الحاوي
حين استفاق, وقعتْ عيناه على قصاصة ورقية.. تناولها, وجدَ عليها عباراتِ متناثرة, بداية.. لم يجدْ أيةَ صلة قربى بينها, ثم أخذ يلملمُ ما انسلَ من بين أصابعِ النسيان, حينها تذكر أنه في الليلة السابقة أو للدقة.. في ساعات الصباح الأولى استيقظ على فكرة عابرة, ربما كانت حلماً!! حينها.. تناول قلمه.. خربش بقايا هلوسات ثم عاد للنوم.
نعم, الآن و بعد الرشفات الأولى من قهوته تذكر جيداً ما حدث, فهو منذ أيام تسكنه فكرة أن يكتب شيئاً مختلفاً, سيكتب ما قدًّر أنه سيكون ملفتاً و استثنائياً. فكر بكتابة قصيدة يهربُ فيها من القافية التي تزعجُ أصدقاءه, أتباعَ الحداثةِ و ما بعد الحداثة وما بعد ما بعد الحداثة, لكنه عدلَ عن, ذلكَ لأنه شَعَرَ بأنه سيخونُ أحاسيسَه, فهو عندما يكتبُ لا يحملُ مصباحَه باحثاً في مجاهلِ اللغةِ عن القافيةِ بل الأصحُ أنها تتسللُ من وراءِ ظهرهِ, إلى مكانٍ يغريها .. حيث تغفو تحتَ ظلِ كلمة.
لبس ثيابه وغادر إلى مكتبه, مستعجلاً الوصول قبل أن تفتر حماسته وتضيع الأفكار المتزاحمة والمتصارعة في رأسه فتغلب إحداها الأخرى, وتحكم عليها بالنفي من ساحة وعيه, قرر أن يكتب فقط, ومن ثم يبحث في النوع و الشكل, أخيراً دوًَن:
أتذكُر أخر موعد؟ يوم جئتني مستغفراً, عيناك ممتلئتان دمعاً و أشياءً أخرى, كنت أحسَبُكَ تأتيني طائراً, لكن وقعَ أقدامِكَ الثقيلة على أحجارِ الزقاقِ المؤدي إلي حديقة منزلنا, أيقظَ العصافيَر الساكنةَ في شجرة الزنزلخت فطارتْ محلقةً فوق رأسي.. كنتُ أنتظركَ كعادتي قربَ البركةِ الممتلئة التي تتوسطٌ الحديقة.
يومها قلتَ أني ما زلت لك الماء و الهواء, أسكنُ شرايينكَ كما قبل, و قلتَ أني وأني.. ويا للدهشة.. عندما شاهدتُ العصافير تحط عند قدميكَ وتلتقط حبوب الدمع المتساقطة من عينيكْ .
هنا.. توقفَ عن الكتابةِ متسائلاً عن قيمة ما كتبه. شعرَ بالجزع من فكرة أن أحدهم سوف يقطبُ حاجبيه ويقولُ: أخي أمجد, ابتعد عن المباشرة. ومع أنه لم يفهمْ يوماً لما على الكاتبِ أن يرهقَ عقلَ القارئ, و يأتيه من الخلفِ.. أو يباغتهُ من الأعلى, لكنه.. مرغماً.. قررَ أن يغيرَ ما كتبه.. وفعلاً بدأ من جديدِ و بعد أنْ انتهى قرأ :
ما زلتُ أذكرُ آخرَ موعدٍ, كنتَ كما عَهدُكَ.. جميلاً, رأيتكَ دونَ أن تراني, لم تكن ماشيًا كالآخرين ولم تكن طائرًا, كنت شيئًا بين هذا و ذاك.. أذكرُ أني هرعتُ إلى بوابة الدار و فتحتها, ثم عدتُ إلى مكاننا المفضل, دخلتَ.. حطتْ نظراتُكَ على وجهي.. كنتُ واقفةً بجوار البركة الجافة التي تتوسطُ بيتنا العربي.
يومها قلتَ.. ما لم يقله أحدٌ قبلَكَ, أنشدتني شعرًا و مسكًا, كنتُ أغذُ السمعَ ملاحِقةً وقعَ خطىَ حروفكَ.
قلتَ الكثير مستغفراً طالباً السماح, الذي لم تكْ تحتاجه, لأن قلبي لا يرضى بشيءٍ غيرَه. راقبتُ دمعَكَ ينسكب فوق حافة البركةِ و يسِيلُ مستقراً فيها, تكلمتَ وسكبتَ.. ولم تتوقفْ حتى امتلأتْ البركة, ويا للدهشةِ!! حينما رأيتكَ تنسل من جيبِكَ أسماكَ ملونةً صغيرةً, زلقت من يدكَ و ما أن وصلتْ الماءَ, حتى بدأتْ تتلوى بحركاتِ راقصةٍ كما في اولمبياد..وتقف.. مُشَكٍّلَةً كلمةً واحدةً.. أحبكْ.
حينها.. وقفتُ مذهولةً, و تذكرتُ الحاوي عندما كانَ ينسِلُ من فمِه مناديلَهُ الملونَةَ و يفرشُها في الهواءِ أمامَ أعينُنا الصغيرةَ المفتوحةَ على اتساعِها التي كادتْ تقفزُ دهشةً عندما كان يتبعُ ذلكَ بإخراجِ طيرٍ و أشياءٍ أخرى, و ينتهي بمزمارِ و تمايلِ مغرٍ .. لأفعى تخرجُ من سلَّتِهِ.
و قد احتجتُ سنيناً كي أُدْرِكَ.. أنَ الحاوي كانَ يخدعُني!!
يومَها.. خفتُ من حاوٍ يبيعني وهمًا.. لذا.. ابتعدت عنك.!!
عندما أنهى القراءةَ, قطَّبَ حاجبيه مستغرباً, ليس هذا ما كان يفكرُ به, شخصٌ آخرٌ كتبَ هذا, والأدهى.. أن الكاتبَ..! أنثى .
مزَّقَ الأوراقَ و همسَ.. أديبُ فاشلْ.