(الجزائر)
ذات يوم وأنا أهبط عبر أزقة حى القصبة بمدينة الجزائر، واتتنى فرصة مقابلة راوى حكايات عربى عجوز. كان هذا الرجل الضئيل الضامر والمحنى الظهر، والأعمى منذ سنوات، يحمل بداخله عالما بكامله من المعرفة والحياة. وكان هو الذى لم تعد عيناه تريان يستطيع أن يستدعى لمستمعيه الصحارى والبحار الهائلة الاتساع. وعند الاستماع إليه كانوا يجدون أنفسهم فجأة منقولين إلى أماكن أخرى وعصور أخرى. وكانت لغته المعبرة تعطى الحياة لآلاف من الشخصيات، وكان صوته المرتعش يستطيع أن يتحدث جيدا عن الطبيعة إلى حد أنه يقال أن صوته كان يغدو بالتناوب رياحا رملية، ورياح البحر، والنسيم المنعش للواحات، وحفيف أشجار النخيل، وطقطقة النار.
ويحتاج الأمر إلى كتاب بكامله لتدوين الحكايات التى حملتها ذاكرتها. ومن بين تلك التى باح بها لى أمام كوب من الشاى احتفظت لكم بقصة "إمحمد" والياقوتة الحمراء.
كان "إمحمد" ابن تاجر غنى فى باحة سوق ["فندق"]. وكان فى الثامنة عشرة من عمره عندما مات أبوه تاركا له ثروة كان يعتقد خطأ أنها لا تنفد. وكانت سنتان من الاحتفالات، والولائم، والليالى المجنونة إلى حد ما، تكفيه لتبديد ما وضع أبوه حياة بكاملها لاقتصاده. المسكين، لقد وجد نفسه وحيدا وفهم أن أولئك الذين كانوا يقولون إنهم أصدقاؤه لم يكونوا يحبونه إلا من أجل ماله. ومجبرا على ترك مسكنه لدائنيه، غادر المدينة ومضى فى طريق دون أن يعرف حتى إلى أين يقوده.
لم يكد يسير بضع ساعات عندما اكتشف بمحاذاة مزرعة نخيل، جسم فتاة مربوطة بالجذع الغليظ لشجرة. واقترب بقصد إنقاذ الفتاة التعيسة، غير أنه أدرك أنه وصل بعد فوات الأوان. كان جرح كبير مفتوحا فوق رقبتها وكان يبدو أن الفتاة ميتة.
عندما فحص الجرح، اكتشف "إمحمد" أن ما كان يسيل لم يكن قطرة دم بل كان ياقوتا أحمر. أخذ الحجر الكريم ومضى فى طريقه. وفى القرية الأولى استطاع أن يستجم ويشترى حصانا ويدفع أجر ليلته فى الفندق. ورقد لينام غير أنه رغم تعبه لم ينجح فى أن يجد النوم. ذلك أن فكرة أن أحجارا أخرى يمكن أن تسيل أيضا من هذا الجرح المفتوح منعه من النوم. وعند منتصف الليل تقريبا، غير قادر على البقاء هناك، ركب حصانه واتجه إلى بستان النخيل. كان نور القمر كما لاحظ "إمحمد"، من بعيد جدا، شكلا أبيض يهتز إلى جانب الفتاة. وتاركا حصانه، تقدم بلا ضوضاء، متخفيا وراء الأشجار. وعندما لم يعد إلا على مسافة عدة أمتار من الأسيرة، سمع سوطا يفرقع. وكان صوت رجل يصرخ:
"إذا لم تقبلى الزواج منى، سأقتلك... سأجعلك تموتين ببطء بآلام فظيعة".
وفرقع السوط، منتزعا عويلا من الفتاة.
ثائرا، اندفع "إمحمد"، وخطف السوط من بين يدىْ من يعذب الفتاة، وضربه بكل قوة إلى حد أن الآخر تدحرج على الأرض، متوسلا الرأفة.
"لا تقتله، غمغمت الفتاة، دمه سيقع علينا ويجلب علينا الشقاء".
توقف الصبى عن الضرب العنيف وهرب الرجل بسرعة شديدة.
وفيما كان "إمحمد" يخلصها من قيودها، استعادت الجريحة الشابة قوتها وبدأت تتكلم.
"اسمى الياقوتة الحمراء، قالت، وأنا ابنة لابيود إلياكوانتى، الجنى الذى يحكم كل البحار. وقد ارتكبت خطأ الابتعاد وحيدة عن قصر أبى، وهذا الرجل الذى تعرَّف علىّ أسرنى لكى يلتقط الياقوت الأحمر من دمى. وأراد أن أتزوج منه لكى يكون لديه ياقوت أحمر طوال حياته. وما دمت قد أنقذتنى، فإنك سترافقنى حتى قصر أبى حيث سيجعل أبى منك أسعد الرجال، لأنه قادر على تحقيق كل رغباتك".
سارا نحو الجهة التى ترك فيها الشاب حصانه، وركبا كلاهما هذا الحيوان القوى والنشيط، وأسرعا العدو فى اتجاه البحر.
وعند شروق الشمس، وصلا إلى الساحل الرملى الذى تغنى فيه الأمواج.
"انتظرنى هنا، قالت الفتاة، سأعود فى الحال للبحث عنك".
غطست فى الماء الذى لوَّنته الأشعة الأولى للشمس بألوان قوس قزح واختفت. قلقا إلى حد ما انتظر الصبى متفحصا الموج. مرت ساعات عديدة، لا نهاية لها، ثم عندما كان الضوء المتألق فى ذلك الحين يشوش الأفق، رأى مجموعة من الفرسان يظهرون راكبين خيولا بيضاء تعدو بسرعة على الماء مثيرة سحبا من القطرات الصغيرة المتلألئة.
"اترك هنا ركوبتك التى لن تكون لها أية فائدة لك بعد الآن، قال الفارس الذى يقود هذه المجموعة، واركب هذا الحصان الذى منحك إياه سيدنا لابيود إلياكوانتى".
أطاع "إمحمد" وبعد عدة ساعات من العدو السريع فوق الأمواج لمست قدماه جزيرة صخرية ارتفعت فوقها أبراج وأسوار قصر فسيح. وفى قاعة الشرف المبلطة بالذهب، انتظرته الياقوتة الحمراء برفقة رجل عظيم جدا وقوى جدا كان لعينيه اللون الأزرق للأمواج العميقة فى أمسيات العواصف.
"أنا أب هذه التى أنقذتها، قال جنى البحار. أنت هنا فى بيتك. أريد أن تبقى هنا الوقت الذى يلزمك لتقول لى ما الذى يمنحك أعظم الفرح. لا تكن مسرعا فى الإجابة. يمكنك أن تطلب منى الثروة، أو القوة، او مملكة، أو جيشا، أو الحياة الأبدية على هذه الأرض".
وفيما كان لابيود إلياكوانتى يتكلم، لم يرفع "إمحمد" عينيه عن الفتاة، التى كانت ترتدى فستانا طويلا من الحرير الأزرق. ولم تكن تلبس أية جواهر وعلى رقبتها كان لم يعد هناك أثر لجرح. وكانت تبتسم لـ"إمحمد"، وأحس هذا بأن هذه الابتسامة تساوى أكثر من كل ذهب العالم.
وبعد أن مرّ وقت الانفعال الأول، نظر الصبى إلى جنى الأمواج وبصوت حازم قال:
"مولاى، لا أريد الثروة، ولا القوة، ولا الجيش، ولا المملكة. وفيما يتعلق بالحياة الأبدية أعرف أنها ستمنح بعد موتهم لكل أولئك الذين سوف يستحقونها خلال إقامتهم على هذه الأرض. والواقع أن الشيء الوحيد الذى ينقصنى بالفعل على الأرض هو شجاعة العمل. وأعرف أن هذه الشجاعة سوف تواتينى إذا كانت بجانبى رفيقة أحبها وتستطيع أن تمنحنى السعادة. هذه الرفيقة التقيت بها فى الليلة الأخيرة وكنت رجلا يائسا. وإذا هى أرادت حقا أن تقبل حبى، سوف أسمح لنفسى بأن أطلب منك يدها".
استدار جنى الأمواج نحو ابنته التى انحنت أمامه وغمغمت:
"أبى، بصنع سعادته ستصنع سعادتى أيضا".
وأقيمت فى القصر احتفالات لا يمكننا أن نتصورها لأننا لا نعرف إلا عالم البشر. ثم بعد احتفالات الزفاف رافق الفرسان الياقوتة الزرقاء و"إمحمد" حتى الساحل الجزائرى على الأفراس البيضاء.
ولم يقبلا أى هدية من أبيهما ولم يأتيا بزاد للسفر سوى حبهما المشترك وإيمانهما بالحياة.
وعندما صارا وحيدين، قالت المرأة الشابة لقرينها:
"أنت تعرف أننا لن نكون فقراء أبدا، لأنه يكفى أن تجعل دمى يسيل لالتقاط الياقوت الأحمر".
أخذها "إمحمد" بين ذراعيه واحتضنها بكل قوة قائلا:
"أفضل أن أموت عن أن أرى قطرة واحدة تسيل من دمك. كونى مطمئنة، إننى أستطيع أن أجعلك سعيدة كما تستحقين".
وفى الشاب بوعده. وباجتهاده وكده فى العمل استطاع أن يعيد شراء منزل أبيه، حيث قضت قرينته الراضية أياما رائعة وهى تشهد البنات السبع والأولاد السبعة ـ الذين أنجباهم خلال خمسة عشر عاما ـ وهم يكبرون.
وينبغى القول أنه، كل عام، فى يوم ذكرى التقائهما، كانا يذهبان إلى الساحل الرملى حيث كان ينتظرهما فرسان البحر. لأن جنى الأمواج واصل رغم كل شيء السهر على سعادتهما.
فى كثير من الأحيان، فى الحكايات، يصعد جنّ البحر من القاع لإثراء أولئك الذين عاملوهم جيدا. ألق فتات الخبز للبجع وستكتشف قصرا رائعا به ثلاث فتيات جميلات؛ أنقذ حياة سلحفاة صغيرة وسوف تتزوج أميرة؛ أنقذ سمكة ترس، كما فى حكاية من جريم وربما صرت إمبراطورا أو پاپا.
وهذه الحكايات تحمل جميعا سمات حكمة واحدة بعينها: من الأفضل حماية الضعيف لأنه قد يخفى كائنا بالغ القوة. وأولئك الذين يرفضون أن يفعلوا هذا يتعرضون لأخطار كبرى.
ويروى إسكيمو المناطق القطبية بهذا الخصوص قصة نولياچوك، ملكة البحر.
ففى الأزمنة التى كانت ما تزال لا توجد فيها كائنات حية فى المحيطات، حدث إلقاء يتيمة صغيرة فى اللحظة التى كان فيها سكان قرية جوينجميرتوج يستعدون لعبور مضيق.
حاولت الطفلة المسكينة أن تتعلق بأحد قوارب الكاياك، غير أنه كان يجرى دفعها إلى الوراء. ويائسة، أمسكت بمزيد من القوة. وقام جلادوها بقطع أصابعها، وهو تصرف لابد من أن يندموا عليه فيما بعد.
وتملك الكائنات ذات المظهر الهش قدرات غريبة فى كثير من الأحيان. إن دم بطلة الحكاية الجزائرية يتحول إلى ياقوت أحمر، والأصابع المقطوعة لفتاة الإسكيمو الصغيرة تتحول إلى كائنات بحرية، وهى الأولى التى سكنت البحر.
وقد هبطت الفتاة إلى قاع المحيط، وصارت أم كل سكان المياه، والأسماك، والأخطبوطات، وعجول البحر، العزيزة جدا على قلوب أهل الإسكيمو. إنها، هى التى كانت ضعيفة قديما، تعطى البشر الآن طعامهم.
ولكن لا تتصوروا أنها نسيت ما جرى لها. وقد انتقمت لنفسها من انعدام قلب البشر. فهى التى، فيما يقال، تحدث المجاعات. وعندما تكون غاضبة، فإنها تحبس كل الحيوانات البحرية داخل مصباح ولا تحررها إلا عندما يهدأ غضبها الشديد.
وقد سماها الإسكيمو نولياچوك، وأنتم تتصورون عن حق أنهم بعد احتقروها صاروا الآن بالغى الاحترام لها. وهم لا ينطقون باسمها إلا بإجلال، خشية أن يثيروا غضبها
Bernard Clavel: Légendes de la mer .