الطالع علينا من القنوات الفضائية الذي كرّسه الإعلام المأجور ممكّنا من هبّ و دبّ من أن يكون سلطة مرجعية في الدين و الإفتاء. و بسبب الواقع الثقافي و التعليمي البعيد عن أية مرجعية نقدية للمعرفة وجد هذا الخطاب أرضية صالحة للنمو و أوجد للناس إجابات عن كل الأسئلة في إطار حقل بيداغوجي مستعاد لا يجد المُبلـّغ إشكالا في تمريره كما أنه خلّف كسلا لدى الناس الذين لا يجدون صعوبة في الوصول للمعلومة التي تنهمر بكبسة زر دون الإضطرار للبحث أو القراءة.
و ما عداء العلمانية إلا بسبب نقص الفهم فالإنسان "عدوّ ما يجهل" كما أن ربط العلمانية في الوعي بالتكفير هو الذي منع الخاصة فضلا عن العامة من محاولة فهمها أو فهم غيرها من ظواهر التفكير التي يفرزها المجتمع الذي نعيش فيه بعد أن صار الفكر استهلاكيا يفضل السكونية و ينبذ الجديد.
إن المرجعية الدينية لبلادنا ليست محل شك أو مساومة و لكن إثارة الجدل في هذه الأيام بالذات و إن كان له محله ضمن النقاشات المطروحة إلا أنه ليس من أولويات البلاد، هذه البلاد العطشى للديمقراطية و المواطنة و المساواة الإيجابية لا تفتأ تنتقل من الكراهية إلى الكراهية، من الإقصاء إلى الإقصاء و من غياب الثقة إلى غياب الثقة مع اختلاف في مراكز الثقل.
إن الأطراف المستفيدة من هذا الجدل العقيم الذي لم يلق تأطيرا فكريا و لا توجيها علميا بل ظل في مستوى إعلامي سطحي، هذه الأطراف ذاتها هي التي تشغل الشعب عن أولوياته و تستعمل منابرها لإدارة الجدال حول هذه المسألة أو تلك تكريسا للتعتيم الذي كنا ولا زلنا نعاني منه و الجمهور الذي تعوّد على استقاء المعلومة من غير مصادرها الرسمية بل في شكل شائعات أو جلسات خاصة صار يطالب بالبديل و لكنه لا يملكه كما أن الإعلام في حد ذاته بحكم عدم حياده يظل ينظر لنصف الكأس دون النصف الآخر و بالتالي فهو يكرس الأحادية لا التعددية.
إن العلمانية لا تعني اللاتديّن و هي ليست تهديدا للدين بقدر ما هي حفاظ على جوهره و خصوصيته فهي لا تعني إلا فصل السلط الدينية عن السياسة و الإدارة و الحد من تحكمها باسم السلطة الإلهية و في أهم الدول التي اعتمدت المقاربة الاسلامية لا تخلو الطبقة الحاكمة من الصراعات بسبب تحكم الأحزاب الدينية في مقاليد الحكم و حدّها من سلطة الدولة لا لفائدة الدولة بل لفائدة أطراف داخلية و خارجية تهدد الدولة ذاتها فالدكتاتوريات الدينية لا تختلف في شيء عن الدكتاتوريات العمالية أو العسكرية أو غيرها و قد ارتفعت في الآونة الأخيرة أصوات تنادي بتوسيع صلاحيات جامع الزيتونة المعمور ليصير مثل جامع الأزهر المصري و لن يكون هذا إلا إيذانا بجدب و قحط فكري.
إن الحكم المدني لا يقصي استلهام الأحكام الدينية و لا يمنع احترام الأديان و حمايتها و كما أن القانون هو نتاج مجتمعي تاريخي فإن المجتمع نتاج القانون أيضا و في مراحل معينة يجب أن يكون القانون صارما و خاليا من الالتباس ليتقدم بالمجتمع نحو الرقي و المواطنة الحقة و من مبادئ الدولة الأساسية أن تكون مدنية لأنها متعددة الأطياف و الأديان أما الحكم الديني فيعني إضفاء القداسة و الإطلاقية على الدولة و على شخص الحاكم مما يجعلها كيانا علويا كليانيا يكون فيه الشعب موردا من الموارد التي تتصرف فيها الدولة لا بشرا لهم حقوق و واجبات و العلمانية لا تعني الخضوع بالضرورة لأجندات غربية إنها مرحلة من حكم الشعب لذاته و تقريره لمصيره و بلادنا جديرة بذلك أما أولئك الذين يسطون على الأحداث فهم يسرقون الذ ُرَة و لا يجرؤون على طبخها لأن التجارب السياسية التي تخلو من التعددية و من تمثيل كل الشعب هي تجارب فاشلة لا محالة و التاريخ شاهد على ذلك.