يتردد كثيراً أن "الربيع العربي" فاجأ الجميع تماماً وأنه أتى بدون بشائر ولا مقدمات. إن الأحداث التي وقعت في الربيع الماضي، في البداية في تونس ثم في مصر قبل أن تمتد إلى ليبيا، غيّرت الطبيعة السياسية في المنطقة إلى الحد الذي لا يبدو فيه وصف "ثورة" مبالغاً فيه، وفاجأت هذه الأحداث حتى عديداً من الخبراء المشهود لهم بالكفاءة. ويقولون إن الطغاة كانوا - حتى ذلك الوقت - يستون على عروشهم راسخين، وأن آلة القمع التي وصلت عبر العقود إلى درجة متقنة للغاية قد جعلت الأوضاع في البلاد مستقرة.
رؤية الأمور على هذا النحو تفضح قدراً من العمى الذي أصاب المحللين السياسيين الذي يراقبون الأوضاع في الشرق الأوسط. لقد كان عليهم أن يعرفوا ما يدور في المنطقة على نحو أفضل من ذلك - فعلى سبيل المثال تنبأ الكاتب المصري علاء الأسواني، المولود عام 1957، بانهيار النظام المصري قبل عامين كاملين من بدء المظاهرات الجماهيرية الضخمة في ميدان التحرير.
في أبريل (نسيان) عام 2009 كتب علاء الأسواني محللاً الوضع في مصر: "لأن النظام صار عاجزا تماماً عن أى إصلاح جدى، فهو يدفع بجهاز الشرطة إلى مواجهة الناس وقمعهم وتعذيبهم؛ متناسياً فى ذلك حقيقة بسيطة ومهمة: أن ضابط الشرطة، أولاً وأخيراً، مواطن مصرى يجرى عليه ما يجرى على المصريين، وغالبا ما يعانى مما يعانون منه جميعاً. إن النظام السياسي الذى لا يعتمد فى بقائه إلا على القمع تفوته دائما حقيقة أن جهاز القمع، مهما بلغ جبروته، مكون أساسا من مواطنين مندمجين فى المجتمع، تتطابق مصالحهم وآراؤهم غالباً مع بقية المواطنين، ومع تزايد القمع سيأتى يوم يعجزون فيه عن تبرير ما يرتكبونه من جرائم فى حق الناس."
ليست نبوءة استثنائية
تحدث مبكراً عن نهاية الفرعون الوشيكة - في عام 2009 كتب الأديب علاء الأسواني: إن آجلاً أو عاجلاً سيفشل نظام مبارك بسبب أخطائه وسينهار. وهكذا يصل الأسواني إلى أن نظام مبارك سينهار إن آجلاً أو عاجلاً، ويقول: "وعندئذ يفقد النظام قدرته على القمع ويلقى النهاية التى يستحقها. وأعتقد أننا فى مصر نقترب من ذلك اليوم." تبين المقالات التي تُرجمت حديثاً إلى الألمانية، والتي نُشرت في الصحف المصرية ما بين 2005 و2010 أن أقوالاً مثل هذه المقتبسة هنا لم تكن نبوءات استثنائية. فقبل ربيع عام 2011 ارتفع صوت المعارضة عالياً في مصر ضد نظام مبارك.
ففي عام 2004 نشطت حركة "كفاية" التي كان علاء الأسواني عضواً فيها أيضاً. وفي عام 2008 تكونت حركة "6 أبريل". عن ذلك كتب علاء الأسواني في صحيفة "الشروق" في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2009: "معظم الثورات فى التاريخ قد اندلعت من حركات احتجاج لم تهدف أساساً إلى الثورة، ذلك أن الثورة ليست شعاراً ولا هدفاً مسبقاً، وإنما هى حالة تصيب المجتمع فى لحظة ما فيصبح كل شىء فيه قابلاً للاشتعال، ونحن بالقطع فى هذه الحالة. المصريون جميعا يدركون أن الوضع القديم لم يعد صالحاً ولا مقبولاً وأن التغيير قادم لا محالة".
منذ وقت ليس بالقصير لم يدخر المثقفون والأدباء جهداً في توجيه سهام النقد الجارح إلى الأوضاع السياسية. وهكذا أسقطت رواية "عمارة يعقوبيان" - التي نُشرت طبعتها الأولى في عام 2002 وسرعان ما تربعت على عرش قائمة أفضل المبيعات في العالم - القشور عن أعين كثيرين ليروا ما وصفه الأسواني بوضوح، أي الأوضاع الفاسدة التي فرضتها الطبقة الحاكمة التي نهبت أموال الشعب، والتعذيب الذي تمارسه الأجهزة الأمنية، والانتخابات العبثية، والفقر المدقع الذي يعاني منه المصريون، والمحسوبية والرشوة المنتشرة في كل مكان.
جردة حساب لسياسة مبارك
مناضل من أجل الديمقراطية وروائي ناجح: في عام 2005 تحول الكاتب المصري علاء الأسواني إلى نجم عالمي في سماء الأدب بروايته "عمارة يعقوبيان". وفي عام 2003 حدثت فضيحة كبيرة في الحفل الذي كان من المفترض أن يحصل فيه صنع الله ابراهيم - أحد أشهر الكتاب المصريين على المستوى الدولي - على جائزة القاهرة للإبداع الروائي: ففي ختام كلمته في الحفل الذي أُقيم لمنحه الجائزة في دار الأوبرا المصرية، وفي حضور مسؤولين كبار من الحكومة المصرية، راح صنع الله ابراهيم يُجري جردة حساب للسياسة المصرية، مُعلناً في الختام رفضه تلقي الجائزة لأنها "صادرة عن حكومة لا تملك مصداقية". ثم أضاف صنع الله ابراهيم إن الكاتب لا يستطيع "في ظل هذا الواقع أن يغمض عينيه أو يصمت، ولا يستطيع أن يتخلى عن مسؤوليته"، وعقب ذلك غادر المسرح وسط عاصفة من التصفيق.
أما كتاب خالد الخميسي "تاكسي" - حتى نذكر مثالاً ثالثاً - فقد احتفت به الصحيفة الألمانية "زود دويتشه" باعتباره "الكتاب الأهم عن الثورة المصرية"، رغم أن الكتاب نُشر في مصر عام 2006 دون أن يلفت نظر أحد على المستوى الدولي، إلى أن اندلعت أحداث الربيع العربي في العام الماضي.
كما أن مقالات علاء الأسواني السياسية التي كتبها قبل الثورة لم تترجم وتُنشر بالألمانية إلا بعد الثورة، وهو ما يعد مؤشراً على الرغبة الغربية في فهم "الربيع العربي" بعد وقوعه، بعد أن شعر المرء بتأنيب الضمير لأنه لم ينظر بدقة إلى ما يحدث. القصور في الانتباه لما حدث على مستوى الرأي العام كان يسير يداً بيد مع الموقف الغيوسياسي الذي يتبناه الغرب، وهو الموقف الذي يراهن على الاستقرار بشكل دائم، والذي ظل متمسكاً بمبارك حتى آخر لحظة، وهو الموقف الذي يتحدث عنه أيضاً علاء الأسواني في مقالاته.
نقد الرياء الغربي
"ما يجده القارئ هنا كتَبه الكاتب بتلقائية وهو يواكب للأحداث، فمقالات علاء الأسواني الغاضبة تلهث لمتابعة الأحداث المتلاحقة في مصر"، يقول أندرياس بفليتش. ففي نظر علاء الأسواني كانت مطالب الغرب بالديمقراطية في العالم العربي لا تعدو كونها رياءً ونفاقاً. ويبرر الأسواني رأيه في إحدى مقالاته المنشورة في عام 2009؛ آنذاك كان الرئيس حسني مبارك في زيارة رسمية لواشنطن، وهناك تلقى الرئيس أوباما وعداً من صديقه الرئيس مبارك بشأن الإصلاح الديمقراطي في مصر، وأن ذلك الإصلاح لا محيد عنه، بالرغم من أنه عملية طويلة وليست بالسهلة. رداً على ذلك - يقول الأسواني بلهجة لا تخلو من سخرية - عبّر أوباما مرة أخرى عن إعجابه بالرئيس مبارك، مادحاً حكمته واعتداله وشجاعته.
غير أن حماسة الكاتب في المقالات المجموعة في هذا الكتاب تأتي على حساب القيمة الأدبية. على القارئ أيضاً ألا يتوقع من تلك المقالات تحليلات ثاقبة النظر، أو رؤية فكرية عميقة للأوضاع في مصر. ما يجده القارئ هنا كتَبه الكاتب بتلقائية وهو يواكب للأحداث، فمقالات علاء الأسواني الغاضبة تلهث لمتابعة الأحداث المتلاحقة في مصر.
في بعض مقاطع الكتاب يهبط المستوى هبوطاً كبيراً حتى يكاد يقترب من مستوى نظريات المؤامرة الرخيصة التي لا يعرفها القارئ سوى في الأحاديث الشعبية المغرقة في الأحكام النمطية. سهام النقد التي يطلقها الأسواني مصوبة إلى مبارك في المقام الأول وإلى نظامه القمعي، وهو يصوغ نقده في شكل نضالي دائماً، وهجومي غالباً، وفي بعض الأحيان لا يتعدى نقده الشعارات الدعائية.
"لقد وصلت الأوضاع فى مصر إلى الحضيض بمعنى الكلمة"، يقول الأسواني، حتى أن ضحايا النظام المصرى "في العبارات الغارقة والقطارات المحترقة والعمارات المنهارة يفوق عددهم شهداء مصر فى كل الحروب التى خاضتها". أما محمد البرادعي فيكاد ينظر إليه الأسواني باعتباره فارساً مخلصاً، ويتغنى الأسواني به ويمتدحه مديحاً مفرطاً في بعض الأحيان، وبنبرة تثير الاستغراب.
على طريق طالبان؟
ويحمّل الأسواني الإسلام الوهابي الذي تنشرة المملكة العربية السعودية المسؤولية عن حالة التدين السائدة الموجود في مصر المعاصرة والتي يصفها بأنها اختصرت "الدين في الشكل والعبادات، وفصلت "العقيدة عن السلوك". ويضيف الأسواني أن "الغزو" الذي قامت به "الأفكار الوهابية الرجعية والمتخلفة" يوشك أن يحول مصر إلى إمارة من إمارات طالبان. وينبغي حسب الأسواني مواجهة هذا الخطر بالسماحة التي يتحلى بها "الإسلام الحقيقي" - هذا الإسلام يرفعه الأسواني إلى درجة الحامي لحقوق المرأة والضامن الأساسي للتوجه الديمقراطي، بل ويقول: "الإسلام الحقيقي هو الديمقراطية".
الغرب أيضاً يحصل على نصيبه من العظات التي يلقيها الأسواني الذي يرى أن النبرة المعادية للعرب والمسلمين في جزء من الصحافة الغربية كانت تُعتبر قبل عقدين فحسب "نبرة رجعية وعنصرية ولا يمكن القبول بها"، أما "اللوبي الصهيوني في السياسة الأمريكية" فيمد يده الحامية لمبارك، والسياسة الغربية هي عموماً سياسة منافقة تكيل بمكيالين.
وينبع نقد الأسواني للنظام المصري والنفاق الديني وازدوجية المعايير الغربية من اعتزازه بمصريته. ولهذا لا يمل الأسواني من تكرار عبارات مثل أن مصر لديها الطاقات لتصبح دولة عظمى، كما أنها أكبر آتون لصهر المواهب في العالم العربي، هذه العبارات تتكرر في مقالاته مثل شعار "الديمقراطية هي الحل" التي يختتم بها كل مقالة تقريباً. إن النظرية الشائعة التي تقول إن المصريين غير مهيئين للديمقراطية هي في نظر الأسواني إهانة للمصريين من ناحية، كما أنها تظهر من ناحية أخرى الجهل المريع بتاريخ الشعب المصري. وبنصوصه الملتزمة يساهم علاء الأسواني مساهمة مقنعة في دحض هذا النظرية المخجلة.
(قنطرة)