للتظاهرات التي تعبر عن رأيهم في مغترباتهم، إلا أنني أنكر عليهم العمل المؤسساتي المنظم، الذي يهدفون من ورائه سرقة كدح وجهد ودم الشارع السوري، لاسيما وأن معارضتهم قد ترعرعت تحت رعاية عثمانيةٍ في أنطالية، ورعاية محفل صهيوني في باريس، ورعاية الخارجية الأمريكية وواشنطن، وها هم أخيراً يؤكدون هويتهم وانتماءهم باختيار الدوحة مكاناً لاجتماعهم قبل التوجّه إلى الباب العالي في اسطنبول. وقد تمخضت هذه المعارضة فولدت فأراً دعوه بالمجلس الوطني السوري، لن يكون هدفه الذي سيعلن قريباً سوى طلب الحماية الخارجية، أو بمعنى آخر: التدخل العسكري الهادف إلى تدمير الجيش السوري نيابةً عن إسرائيل.
الاختراق السادس وهو أخطر هذه الاختراقات، جاء من تلك الجهة الشبحية التي تطلق التسميات على أيام الجمعة والتي لا أملك عنها من المعلومات ما يؤهلني لوصفها وتحديدها. ولكنني أسألكم: من الذي أطلق تسمية جمعة طلب الحماية على يوم التاسع من أيلول؟ فإن لم تعرفوا، ولن تعرفوا، فقد آن الأوان من أجل إعادة الحسابات، والبحث عن حلول واقعية تشفي جراح الوطن النازف وتحميه من كارثةٍ وشيكة.
(صفحة الكاتب على فيسبوك)