تكوين العقل العربي
الدكتور محمد عابدي الجابري هو استاذ للفلسفة والفكر العربي الاسلامي في كلية الاداب بالرباط منذ عام 1967. وله العديد من الكتب المنشورة في هذا المجال، منها : العصبية والدولية، المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي، نحن والتراث، الخطاب العربي المعاصر، ويشكل كتابه هذا الجزء الاول من دراسة بعنوان نقد العقل العربي ، ويقع في 624 صفحة، والجزء الثاني من هذه الدراسة كتابه بنية العقل العربي والجزء الثالث هو العقل السياسي العربي - محدداته وتجلياته.
يؤكد الكاتب في بداية كتابه على ان اليونان والعرب واوروبا الحديثة، هم وحدهم، مارسوا التفكير النظري العقلاني، وكونوا نظام معرفة منفصل عن الاسطورة والخرافة. فحضارة اليونان حضارة فلسفة، والحضارة العربية حضارة فقه، والحضارة الاوروبية المعاصرة حضارة علم وتقنية.
وما العقل، حسب التصور اليوناني الارسطي، الا ادراك الاسباب . اما في اوروبا الحديثة فيكاد يتم الدمج بين العقل والسبب، حتى ان هذين المفهومين ذوا اصل لغوي واحد في معظم اللغات الاوروبية، وخاصة اللاتينية منها. وفي اللغة العربية ان العقل والقيد لهما اصل واحد (عقل، عقال، اعتقل).
ويتفق الكاتب مع الجاحظ الذي يرى ان العقل العربي يتميز بعدم التردد باصدار الاحكام لانه يستند إلى البداهة والارتجال. ولذلك نلاحظ غياب الروح النقدية في نشاط العقل العربي المعاصر، مما يجعل الحقيقة لدى العديد من المثقفين والسياسيين العرب هي ما يقوله آخر كتاب قراه او حديث استمع له.
من الطبيعي ان يرفض العقل العربي الدارونيه ، فالانسان خُلق كاملا كما هو اليوم، وكذلك مكونات الثقافة العربية. فالنحو ولد كاملا مع سيبوبه، وتحددت اصول الفقه عند مولدها مع الشافعي، وكتابة التاريخ ظهرت كاملة او شبه كاملة مع ابن اسحق والواقدي، وجاء المعجم العربي والعروض كاملين مع الخليل بن احمد، وثبتت مسائل علم الكلام مع واصل بن عطاء ومعاصريه، اكتمل الفكر الشيعي فقها وكلاما وسياسة مع جعفر الصادق. ومن الجدير بالذكر ان هؤلاء جميعا في عصر واحد، وهو ما يطلق عليه عصر التدوين. وعصر التدوين هذا هو القرن الذي يبدأ بعام 143هـ او النصف الثاني من القرن الثامن والنصف الاول من القرن التاسع الميلادي. ويرفض الكاتب الاراء التي تقول ان العصر الجاهلي هو بدابة تكوين العقل العربي، كما يرفض القول ان بداية الاسلام هي بداية تكوين العقل العربي، ويصر ان بداية هذا التكوين هو عصر التدوين.
واول عمل علمي منظم مارسه العقل العربي هو جمع اللغة العربية ووضع قواعد لها. يلاحظ ان اللغة العربية ربما كانت اللغة الوحيدة في العالم التي ظلت هي في كلماتها ونحوها وتراكيبها منذ اربعة عشر قرنا.
ويشير الكاتب إلى المفكر الالماني هَردر (1744-1803) الذي يربط بين خصائص الامة وخصائص لغتها. فكل امة تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم. ومن هنا يرى الكاتب ان الامة العربية تعيش حالة من الارتباك وعدم التوازن، فمعظم المثقفين العرب يفكرون بلغة اجنبية، ويكتبون بلغة عربية فصحى، ويتحدثون في البيت وفي الشارع بل وفي الجامعة ومراكز الابحاث ب اللغة العامية . ولكل من هذه اللغات تراكيبها وطرائق تفكيرها.
يرى الكاتب ان تاريخ الفكر العربي لم يكتب بعد، فعندما ينتقل الواحد منا بوعيه من العصر الاسلامي إلى عصر النهضة لا يشعر انه ينتقل من زمن إلى زمن، بل ربما يحس انه يقفز من مكان إلى مكان آخر، فتاريخنا الثقافي يرتبط في وعينا بالمكان اكثر من ارتباطه بالزمان. والسمة البارزة في الزمن الثقافي العربي هو حضور القديم لا في جوف الجديد يغنيه ويوصله بل حضوره معه جنبا إلى جنب ينافسه ويكبله.
النص هو السلطة المرجعية الاساسية للعقل العربي وفاعلياته. ففي مسألة الخلافه (وهي المسألة الاساس لتكون الفرق الاسلامية) لجأ الشيعة إلى الرأي لاثبات وجوب النص (الوصية)، ولجأ اهل السنة إلى الاثر الذي يقوم مقام النص لاثبات وجوب الرأي (الاختيار). ومن الجدير بالاشارة اليه هنا هو التداخل والتكامل بين النحو والفقه والكلام وذلك على مستوى المنهج.
وبما ان الخطاب العربي له آلية ذهنية واحدة، قوامها ربط فرع باصل، انه القياس بتعبير النحاة والفقهاء، والاستدلال بالشاهد على الغائب بتعبير علماء الكلام، والتشبيه او البيان عند البلاغيين، فقد سمى الدكتور الجابري هذا النظام المعرفي بالنظام البياني. والبيان هو المحدد الاول للعقل العربي.
والمحدد الثاني للعقل العربي هو المعقول الديني ويقدم القرآن الكريم كفاح الانبياء والرسل انه كفاح من اجل نشر خطاب العقل الذي يقوم على ثلاثة اسس : يستدل على الله بالكون ونظامه، وينفي عن الله الشريك، ويقول بالنبوة، ويطلق الكاتب على هذا الفاعل في العقل العربي مصطلح العرفان.
ويرى الدكتور الجابري ان الموروث من القدماء (اليونان) هو المحدد الثالث للعقل العربي. وهذا النظام يعارض المعقول الديني ، فهو يعتقد ان العقل البشري عاجز عن تحصيل اية معرفة عن الله من خلال تدبر الكون، بل يرى ان معرفة الانسان للكون يجب ان تمر عبر اتصاله المباشر بالحقيقة العليا. فهذا النظام المعرفي اذا هو اللامعقول الفعلي انه العقل المستقيل. ويطلق كاتبنا على هذا الفاعل اصطلاح البرهان .
واهم ما ميز الموروث القديم ان تياراته متداخله، وانه انتقل للثقافة العربية على مستويين : المستوى العالم، ويعتمد اساسا الخطاب المنظم المكتوب، والمستوى العامي الذي يعتمد اساسا النقل الشفهي، حيث تكثر الخرافات. وبما ان الايدلوجيا هي دائماً في خدمة السياسة - كما يرى الكاتب - فان محاولات تنصيب العقل المستقيل باقامة التحالف بين نظامي البرهان والبيان في عصر المأمون، ما هي الا محاولة لحماية الدولة العباسية وفكرها الديني، الرسمي بشقيه المعرفي والسني، ولضرب العرفان الشيعي القائم على القول باستمرار النبوة في اشخاص الائمة. فالمأمون قاد مدرسة ضد العرفان، بتأسيس البيان على البرهان. واما ابن سينا ممثل المعارضة في ميدان الايدلوجيا فهو استاذ مدرسة تأسيس العرفان على البرهان. ويرى الدكتور الجابري ان الصراع داخل الثقافة الاسلامية كان بين البيان والعرفان، وكل من نظامي المعرفة هذين يحاول ان يجد له اساسا وسندا في نظام البرهان. ومن الجدير بالذكر انه حتى يومنا هذا اذا حكم اصحاب النظام الاول كان اصحاب الثاني في المعارضة وهكذا. ويلاحظ المؤلف ان المعقول الديني كان وحده السائد في كل من الجزيرة العربية، وشمال افريقيا والاندلس، وان حضوره في مصر كان قويا في عهد الخلافة الفاطمية. اما في سوريا والعراق وايران فقد ظل اللامعقول العقلي فيها يواصل الحياة في بنية المعتقدات الدينية.
ومن المفارقات العجيبة في تاريخ الفكر العربي ان الدولة والمعارضة كانت تعيش حالة تناقض. فالدولة كانت محافظة فيما يخص الاهداف الاجتماعية، ولكنها ثورية - او لنقل عقلانية - فبما يخص الايدلوجيا او نظرية المعرفة. اما المعارضة فكانت ذات طابع ثوري تقدمي فيما يخص الاهداف الاجتماعية، ولكنها محافظة - او لنقل خرافية - فيما يخص الايدلوجيا او نظرية المعرفة. وعندما تدخلت عوامل خارجية - الحروب الصليبية، وهجمات الاورويين على اسبانيا (الاندلس)، وغزو التتار للمشرق - انتهى هذا التناقض إلى تراجع عام : فتعممت الرؤية اللاعقلانية على الصعيد المعرفي، وتكرست الاوضاع الاجتماعية المتخلفة الاقطاعية. وكان ذلك هو ما يسمى عصر الانحطاط.
ويرى الدكتور الجابري ان العقل العربي الذي تكون في عصر التدوين وتوقف، بدأ انطلاقة جديدة وشنها ابن حزم الاندلسي في بداية القرن الحادي عشر الميلادي بمدرسته الفكرية الظاهرية ضد الباطنية التي كان ابن حزم يعتقد ان الفرس هم مروجوها. ثم نامت ظاهرية ابن حزم حتى جاء اين رشد في منتصف القرن الحادي عشر، فاستعاد مشروع ابن حزم، ويقول الكاتب... نعم، كانت الرشدية قادرة على طرق آفاق جديدة تماما، وهذا ما حدث فعلا، ولكن في اوروبا حيث انتقلت وليس في العالم العربي حيث اختنقت. ولم يتردد لصيحتها الاولى صيحة الميلاد أي صدى إلى يومنا هذا... لقد انتصر العرفان وتحول البيان إلى عقل عاده والبرهان إلى عادة عقلية... تلك هي المظاهر الرئيسية لظاهرة استقالة العقل في الثقافة العربية الاسلامية في عصر التراجع والانحطاط التي ما زال مفعولها ساريا إلى اليوم في كثير من الاوساط المثقفة، ان لم يكن كلها تقريبا.