فاتن قبيسي
«لا أخاف من الموت نهائيا، كلنا سنموت. بل أخاف من العجز، ومن ألا أتمكن من القيام بخدمة نفسي، أو تقديم أي شيء. عندما شعر أرنست همنغواي بأنه لم يعد هناك شيء يقدمه، انتحر. اعتبر نفسه كأي حيوان يأكل ويشرب. وجمال الحياة في أن تشعري بأنك تعملين فيها. وتساهمين في صناعة الأشياء من حولك». هذا ما قاله الفنان المخضرم خالد تاجا، في آخر مقابلة تلفزيونية أجريت معه العام 2011. وكأن الله استجاب له، فجنّبه العجز وقلة الحيلة، ورفعه اليه وهو في عزّ عطائه.
لبى خالد تاجا الدعوة برحابة صدر كبيرة قادما من سوريا الى بيروت. علما أنه كان منشغلا في تأهيل مزرعته، التي أرادها «جنته» الأخيرة، ليقضي فيها ما تبقى من عمر. وقد تحدث عنها مرارا بشغف، قبل اللقاء التلفزيوني وبعده، وعن نباتاتها وعبقها وحيواناتها الأليفة، فاتحاً بابها لكل الأحبة والأصدقاء.
واضعاً الكوفية حول رقبته، تحدث ضيف المقابلة التلفزيونية الأخيرة عن خالد تاجا الشاعر والرسام، والذي سرقه منهما التمثيل، وهو الذي كتب قصيدة لمناسبة العدوان على غزة، وقرأ بعينين دامعتين قصيدة كان قد كتبها للشهيد عماد مغنية، بعد أن تعرف اليه بعد استشهاده. واصفا إياه بأنه «واحد من الفاتحين... وأكبر بكثير من غيفارا وغيره». كما روى كيف طالب السيد حسن نصر الله بفردة حذاء مغنية، فأرسل له الأمين العام لـ«حزب الله» قرآن مغنية الخاص، وشاله. وعلق بالقول: «لقد قدم لي أغلى ما أملك في حياتي: قرآن مغنية منزوع الغلاف وشاله. وأحتفــظ بهما في بيتي، لأنـهما من سمــاحة السيد».
إنه عدة أجيال فنية في رجل. تجربته بمثابة أرشيف فني غني. قضى تاجا خمسين عاما في رحاب الفن، صنفته مجلة «تايم» الأميركية من بين أفضل خمسين ممثلاً في العالم، وكرمته عدة مهرجانات دولية، ومنحته الجامعة الأميركية في سوريا الدكتوراه الفخرية. تخطى عدد المسلسلات التي شارك فيها مئة مسلسل. ومع ذلك، كان يواصل شغفه بالفن حتى آخر رمق، حيث كان ملتزماً بتصوير ثلاثة أعمال قبل أن توافيه المنية.
في رمضان الماضي، شارك في سبعة مسلسلات، وقال إنه رفض تسعة عروض أخرى. وأضاف ببهجة: «أفرح بالمساحة الكبيرة للعب.
فن التمثيل هو فن اللعب، وفن الطفل، وعندما يكبر الممثل لا يعد ممثلا!».
تحدث عن «مغامرة» مسلسل «التغريبة الفلسطينية» الذي شارك فيه، موضحا أنه «كان هناك من يحاول أن يغسل لنا دماغنا في المحطات العالمية وحتى العربية، لينسينا القضية الفلسطينية.. فهناك محطات لا تريد تناول القضية».
وتاجا الفنان الذي كان له تصريحات سياسية ضد الزعماء العرب، وقد وصفهم في أحدها في العام 2009 بالديكتاتوريين، مطالبا بثورة ضدهــم، شعر في العام 2011 وكأنه استجيب لدعوته.
وأبدى تفاؤله بالثورات العربية قائلا: «فعلا طفح الكيل عند الناس. والجميل هو بأن لا سياسيين يقومون بالثورة، ولا عسكر ولا أحزاب. بل شباب يريدون صناعة مستقبلهم بيدهم. لم يعد لديهم ثقة لا بالسياسيين ولا بغيرهم. وسنرى عالما عربيا جديدا مبنيا على روح الشباب المتطلع الى آفاق واسعة».
وقال: «لا.. حتما» ردا على سؤال حول ما إذا كان لا يزال يخجل من عروبته، كما جاء في تصريح آخر له. وأضاف: «ولكن في مرحلة ما جعلوني أخجل فعلا من قضيتي وقوميتي. أما اليوم فأرفع لهم القبعة، وكنت أتمنــى لو كنت أصغر سنا لأشارك بجـسدي معهم».
وبعد مشاركته في 25 فيلما، كان يتحضر «انطوني كوين العرب»، للمشاركة في «الشيخ والبحر» نقلا عن فيلمين في هوليوود، الأول قام به انطوني كوين، والآخر سبنسر تريسي. وكان سعــيدا بأنه سيؤدي دورا سبقه اليه كوين، «صاحب الكاريزما» كما وصفه. وقال: «شرف كبير أن اُشبه به. فهو فنان شامل، ومذهل، ورسام عبقري ويعمل بالخزف والإخــراج والتمــثيل، إنه شخصية ساحرة.. وعندما أنظر الى عينيه يخفق قلبي».
أما أسباب شرائه قبره وهو على قيد الحياة فشرحها بقوله: «اكتشفت بالصدفة أنني أعاني من تسلخ وريدي في الأبهر، كان حجمه سبعة سنتيمترات، وكان يمكن أن أموت وقتها. ثم انني مؤمن بقضاء الله، فالمــوت قــادم لا محالة، ورائي اليوم 71 عاما.. ولم يُخلّد أحد».
(السفير)