فرج الله الديب
في عدد 5/12/1995 من مجلة التايم تحقيق بعنوان هل التوراة حقيقة أم خيال يخلص إلى أنه ليس من آثار في فلسطين تدل على مسرح أنبياء التوراة كذلك مجلة نوفال أوبزرفاتور الفرنسية عدد 11-17/7/.2002 كما أن المسود في الفكر التوراتي اليوم، إن إبراهيم جاء من حرّان في العراق إلى فلسطين وقطع الصحراء دونما إشارة إلى إحداث هذا الانتقال، في حين أن ترحاله إلى مصر عبر صحراء سيناء وعودته من لدن الفرعون (أي فرعون؟ في الأقصر والكرنك جنوب القاهرة أم أين؟) عبر هذه الصحراء لا إشارة له في التوراة. والسبب أن مسرح هذه البداوة المتنقلة لم يكن هنا، بل في جنوب اليمن. لكن السؤال الذي يطرح هو: هل في النقوش اليمنية المسندية التي تبلغ الآلاف إشارة إلى أنبياء التوراة أو إلى عشائر اليهود؟ والجواب كلاّ رغم ورود أسماء توراتية، إلا أن أسماء المدن والقرى الكنعانية وغير الكنعانية الواردة في الزجليات التوراتية ما زالت موجودة في اليمن، وهذه أهم من النقوش، ومنها: يراخ (أريما، وهي يريخو بالسريانية المستخدمة في عبرية اليوم) وعراد وآكام المرايم، ومدفن يشوع بن نون، وحبرون (المسقطة على مدينة الخليل) وجرار (حيث تقرب إبراهيم ولا وجود لها في فلسطين)، والنيل وهو نهر شمال شرق مأرب، وصحراء سناء في حضرموت التي أسقطت في ما بعد على اسم سيناء بين مصر (بلاد القبط تاريخياً) وفلسطين واليهودية جنوب صنعاء... ومئات من الأسماء التي لا وجود لها في فلسطين ومحيطها، كما أن المؤرخين العرب من الطبري إلى الهمداني يحددون أسماء فراعنة مدينة مصر أيام يوسف وموسى!
أما في النقوش الأثرية اليمنية ذات اللغة والحرف الكنعاني وليس العبري فترد إشارة إلى (عبران)، كما يرد في نقش بيت الأشول الذي يعود إلى عصر ملوك سبأ، اسم صاحب النقش وهو (يهودا يكف) (20) وأسماء مثل: أشوع و يشوع، في حين أن الآلهة الوثنية المتعددة تصاحب كل نقش، فيما عدا نقش متأخر عثر عليه الباحث مطهر الإرياني في منطقة ناعط، وردت فيه عبارة الإله الذي في السماء، وعبارة آمين (21) فالنقوش اليمنية كتبت من أقيال (وكلاء) أو قادة يكرسّون حدثاً لأسيادهم وأدعية للآلهة لحفظهم، أو كتبت بمناسبة حفر بئر (مصنع أو كريف) أو رحلة صيد، أو صد غارات أو العودة من معارك. لكن الوثنية ظاهرة بوضوح. يقابل ذلك التساؤل البسيط وهو; متى عبدت عشائر العبران أو بنو إسرائيل إلهاً واحداً؟ فكل الأسفار ليست إلا تقريعاً لهؤلاء بسبب عودتهم إلى عبادة الأوثان وتخليهم عن الشرائع. ويبقى التساؤل المهم هو: متى تحولت الزجليات التوراتية التي ظلت محفوظة باللهجة السريانية (لهجة ملوك حمير من سبأ) إلى كتاب ديني التزمته عشائر اليهود، ومتى فرض على عشائر أخرى، وبأية سلطة أو كهنوت؟
إن الإجابة على هذا التساؤل مسألة ليست بالمتناول حتى الآن، علماً أن صراع البداوة والحضر الذي طبع تاريخ المنطقة واليمن تحديداً، والإمبراطوريات اليمنية التي غزت مشارق الأرض ومغاربها (22) والحضارات اليمنية العظيمة التي أنتجت الحرف والكتابة والسدود وتدجين الحيوانات وتأصيل النباتات وتقنيات قطع الأحجار الكبيرة (23)، كل ذلك أدى في النهاية إلى عزلة اليمن منذ ما قيل الإسلام حتى اليوم حيث اندثرت حضارات ومزقت شعوب وتفرقت أيادي سبأ كما يقول المثل. إضافة إلى وجود أنبياء ورسالات حفظت كزجليات لا يستدعي فرض دين، إذا لم تفرضه سلطة ما. فالمسيحية كانت منتشرة قبل قسطنطين لكنه فرضها على الدولة الرومانية وشعوبها عام 350م حيث أرسيت سلطاتها الكهنوتية، وشاعت مفاهيمها بعد فترة اضطهاد حادة، وانتشرت أناجيلها المدوّنة باتساع. في حين أن السريانية كانت حافظة لزجليات التوراة وليس العبرية التي لا أثر لها في المنطقة، والتي بطل استخدامها حوالي 300 ق.م.
يهودية ملوك حمير ويثرب
من ناحية ثانية، فإن شجرة نسب أولاد سبأ بن قحطان بن هود (حسب المؤرخ الحوّالي)، تشمل عشائر حمير وكهلان. الأزد، همدان، حاشد. وخولان والسكاسك وقضاعة وعمران وعذرة. وعبد شمس وجشم. وملوك حمير: الحارث الرائش، أبرهة ذو المنار، أفريقش، شمر يرعش، تبع الأقرن، تبع الأكبر، ملكي كرب، اسعد الكامل، حسان، عمرو الأصغر، زرعة، حسان الأصغر، زرعة الأصغر، زرعة ذو نواس، سيف بن ذي يزن. وهذه العشائر وغيرها من نسل سبأ لم تشمل بني إسرائيل ولا العبران ، وكانت في ممالكها خلال الألف عام من ورود اسم سبأ وملوك حمير في النقوش اليمنية والبابلية تعبد الشمس والهلال والنار وآلهة لا حصر لها.
وإذا كان المؤرخ العربي ابن واضح اليعقوبي قد حدّد كما أسلفنا أن ملوك اليمن دانوا بعبادة الأصنام في صدر ملكهم، ثم دانوا باليهودية، فمن الواضح أن يوسف ذو نواس الملك الحميري كان على الديانة اليهودية التي كانت دين اليمن الرسمي، وهو يسمى صاحب الأخدود الذي نظم مجازر بحق مسيحيي اليمن ونجران، والذي احرق بعضهم في ما يسمى الأخدود الذي ورد في القرآن في سورة البروج: قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . ولهذا القهر والإحراق والقمع ضد المسيحية في نجران واليمن أسباب كانت وراء حملة القائد المسيحي أبرهة الأشرم اليمني الأصل الحبشي الموطن، الذي شنّ حملة على غرب اليمن ونجران والحجاز، أدت إلى تدمير مدن وحصون، والى موت ذي نواس. وكان ذلك عام 570 م أو عام الفيل. وقد استمرت سيطرة الأحباش المسيحيين علي اليمن حتى 575م حين استطاع ابن احد وكلاء ملوك حمير، سيف بن ذي يزن أن يتحالف مع الفرس عبدة النار في طرد الأحباش وتدمير كنائس حضرموت وظفار وصنعاء، بعد أن خذله المسيحيون من غسّان ولخم وعشائر سبأ في بلاد الشام ورفضوا مساندته ضد الأحباش (24).
كما أن التبع اسعد الكامل الذي يتصدر سيرة الملوك التباعنة والذي غزا مشرق الأرض حتى الصين (25) وكان يسمى ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم طودا وتهامهَ ، كان يهوديا أيضا وكان بينه وبين ذي نوأس تسعة ملوك من بني حمير وقد أشارت النقوش إلى بعض مآثره عام 428م. وإذا كانت ممالك بني حمير قد امتدت من 115 ق م حتى 575م، فإننا لا نستطيع تحديد جعل اليهودية دينا لهذه الممالك، وإن كنا نميل إلى أن نعتبر ظهور المسيحية بعد الميلاد بقليل شكّل التحدي للمفاهيم التوراتية، وأن جعل المسيحية دينا رسميا للدولة الرومانية عام 350م ومحاولاتها السيطرة على اليمن وانتشار المسيحية فيها، شكلت التحدي الذي أيقظ الديانة اليهودية اليمنية. هذا مع الإشارة إلى أن اليهودية قبل 350م لم تكن مستنكرة على الصعيد الرسمي أو الشعبي. بل أن الكثير من نساء العرب كن ينذرن إذا ما رزقن بمولود ذكر أن يهوِّدنه (26).
عبر هذه الممالك اليمنية انتشر نوع من التديّن اليهودي المستند إلى المحفوظ من الزجليات التوراتية في البقاع التي شملتها سلطتها وفتوحاتها البرية والبحرية. لذلك نلاحظ أن حملة أبرهة الأشرم الحبشي المسيحي ضد مملكة اليمن المتهودة، امتدت إلى نجران والحجاز، حيث توقفت قبل مكة ويثرب.
أما في يثرب المدينة حيث قبر هاشم الجد الأكبر للنبي محمد فكانت العشائر اليمنية من الأوس والخزرج تتعاطى الزراعة، وكانت على تدين يهودي أيضا. لكن ذلك لم يمنع أن تسلم معظم هذه العشائر وان تناصر النبي باعتباره من عشيرة الأخوال، بعد أن قاتله وتخلى عنه الأعمام في قريش. وقد اجمع المؤرخون من القاضي محمد بن علي الأكوع الحوالي، إلى الهمداني في كتاب الإكليل، أن الأوس والخزرج بطون من عشائر حارثة بن ثعلبة من عشائر الأزد السبائية اليمنية (27)، وان التهود لم يأت من فلسطين بل عبر ممالك حمير اليمنية. ومن الذين اسلموا من مشاهير يهود الأوس والخزرج هذه العينة (28).
* أُبي بن كعب بن قيس بن عبيد الأنصاري كان قبل إسلامه حبراً من أحبار اليهود. ولما أسلم أصبح من كتاب الوحي.
* أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد الأنصاري الخزرجي، وكان نقيب بني النجار.
* بشر المريسي، فقيه معتزلي قيل إن أباه كان يهودياً.
* حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري.
* سعد بن عبادة بن حارثة الخزرجي وكان سيد الخزرج.
* أبو سعيد الخدري الخزرجي، أصبح مفتي المدينة.
* سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري.
* سند بن علي اليهودي.
* عبد الله بن سبأ، رأس الطائفة السبئية التي تقول بألوهية علي بن أبي طالب. قيل إنه كان يهوديا واسلم.
* عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري، وكان احد أحبار اليهود.
* كعب بن الأشرف الطائي، تزوج من يهود المدينة، ولم يسلم.
* كعب الأحبار بن ماتع بن ذي هجن الحميري اليماني، كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن.
* نعيم بن مسعود الأشجعي.
هذه العينة من الممالك الحميرية ويهود الأوس والخزرج تؤكد المنشأ العربي لليهودية التي كانت أكثر انتشاراً من المسيحية في اليمن والجزيرة وعلى عكس بلاد الشام. فالمسيحية أخذت مؤمنيها من العشائر المتهودة والوثنية، والإسلام كان مؤمنوه من الأديان التي سبقته ومن الوثنية، وهكذا ظلت في ثنايا العشائر العربية مجموعات يهودية استقرت في المدن غالبا حيث القرب من السلطة، وفي المرافئ القريبة والبعيدة، وظل بعضها على الشكل العشائري كما في تونس واليمن حتى اليوم.
هذا التدين اليهودي الشعبي، كان يستند في غياب تدوين التوراة، وفي غياب سلطة كهنوتية منظمة، على الزجليات التوراتية المحفوظة تماما كسيرة بني هلال، التي تحدثت عن عشائر يمنية وما صادفها في ترحالها من اليمن حتى المغرب العربي، والتي كان يحفظ سيرتها أجدادنا، تماما كما كانوا يروون حكايات سيدنا إبراهيم ويوسف وموسى وأيوب. وبما أن التشريعات التوراتية لا تخرج بغالبها عن الثقافة الشعبية، فان التدين كان سهلا رقيقا حفظه المثل الشعبي المقدسي على انه رقيق رق دين اليهودي .
المراجع
1. قاموس الصحاح، للجوهري. ص.557 ج،2 دار العلم للملايين، بيروت .1984
2. القاضي محمد بن علي الأكوع الحوالي. اليمن الخضراء مهد الحضارة. مكتبة الجيل الجديد. ط 2 - 1982 ص .219
3. المرجع السابق ص .323
4. المرجع السابق ص .345
5. الهمداني، كتاب الإكليل، ج أول ص 87 منشورات المدينة - صنعاء - تحقيق محمد بن علي الأكوع الحوالي، ط 3 - 1986 - صنعاء.
6. المرجع السابق ص .96
7. ابن المجاور الدمشقي. صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز، المسماة: تاريخ المستبصر لابن المجاور. صححه: أوسكار لوفغرين. منشورات المدينة - صنعاء. ص .258 والجزء 8 من الإكليل للهمداني ص .246
8. إبراهيم احمد المقمفي. معجم المدن والقبائل اليمنية - دار الكلمة - صنعاء 1985 - ص .454
9. المرجع السابق ص .479
10. حمزة علي لقمان، تاريخ القبائل اليمنية. دار الكلمة، صنعاء 1985 ص .192
11. بيير روسي - مدينة ايزيس - التاريخ الحقيقي للعرب. ترجمة فريد جحا. وزارة التعليم العالي . دمشق 1980 ص .23
12. مطهر علي الأرباني. نقوش مسندية وتعليقات. مركز دراسات البحوث اليمنية، ط.2 1990 ص 200 - .201
13. عمان 98/ 1999 وزارة الإعلام ص .10
14. فرج الله صالح ديب. معجم معاني وأصول ص.ماء المدن والقرى الفلسطينية - دار نوفل 1991 ص 20-.25
15. الصحاح للجوهري، المعطيات السابقة ج3 ص 1324 وكتاب: مزوقات من كلام العرب في اللغة الفرنسية، دار نوفل 2001 ص .154
16. الصحاح للجوهري، المعطيات السابقة ج1 ص .187
17. المرجع السابق ج6 ص .2376
18. معجم المدن والقبائل اليمنية المعطيات السابقة ص .197
19.حمزة علي لقمان، المعطيات السابقة ص .332د
20. محمد عبد القادر بافقية. تاريخ اليمن القديم. المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، 1973 ص.158
21. مطهر علي الأرياني، المعطيات السابقة ص .402
22. كتاب التيجان في ملوك حمير، عن وهب بن منبه. الطبعة الأولى، 1307 هـ الهــند، حيــدر آبـــاد الدكن، ص .297
23. أرنولد توينبي، تاريخ البشرية، ترجمة د. نقولا زيادة. الأهلية للنشر، ج1 - 1981 ص .55
24. محمد بن علي الأكوع الحوالي، المعطـيات الـسابقة ص 404 - 405 ومحمد عبد القادر بافقيه، المعطيات السابقة ص .159
25. شوقي عبد الحكيم. سيرة الملوك التباعنة. الدار المصرية اللبنانية - 1997 ص .15
26. د. محمد بيومي مهران. حضارات الشرق الأدنى. إسرائيل ج1 - 1983 ص .214 القاهرة.
27. محمد بن علي الأكــوع الحوالي، المعطيات السابقة ص 497 والإكليل للهمداني ج2 ص 54-60 و د. محمد الخطراوي. دمشق. دار القلم 1980 شعراء الحرب في الجاهلية عند الأوس والخزرج ص .12
28. د. عبد السلام الترمانيني. أزمنة التاريخ الإسلامي ج1 مجلد .2 الكويت المجلس الوطني للثقافة 1982 عدة صفحات