آخر الأخبار

"قبلة خرساء" ل " سوزان خواتمي"/ بمدادنا تمحو صمت القبل و تصنع ضجيج العشق

لتتابع حياتي رتيب يبدو هائما ملعونا بسطوة ريح مزاجية تفيض عتمتها حزنا و فجرها اشباحا مستغرقا في شهيق لا يتناقض مع معجزة الحياة ذاتها و هو يحل كإعصار محكوم بميقات و اسوار على صفحات سوزان خواتمي في مجموعتها القصصية "قبلة خرساء : صوت يصعد شجر الحكاية".
تبتعد كثيرا الى ما خلف الزوايا و منحنيات الواقع و خارج فضاء يتحرك فيه الابطال يصنعون لتأريخهم علبا من ورق سرعان ما تنفتح امامنا على حقول خصبة ناثرة قطافها دانيا لمن ودّ ان تمتزج عيناه بسمات اللوحات المرسومة بدقة عالية لا تخلو من حرفية و إتقان...انها خواتمي التي تضعك امام وجوه تحملك مسؤولية تشييد ملامحها بنفسك لتكون انت او غيرك بدل من كانوا في "خرائط الغياب" و "مواء " و "نعي فاضلة"..و.... و هي عناوين القصص القصيرة التي ضمتها مجموعتها المكونة من سبعة عشر لونا مستقبلة اضافات القاريء المتغايرة و الواسعة الطيف.
هي لا تعتمد إحكام غلق الباب خلفك وانت تدلف حقولها طوعا، بل تدعك مذهولا بين الانصعاق من رؤية نفسك في مرآة الحقيقة و بين تصديك لانعكاس ذاتك على السطوح الصقيلة المحيطة بك حيث لا هروب من جدرانك الا لداخلك من خلال اجتياز مجموعة قمم و تضاريس حادة الزوايا و المنعطفات قد وهبها ريع القاصة حصاد غمام من خطوب و نيازك يحتشد بها فضاؤها مجهولة المصدر و مرعبة بلانهائية سيرها الذي لا ينتظر انطفاءه ليغيب ابدا.
المرأة بالطبع كانت في البيوت المغلقة على صمتها تحبك دروبها طائعة و مخاتلة لنسيج مجتمعي غاية في التعقيد لا يضعها بين مدخل و آخر بل يأسرها على سكة اقيمت لقطار لابد له من السير راضيا مرضيا عليه او الانحراف حيث لا نهاية مفاجئة بين قوسي نافذة قتيلة لم تعد تفتح الا على جدار اسمنتي اخرس.
في "أقلب اوراقهم مثل شمس تتلصص" لا يمكنك العثور على كل الشمس و لا على بقايا إشعاع منها بل تتيه بين غروب و شروق و عتمة و ضياء اذ تتبادل الام و ابنتها حوارا اشبه بالجدل بين الرحيل و المكوث بين الموت و الحياة الابدي و هو جدل يصطحبك حتى النهاية كهبة الارتماء في احضان غرفة او هوة فضاء مرعبة سيان ان وجدت او لم تكن على الاطلاق.

تنحسر القوانين الصارمة لمجتمع يرمم صدع الصمم لما قد يصدر من "مجرد ظاهرة صوتية " و ستائر معتمة لما قد يضيء من شمعة المرأة او امل الطفلة و بين هذا الطريق المبتديء توا و ذاك المنتهي قريبا و حقيبة سفر حائرة اين عساها ان تستقر لرجل اشبه بالذكرى ترسم المباغتة امام دهشتك الكثير من علامات الاستفهام..دون تدوين سؤال او اقتراف اجابة و ان كان قلم خواتمي قد عرف من اين للينابيع اكتناز عذب المياه.

اما في "نعي فاضلة" فلها من الجرأة ان تضع الموت على طاولة نقيضه لتجد نفسك امام جنازتك و هي تسير محمولة على الاكتاف و بعض ممن احببتهم يفكرون في ثقل زمن المراسيم وهو ينقل خطاه بحزن شديد لا يتسق مع لهفة الاحياء المتسارعة النبض لمواصلة حياتهم بعد موتك و بنهم اشد و كأنك لم تعش و تمت الا لتذكي نار الرغبة في نفوس انطفأت جذوتها قبل رحيلك.
و لا تنسى خواتمي ان تجعل الرجل في محل المتشوق الذي يسرقه الانتظار لجماع الجارة عما يقتضيه الغطاء الاجتماعي من نفاق و المرأة في تابوت الرحيل غير مأسوف عليها لتشكل ثاني حلقة داخل المجموعة القصصية لسلسلة طويلة من فولاذ قيود الانثى ضاربة في عمق ارضية بنايات شرقية متآكلة عفنة تفتقر الى سرعة حركة ما يحيط بها على كوكب اسمه الارض.

و تواصل في "ثلاثة الوان لحكاية بلهاء" الرص ذاته لبناء متين اساس لبنته الصوت البشري المتصاعد و بنبرة اشد حتى ليبدو احيانا اشبه بالصراخ الذي يطلقه العراء عند قدمي مخبولة عاجزة تحتضن قبر ابيها لتنساب حكايتها بين اوهام عشق و ملهى للرقص وملجأ طفل لقيط و اصابة بالعجز جراء غرز خنجر قانون سلطة الذكر و هو يجز ما تبقى لجسدها من قدرة على الحركة حتى تجدها منخورة الاسنان تمد ساقيها كبهيمة تنظر الى البشر من ثقب حظيرتها في قبو اجاد به القانون نفسه كبعض فضلات مما ورثت عن والدها.

الحيرة التي تفيض بحارا هائجة متوجة بطل قصة "امرأة لا تبكي" هي ذاتها التي تلجم فاها كان يحتج قبل هنيهة متأملا في الوديان القاحلة صدى ما!.
لا البحار تقترب و لا الوديان تتحول الى رمل الشاطيء لتغيب الانثى خلف باب اخر من ابواب الخرس و القبل المتساقطة كورق شجر جاد و ذوى ذات خريف.

سلوم الراوي يفقد وطنه كسلك لا لون له ضمن خريطة من الاسلاك الشائكة لاحاجي تحاصر العراقيين ولا تترك لهم اثرا خارجها ليكون وادي الرافدين بقعة مشؤومة تبتلع ابناءها بتخاذل يكاد يكون خفيا لمن يبصر ما بعد حدودها و خلف جدران الغياب الغليظة تنسج الاساطير فلا احد يعرف عن الراوي شيئا سوى التكهنات التي قد تكون عارية عن صحتها فصاحب القدر الذي رافقه و مضى اعلم بغيره مما حل به و حتى خواتمي لا تستطيع الجزم فمن اين لها ذلك و حكايات الف ليلة و ليلة مختلفة و غريبة عن بعضها البعض مخزونة في ذاكرة العدم او ذاكرة عراقي ربما قد دفن في مكان ما او سجن او اجتاز الحدود بجواز سفر مزور حيث نحيب الغربة و خوائها لا يختلف في عدميته عن مقابر جماعية تصمت عظامها بلا مبالاة امام تساؤل الامهات و صراخهن عسى ان تكون هذه العظام و ليس غيرها لابن قد رحل.

و في "ظلال حافية" تجعل خواتمي من اينشتاين و نسبيته رفيقي طريق لفتاة حافية لا تحدث صوتا و هي تمر مسمرة العينين صوب جهة ما يحاول اهل البلدة التكهن بها فيغني و خطاها كل على ليلاه دون ان يتمكنوا من ايقاف قدرها المحتوم و ربما قدرهم هم ايضا.

و لذلك لا تحترق اصابع البطاطا فقط في "اصابع بطاطا تحترق" بل كل ما حولها يتحول الى مجرد دخان و فوضى و اسئلة شرطة و الصمت سيد الادلة مادامت كدماتها الزرقاء و الحمراء و انينها و اوجاع الليالي و الريبة و الشك لم تدل جميعها على اثر جريمة تذكر تستوجب احتلالهم لبيتها المقلوب رأسا على عقب و ليس سوى الحبل من شاهد.

و لابد للفقر و الغنى ان يرتديا الاخرين ثيابا و لاجلها... لاجل هذه الثياب وحدها تنحني الهامات و تلامس الجباه الارض فمن كساه الثراء و من عراه العوز يسجدان امام وثنية المال التي تصنع الهتها بعيدا عن اعين السماء و عن "الحب او ...لا شيء عنه" مطلقا.

عادة ما يلفظ الحب انفاسه الاخيرة في مخدع النوم هكذا هو الامر حين تذبل الموسيقى و يحلق العشق مغادرا الوانه المبهرة اللامعة لتصبح الرغبة واجبا مدرسيا كريها وان كان يعني الانتقال الى عام دراسي جديد و "رقصة الفالس الوردية" ينصل لونها و تفقد بهجتها ... و دون ان يكلف نفسه جهدا يجدها قد غادرت ليتنفس الصعداء علّ رقصة وردية تبدأ من جديد.

لكن هذه النهاية لم تستوف الشروط لتكون زكاة مؤمن في قصة "مواء" :-
"يسوقني نحو الفراش اقبض نصف جسده ، نصف قبلاته ، نصف يومه ، نصف ملابسه ، نصف ماله
""انه شرع الله..و انا رجل عادل..هل ستمنعين ما شرع الله؟

وبين ظل رجل قد تهاوى في حفر كالفخاخ و مقهى يبدد الانفاس كما تبددها آفة السرطان في انتظار قضمة اخيرة من اشلاء باردة تتربع الغربة لتقف حائلا بينه و بين جسد "إيما" الملوث ببقايا بصمات غيره تعتاش على غيظه كأن اصابع خفية تعابث فحولة شاربيه الشرقيين المنتوفين خجلا و وضاعة لتتمزق رسائل "مراد الآغا" الوهمية و لا تصل رفاق المقهى ابدا حتى بعد عشر سنوات من الرحيل نحو غرب يتجاهل ويدعي نسيان الشرق الاوسط.

زهرة تقطف من غصنها لن تذبل الا في قدح ماء صغير بعد رقعة باهتة مقتطعة بسكين متعثر الحدين من زمن لست تملكه و مكان ابصر بمصيرك ممن يقيم بعيدا عن الازقة..لن تكتفي زهرة بماء حنفية فحسب و هي بنت الربيع المدللة..انه ما يدعونه بداء الفروقات الطبقية التي في غمرة الاحلام تدوس ب "العقب الحديدية" بدون رحمة على ارق منطقة من وريد العنق و لن يجدي الاصغاء لما قد يصدر عن البتلات من ندى.

و تحت سقف المعضلة تظل "قبلة خرساء" هي كل ما بحوزة الانثى حين تكون المرآة مقياسا لمدى صلاحيتها للاستخدام او الانتفاع بها كشيء...و كما لكل الظواهر الطبيعية و الفيزيائية مقياسا و هي تمر كالعاصفة او الزلزال او الحمى او تلك التي تقيم ابدا معنا كالضغط الجوي و الكثافة و الكتلة كذلك سيكون للمقياس كلمة الفصل ليحتكم اليه ان كان عليها الاستمرار بالوقوف امام مرآتها او الكف عنه و هي تقر مؤمنة بان قبلة بعاهة مستديمة خير من احالة انوثتها للتقاعد و معاملتها كعانس محتملة بعد الثلاثين.

لم تكن سوزان خواتمي في كل ذلك قد وضعت بوابة رئيسية لاجتياز الاسوار العالية حيث يختبيء ضحايا القبل الخرساء رجالا و نساء بل حاكت و ببراعة عشرات المداخل الخضراء اليانعة او الشاحبة الجافة او المتخشبة المجعدة و تركت لنا تمزيق الاوهام المتراجعة امام خطى تشحذها بصيرة اكتشاف حادة في تساؤلها المتواصل عما ستحمله رائحة انسكاب الاثار البشرية على الورق.
هنا تقترح عليك اللغة ان تحمل الريشة الرشيقة لتهب كل ما لديك من زينتها كاملة غير مفتعلة و يتشكل مدادك محاكيا ابطال خواتمي بابعادهم المجسمة مبهورا بتوقيعها الغض على لوحات متكونة حديثا.
ان هذه المجموعة التي تحتفي بالانسان و هي تشده نحو دفء حضن رؤوم دون ان تضمن له خارجه سوى ما حدث و ما سيحدث تنتزع من بين نجومه كل ما يكفي لامرار ظلام ايامه في موشور لا يخطيء ابدا اصطياد بقعة ضوء تستظل بها "قبلة خرساء" متحولة عن كثب الى "صوت يصعد شجر الحكاية".