فيروز (21 تشرين الثاني 1935م) اسمها ناهد حداد، مغنية لبنانية. أبوها وديع حداد، وأمها ليزا البستاني. بيتها كان متواضع، وكان من غرفة واحدة.
كانت إنطلاقتها عام 1952م عندما بدأت الغناء لعاصي الرحباني، وكانت الأغاني التي غنّتها لعاصي في ذلك الوقت تملأ كافة القنوات الإذاعية، وأصبحت مطربة كبيرة في العالم العربي منذ ذلك الوقت. وكانت أغلب أغانيها في ذلك الوقت للأخوين عاصي ومنصور الرحباني الذين يشار لهما دائما بالأخوين رحباني. وفي 1955م تزوجت فيروز من عاصي الرحباني، وأنجبت منه زياد وريما.
قدم الأخوين رحباني مع فيروز المئات من الأغاني التي أحدثت ثورة في الموسيقى العربية، لتميزها بقصر المدة (على عكس الأغاني العربية السائدة في ذلك الحين والتي كانت تمتاز بالطول) وبساطة التعبير وعمق الفكرة الموسيقية وتنوع المواضيع، حيث غنت فيروز الحب والأطفال، الحزن والفرح، الوطن، الأم.. وقدّم عدد كبير من هذه الأغاني ضمن مجموعة مسرحيات من تأليف وتلحين الأخوين رحباني وصل عددها إلى اثنتي عشر مسرحية.. تنوعت مواضيعها بين نقد الحاكم والشعب وتمجيد البطولة والحب بشتى أنواعه.. نذكر منها على سبيل المثال فخر الدين و بياع الخواتم و لولو .
غنت فيروز لعديد من الشعراء والملحنين، وأمام العديد من الملوك والرؤساء، وفي أغلب المهرجانات الكبرى في العالم العربي. وأطلق عليها عدة ألقاب منها سفيرتنا إلى النجوم للدلالة على رقي صوتها وتميزه.
بعد وفاة زوجها عاصي عام 1986، خاضت تجارب عديدة مع مجموعة ملحنين ومؤلفين من أبرزهم فلمون وهبة وزكي ناصيف، لكنها عملت بشكل رئيسي مع ابنها زياد الرحباني الذي قدم لها مجموعة كبيرة من الأغاني أبرزت موهبته وقدرته على خلق نمط موسيقي خاص به يستقي من الموسيقا العربية والموسيقا العالمية، وما زالت مسيرة الفنانين مستمرة بنجاح حتى يومنا هذا. تجلت هذه المرحلة بالعديد من الألبومات من أبرزها كيفك انت ، فيروز في بيت الدين 2000 والذي كان تسجيلاً حياً من مجموعة حفلات أقامتها فيروز بمصاحبة ابنها زياد وأوركسترا تضم عازفين أرمن وسوريين ولبنانيين، وكانت البداية لسلسلة حفلات حظيت بنجاح منقطع النظير لما قدمته من جديد على صعيد التوزيع الموسيقي والتنوع في الأغاني بين القديمة والحديثة ، ألبوم ولا كيف عام 2001 كان آخر ما قدمته فيروز من تسجيل، وجميع عشاقها في انتظار ألبوم جديد طال الحديث عنه، ومن المرجح أن تأخره عائد إلى الأوضاع الحرجى في لبنان في الآونة الأخيرة.
___________________________
على خارطة العالم، لم يكن لبنان ملحوظا لولا الاهتمام الدولي، او بالاصح لولا المصلحة الدولية من جهة والتطور التكنولوجي، من جهة أخرى، ينتشله من موقعه وينقله إلى كل بلد. كاد أن يضيع في البحر المتوسط أو يتجمد في القطب الشمالي أو يذوب على خطّ الاستواء بالنسبة إلى شعوب العالم، لولا تلك الحرب التي كانت تحمله الى نشرات الاخبار بهوية بشعة: قصف، إنزالات عسكرية، أشلاء وجثث... صور ملطخة بالدم وصوت يصدح على ايقاع واحد، ايقاع القذائف والبنادق في مرحلة الطوائف.. وأخبار الفساد والمراهنات والوصايات في مرحلة ما بعد الطائف. هذا كان صوت لبنان بعد الاستقلال.
هي حملته أيضاً الى العالم، انما بصورة أخرى لا بل نقيضة. غنته <<لبنان الكرامة والشعب العنيد>> و<<تراب الجنوب>>، ب<<إيمان ساطع>> بوطن مستقل، لا يخرج من وصاية لينضوي تحت أخرى.
صوت فيروز لم ينقسم الى <<شرقية>> و<<غربية>>، وأبى أن يصدح في جلسات الملوك الخاصة. صوت لا يغني إلا لشعوب، لأمواج من البشر في احتفالات عامة.
الاحتفال بعيد الاستقلال ليس عامّا لتحتفل به فيروز، إنه احتفال خاص، يخص <<ملوك الطوائف>>، يتوارثونه من الآباء الى الابناء، في عملية بيع وشراء اذ يبيعون استقلالا ويشترون آخر بكمية من الشعب، يتنازلون عن حصّة ليحصلوا على أخرى. بعضهم يشارك هذا العام، وبعضهم شارك في الأعوام الماضية، وبعضهم يتجهز للعام الجديد.. ليس استقلالاً عامّاً. عملية بيع وشراء مباشرة على الهواء، لا تتطلب الا ثرثرة يجيدونها، عملية أشدّ استهلاكا من أي سلعة موجودة في الأسواق.
أما هي فتجيد لعبة الصمت، به تستدرجنا للانتماء إليها. وتعرف متى تكسره وبماذا تخاطب الجمهور النهم لسماع صوتها، فتغني <<يارا>> و<<شادي>> و<<قمر مشغرة>>... تغني لبنان بصورته الأجمل، لبنان <<لولو>> و<<بترا>>، تعيد رسم تلك الصورة البديلة التي تجيد رسمها، في عينينا المرتبكة، اليوم... تغيب ثم تعود فتوقظ هذا الجمهور الشعب من سأمه، تحمله من <<ناس من ورق>> الى <<ناطورة المفاتيح>>.
غداً، عرض عسكري آخر، وجيش مرصوص الصفوف، وشخصيات تستعرضه في ساحة العرض. غدا ليس سوى ذكرى تستحضر من كتب التاريخ ومروحيات تحلّق فوق الشعب. بقيت منها نميمة حول المشاركين والممتنعين.
فيروز لم تغن للمروحيات بل لطيارة الورق الملونة. المروحيات تعني الحرب، أما طيارات الورق فلا تحلّق أيام العواصف.
اليوم عيد ميلاد فيروز. ها هي ثمانية وستون عاما قد مرت، ها هي حقبة تاريخية سيحتفل بها لأكثر من مئة عام، لا بل لأطول من عقود. والتاريخ إذا استعرض صانعي الاستقلال، فسيحاكمهم من خلال أغنيات وصوت فيروز، الملك النائم، والحاكم الظالم والحارس المرتشي.
فيروز <<وطن>> لا يحتفل بالاستقلال لأنه لم يكن يوما خاضعاً. صوت خاص مداه عامّ. وطن عن الواقع كما الرحابنة، طيّب وأصيل كما زكي ناصيف، ثائر للغد كما زياد الرحباني. فيروز هي الوطن المتعارف عليه، ينتمي إليه اللبنانيون كلهم.
________________________________
الفتاة الفقيرة التي غنّت في الرابعة عشرة اصبحت رمزاً للبنان لا يفارق وجدان العرب... فيروز تطفئ شمعتها السبعين في عيد الاستقلال
بيروت - عبده وازن الحياة - 22/11/05//
تطفئ المطربة فيروز اليوم سبعين شمعة، محتفلة بعيد ميلادها السبعين الذي يصادف عيد استقلال لبنان. ففي الثاني والعشرين من العام 1935 ولدت نهاد حداد في بيت فقير من بيوت حي «زقاق البلاط» البيروتي، من أب يدعى وديع، هو من السريان الذين هاجروا من مدينة ماردين، وأم تدعى ليزا البستاني. وإن ولدت فيروز او نهاد (اسمها الأصلي) قبل عيد الاستقلال الذي أُعلن في الثاني والعشرين العام 1943، فهي ما لبثت ان أضحت رمزاً وطنياً يلتقي حوله اللبنانيون على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم.
قد تبدو سيرة فيروز الشخصية خارج مسيرتها الغنائية ضئيلة في وقائعها، فهي تزوجت من عاصي الرحباني في العشرين من عمرها منضمة الى الأسرة الرحبانية كزوجة ومطربة في الحين ذاته. وكانت اصلاً تعاونت مع الرحبانيَين عاصي ومنصور قبل الزواج، بين عامي 1949 و1955. وإذا كان حليم الرومي اكتشفها قبل عاصي وأطلق عليها لقب فيروز عندما كانت تغني في الإذاعة اللبنانية، فإن الأخوين فليفل، محمد وأحمد، كانا سبّاقين في تأليف اغنيات فردية لها وتلحينها، وبعضها أنجز في الإذاعة السورية وإذاعة الشرق الأدنى. ومن تلك الأغنيات التي باتت مجهولة او شبه ضائعة: «ميسلون»، «فتاة سورية»، «إلى سورية» وسواها. وقد يصعب تصور تلك الفتاة ابنة الرابعة عشرة، تؤدي منفردة مثل هذه الأغاني عبر إذاعات مهمة ومعروفة حينذاك في المشرق العربي.
عائلة الفتاة نهاد كانت من العائلات البيروتية الفقيرة، تقطن منزلاً تقاسمها إياه عائلة
فيروز.
اخرى، وكانت نهاد تسترق السمع الى «راديو» الجيران يبث اغنيات تلك المرحلة، فتحفظها وترددها. لا تخجل فيروز من حكايات طفولتها الحزينة والفقيرة، ويحلو لها أحياناً ان تقص على اصدقائها بعضاً من تلك الحكايات، ومنها حكاية الحذاء الذي يكون ابيض في الصيف ثم يصبح اسود في الشتاء، بعد ان تصبغه لتتمكن من انتعاله طوال السنة!
لكن السيرة الحقيقية و»العامة» تبدأ بعد زواجها وانصرافها الى الغناء والتمثيل في الأعمال المسرحية والسينمائية. وهذه السيرة لا تخلو من الصفحات البيض المشرقة والصفحات السود القاتمة. فالحياة التي عاشتها فيروز لم تكن مستقرة، وهي كابدت من الآلام وربما المآسي بمقدار ما عرفت من مجد وشهرة. لم تحظ بالألقاب الكبيرة والأضواء والتكريمات إلا بمقدار ما عانت من شجون شخصية وعائلية. ولو لم تكن فيروز من طينة نادرة لما استطاعت ان تصمد حيال العواصف التي هبت في حياتها. ابنها «هلي» لا يزال مقعداً يتنقل بين السرير والكرسي المتحرك، شاب وسيم ولكن لا يعي ما يحصل حوله، ابنتها ليال توفيت في عز صباها... هذان جرحان في روحها لا يندملان مهما حاولت ان تنسى. اما الخلافات العائلية السابقة والهموم التي واجهتها فهذه امور أخرى، ليس مناسباً تذكرها الآن.
تعيش فيروز مع ابنتها ريما، متنقلة بين بيتيها، الأول في الرابية وهو البيت العائلي والثاني في الروشة. نادراً ما تخرج فيروز من البيت، وإن خرجت ففي طريقة شبه سرية، واضعة نظارتيها وإن كان الوقت غروباً او مساء، فهي لا تحب الظهور العلني بتاتاً. اما اصدقاؤها فيزورونها في منزلها، وكذلك مستشاروها وناشرو اعمالها وسواهم. حياة هادئة جداً، تميل الى ان تكون ليلية، فالسيدة فيروز لا يمكن الاتصال بها إلا بدءاً من بعد الظهيرة.
الليلة تحتفي فيروز بعيدها مع ابنتها وبعض الأصدقاء والصديقات الذين تأنس إليهم وتثق بهم. والعيد أليف وبسيط وبعيد من أي صخب إعلامي. لكنّ الإذاعات وبعض مواقع الإنترنت بدأت امس الاحتفال بهذا العيد وفي ظنها ان فيروز ولدت في الحادي والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر). وكانت مجموعة من المثقفين العرب اصدرت قبل شهر بياناً دعت فيه الدولة اللبنانية الى جعل يوم ولادة فيروز عيداً وطنياً. وهذا ما لا تحبه فيروز، هي التي تكره اصلاً الكلام عن الأعمار. وقد تكون على حق، فمن يصدّق ان هذه المطربة الكبيرة التي واجهت الزمن بصوتها البديع، واستطاعت ان تنتصر عليه حباً وحنيناً، لوعة ووجداً، اصبحت في السبعين؟
______________________________
بقلم : معن أبو الحسن
كثيرون كتبوا عن فيروز خلال ما يزيد على أربعة عقود، لكن ما كتبه الشاعر والأديب جورج ابراهيم الخوري يبقى بين الأجمل: ما أشهى الحديث عن فيروز... هي أكثر كثيراً من مطربة, وأقل قليلاً من أسطورة... إنها نهاد حداد...
نعم، هي نهاد حداد التي أشرقت شمسها من منطقة جبل الأرز شمالي لبنان في الحادي والعشرين من شهر نوفمبر من عام 1935 عندما رزق وديع حداد وليزا البستاني بابنتهما نهاد التي عرفت فيما بعد باسم فيروز. وبعد عامين من هذا التاريخ انتقلت العائلة إلى مدينة بيروت حيث وجد الأب عملاً.. تذكر هذه السيدة التي تربعت على عرش الأغنية الجماهيرية العربية بأنها عاشت حياة بسيطة، ولكن سعيدة. وفي لقاءاتها الإعلامية - النادرة - كثيراً ما نجدها تحن إلى تلك الأيام عندما كانت تغني في المطبخ فيخرج ذاك الجار المحروم من قيلولته غاضباً مزمجراً : شو هالإزعاج.. لا تكون الإذاعة انتقلت عا حارتنا وما معنا خبر .
في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، ومن خلال برنامج غنائي كانت تبثه الإذاعة اللبنانية آنذاك، وجد الأخوان فليفل ضالتهما في صوت تلك الفتاة التي كانت تشارك في الأعمال الفنية المدرسية. وبعد مفاوضات عسيرة مع والدها المحافظ، استطاع الأخوان فليفل أن يضماها إلى كورس الإذاعة اللبنانية، وحصلت على راتبها الأول من الإذاعة وقدره مائة ليرة لبنانية.
ومن خلال الإذاعة اللبنانية، تعرّف الملحن الكبير حليم الرومي إلى صوت نهاد وأعجب به، فاختار لها اسم فيروز بدلاً من اسمها الأصلي. وتزامناً مع تلك الفترة، بدأ نجم الأخوين رحباني بالسطوع. وشاءت الأقدار أن يتم لقاء الرحابنة وفيروز في حضور حليم الرومي عام ألف وتسعمائة وواحد وخمسين حيث أبدى عاصي الرحباني حماساً قويا للتعاون مع فيروز فيما أبدى شقيقه منصور تحفظات عديدة، لكن تلك التحفظات لم تستمر طويلاً، بل تبددت، ليقرّ منصور لاحقاً بأن بصيرة شقيقه قد عبرت المدى لتستقر في عمق المستقبل. بدأ التعاون بأغنيات تراثية نفخ فيها الرحابنة روحاً موسيقية جديدة، ثم تطور لأغان ألفت ولحنت خصيصاً لفيروز. وقد وفّر هذا التعاون تربة خصبة لعلاقة حب بين عاصي وفيروز كللت بالزواج الذي أعطى زخماً كبيراً لهذا التعاون واعتبر انطلاقة فعلية لما عرف لاحقاً بالـ المدرسة الرحبانية .
الانطلاقة الصعبة في ظل المدرسة الكلثومية
لقد كان النموذج الفني الذي قدمه الرحابنة عبر صوت فيروز خروجاً صارخاً عن المألوف السائد آنذاك. وقوبلت هذه التجربة الوليدة بسيل من الانتقادات اللاذعة من قبل أقلام شهيرة في المجال الفني والإعلامي. إلا أن ذلك التيار لم يستطع الوقوف طويلاً في مواجهة الأصالة التي ميّزت هذا الاتجاه الفني، مما اضطر الأقلام الناقدة لإعادة النظر في موقفها والانضمام إلى الإعجاب الجماهيري الهائل الذي رافق الانطلاقة.
إن الأغنية السندويتش التي قدمتها فيروز لم تكن تماشياً مع الطابع الحداثي لهذا الزمن فحسب، بل هي أيضاً تجربة رحبانية ذكية وناجحة، هدفت إلى إيجاد نوع من التوق و الجوع - إن صح التعبير - إلى مزيد من الغذاء الروحي من خلال أغنية قصيرة لا تتجاوز ثلاث دقائق في معظم الأحيان ولكنها تمنح كمية كبيرة من الإطراب والتفاعل العاطفي مع الأغنية ضمن هذا الوقت القصير، مما يعطي للمتلقي شعوراً داخلياً يطلب المزيد. وعلى نقيض المدرسة الكلثومية التي اعتمدت على إحداث نوع من التخمة لطالب الغذاء الروحي، نجد المستمع خارجاً من حفلة كلثومية تستغرق فيها الأغنية الواحدة ساعة وبعض الساعة، وفيها الكثير من التكرار لمقاطع الأغنية الواحدة، وقد حفظ الأغنية عن ظهر قلب.
أدركت السيدة أم كلثوم بأن تلك الصبيّة القادمة من جبال الأرز الشامخة سيكون لها شأن عظيم في عالم الفن. ولم تحتفظ كوكب الشرق بهذا الرأي لنفسها فحسب، بل أعلنت على الملأ في أكثر من مقام بأن فيروز هي وريثة عليائها الوحيدة على عرش الأغنية العربية.
عندما تخطر فيروز على البال، تخطر أيضاً أفكار لا حصر لها. فنستحضر ما قاله محمود درويش في هذا الصوت إذ قال: فيروز.. الصوت القصيدة .. ولا تتوقف الأفكار عند ذلك.. حيث يسير بنا هذا الاستحضار بعيداً، فنشعر بوجود وقوة الوطن، الإيمان، الحب، الإنسان، الجمال، الملحمية.
ثالوث النجاح: عظمة الصوت، الأصالة والتجديد
يقول الشاعر الكبير الراحل نزار قباني في مقالة نشرت له في مجلة الحوادث اللبنانية بتاريخ 17/2/1978: جاءت السيدة ذات الصوت المائي. جاءت فيروز, هجمت علينا كغمامة, هجمت كقصيدة, هجمت كمكتوب غرام قادم من كوكب آخر, هجمت كتفاصيل حب قديم وبعد ثلاث سنين من التوحش, مررنا تحت أقواس صوتها الحضاري, فتحضرنا .
لا شك بأن هذا الصوت الأسطوري كان مفتاح النجاح الأول بما يمتلكه من قدرات قل مثيلها. فالمساحات الصوتية والطواعية والقدرة اللامتناهية على التنقل بين طبقات الجواب والقرار كانت بالفعل مثار اهتمام الباحثين في هذا المجال الذين أجمعوا على أن صوت فيروز أحدث ثورة في أسلوب الغناء العربي والشرقي بشكل عام. فقد استطاعت فيروز أن تعطي صوتها من صميم الحنجرة في حين أن الغناء الشرقي عامةً (والعربي خاصةً) يؤدى من الأنف. ولكي يصدر الصوت من الحنجرة قوياً وسليماً، فلا بد أن يخرج من التجويف البطني. وفي كتابه جارة القمر يقول الشاعر المصري الراحل فؤاد بدوي: والسؤال ما أهمية الأداء من الأنف أو من الحنجرة? والجواب على ذلك أن الأداء من الأنف يفرض نغمة الحزن حتى وإن كانت الكلمات تقول: الورد جميل جميل الورد.... لكن صوت فيروز حينما يغني الورد يصبح هو فعلا وردا متفتحاً ومعطراً ..
ويؤكد أنسي الحاج، الشاعر اللبناني الكبير، أنه كلما تقدم صوت فيروز كلمة, مقطعاً, نغماً انفتح أمامنا أفق جديد, وكل غناء لها هو بتقديره سيطرة على الزمن وغلبة على الوحشية وفعل حب... فبعض الأصوات سفينة, بعضها شاطئ, بعضها منارة, وصوت فيروز السفينة والشاطئ والمنارة .
وعلى الرغم من أن التجربة الرحبانية كانت ثورية في حينها، ولكنها في الوقت نفسه لم تتمرد على التراث، بل تماشت معه وطوّرته وأضافت إليه الكثير. وهكذا نجد أن فيروز غنت الموشحات، والقدود الحلبية والتراث اللبناني والسوري (الشامي بشكل عام)، والأندلسيات، وحتى اللون البدوي. كما أعاد الرحابنة تقديم بعض أعمال سيد درويش. وحتى أدواره القديمة كدور أنا هويت غنته فيروز في العديد من الحفلات. كما لا يخفى على عشاق صوتها أن فيروز غنت العديد من الأغاني التي غناها صباح فخري أيضاً مثل يا شادي الألحان ، يا مال الشام ... إلخ. ونجحت فيما بعد تلك التجارب الجديدة التي قدمها الرحابنة بترسيخ وجودها في عقل المستمع العربي (قبل أذنه) جنباً إلى جنب مع التراث حتى أصبحت تلك الحداثة تراثاً بحد ذاتها، وهو ما يعتبر قمة في النجاح.
ومن المؤكد أن تجربة التجديد وروح المغامرة الفنية التي تميزت بها هذه المدرسة ورافقتها على مدى مسيرتها الطويلة كانت من أهم عوامل النجاح. فقد نحت إلى تطوير الموسيقى والغناء العربي وقفزت إلى الأمام بخطوات كبيرة على مستوى اللحن والموضوع وحتى على مستوى التوزيع اللحني الأوركسترالي.
لقد أثرت الموهبة الرحابنة الشعرية على الإبداع التأليفي الموسيقي، فارتبطت الجملة اللحنية دائماً بالنص الشعري الحر الذي لم يتم تأطيره ضمن قوالب الأوزان التقليدية. وأدى ذلك إلى تحرر الأغنية الرحبانية من المفهوم الضيق للتلحين، انطلاقاً بها إلى فضاء التأليف الموسيقي الأرحب.. فلم تكن الموسيقى خاضعة أو تابعة للنص وإنما نبعت من دفقات حسيّة أساسها الموهبة الإبداعية الخارقة. ولعل تناغم الموهبة الشعرية والتلحينية لدى الرحابنة جعلت الأفق مفتوحاً أمامهم على ما لا يضاهى من التنوع والغنى. وبنفس الوقت تطلب ذلك من الرحابنة جرأة المغامرة والقدرة على المواكبة بين الأصالة والتجديد بوعي ومعرفة وحساسية شعرية عالية.
ولا شك أن التجربة الفيروزية مع زياد الرحباني تعتبر امتداداً طبيعياً لما بدأه الجيل الأول من الرحابنة، وسلوكاً أصيلاً في الجمع بين الموروث الأصيل والجديد المبتكر، وإن كان زياد قد اتخذ السوريالية اللحنية والنصيّة مدخلاً للتجديد.
فيروز تتربع على عرش المسرح الغنائي العربي
شكلت المسرحيات الغنائية التي قدمتها السيدة فيروز جزءاً لا يتجزأ من ذاكرتنا المعاصرة، ولم يكن هذا المسرح ليشابه أياً من تجارب المسرح الغنائي العربي الأخرى بل شكل نقلة نوعية في هذا المضمار. فقد استطاعت هذه التجربة أن تجمع بين جميع العناصر الفنية، الأدبية، الثقافية، والاستعراضية التي يمكن أن تؤدى على خشبة مسرح ما.
اعتمدت المسرحيات التي قدمتها السيدة فيروز على عنصر الحكاية. حكاية قد تكون غير موجودة أساساً ولا تمت إلى الواقع أو الجغرافيا بصلة. ولكنها ترمز في نهاية المطاف إلى واقع معين من خلال الدلالات والإسقاطات. وهكذا ولدت شخصيات زيّون، غربة، لولو السويعاتية، زاد الخيـر، بتـرا، هيفا.. وغيرها. ويمكن القول إن الفنتازيا في الدراما العربية رأت النور في مسرحيات السيدة فيروز.
وتعتبر سمات السلاسة في الحوار، العمق الفكري، الفخامة الصوتية واللحنية، والاستعراض المبهر من أهم السمات التي أضفت على هذا المسرح صبغة التميز والابتكار. حيث أعطت هذا الإمكانيات مزيداً من المساحة للغناء والحوار، ومكّنت فيروز أن تهب كامل حضورها لما تقدم من أغانٍ وتجعلها قادرة على التمتع بحرية كاملة في التنقل عبر مساحات اللحن. وقد قدمت فيروز خمسة عشر عملاً مسرحياً غنائياً في مسارح عديدة فوصلت بها إلى مستوى الأعمال المسرحية العالمية التي تقدم على أعرق المسارح الأوروبية.
أما في السينما، فقد اكتفت السيدة ببطولة 3 أفلام فقط، إلا أنها لاتزال إلى يومنا هذا بعضاً من أكثر الأفلام شعبية بين المشاهدين. وقد نجحت في تقديمها لشخصيات ريما في بياع الخواتم، و عدلا في سفر برلك، و نجمة في بنت الحارس، في تجسيد الكثير من القيم الإنسانية والأخلاقية الرفيعة، كالوطنية والثورية والحض على المقاومة ورفض الظلم.
فيروز وقضايا الإنسان العربي
شكلت الأغنية الفيروزية منذ بداياتها الأولى إطاراً للدعوة إلى التحرر والتماسك والوحدة في مواجهة الظلم. ولم يرتبط هذا الصوت الثائر بنواحٍ ظرفيةٍ عابرة أو بمناسبات معينة - كما هو حال الفن اليوم - بل ارتبط بالرغبة المستمرة بالنهوض وإيجاد مناخ من التحفز والأمل بالوصول إلى الأهداف السامية للأمة.
لقد نذرت هذه الفنانة العظيمة صوتها لقضايا الإنسان العربي بشكل خاص، فأنشدت الكثير لوطنها الصغير - الكبير، لبنان، وأنشدت للعواصم والمدن العربية وأتقنت استخدام الدلالات الرمزية للوطنية كما في أغنياتها للإمارات ومصر ودمشق وبغداد ومعظم الدول العربية، ولم يعرف هذا الصوت حدوداً في تفانيه وإخلاصه للقضايا، فحرض الإنسان، كل إنسان، على تقديس الحرية حتى لا يسود حكم الطغاة.
ففي لبنان الأخضر الحلو، أضحت فيروز أيقونة الوطن الطاهر، أيقونة الثورة على أعداء المحبة الذين اغتالوا كلما هو جميل. وكما هي عادة الأبطال المناضلين، خاضت فيروز معركتها من داخل الوطن، ضد الذين سكروا الشوارع وزرعوا المدافع ، معركة ضد الذين قتلوا المستقبل في عيون شادي، ومعركة في مواجهة شذاذ الآفاق الذين اغتصبوا الجنوب، وخرجت من الحرب منتصرة، مكللة بمحبة أبناء وطنها وأمتها.
وفي مجال أغنية القضية الفلسطينية، أصبح صوت السيدة مرتبطاً بفلسطين في ذاكرة الإنسان العربي، ولعل ما قاله الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش يعتبر أفضل ما يمكن الاستشهاد به في هذا المقام، إذ يقول: قدمت فيروز والرحابنة فنياً لفلسطين ما لم يقدمه الفلسطينيون أنفسهم, ولقد أشهر الفلسطيني هويته الجمالية بالأغنية الفيروزية حتى صارت هي إطار قلوبنا المرجعي, هي الوطن المستعاد وحافز السير على طريق القوافل .
ويكفي السيدة فيروز فخراً، ويكفينا فخراً بها، أن يصل الحقد الإسرائيلي إلى حد القيام بحملة إعلامية شرسة ضد فنانتنا العظيمة التي ألهبت مشاعر الثورة في نفوس المقاومين بغنائها. فقد كتب صحفي من صحيفة معاريف الإسرائيلية قائلاً: اسم (فيروز) يدل على البخل، فصاحبة هذا الاسم لم تعط هارون الرشيد في ألف ليلة شيئا إلا بصعوبة بالغة! وهي بالفعل تغني في حفل عام كل خمس سنوات. واعترف الكاتب مباشرة أن صوت فيروز يشبه أمواج من البحر العربي الذي يريد أن يغرقنا. وأضاف قائلاً لم احب أبدا صوتها, انه صوت يهدر من جبال الظلام التي لم نكن لنصل إليها إلا بعد اتفاقيات السلام. إنها لا تتحرك على المسرح أمام الجمهور المتحمس, كأنها كتلة من الملح أو الثلج! ثم كشف الصحفي عن سر غضبته والإسرائيليين من فيروز بقوله: أكتب هذا الانتقاد وأنا حزين فهذا يدل على أن اندماجنا في المنطقة حلم حزين, إن أغانيها تصيبني بالدوار فهي الأغاني التي تنادى بقذفنا للبحر.
ومن المهم أن نذكر هنا بأن الأعمال المسرحية العظيمة التي قدمتها السيدة فيروز قد عززت غريزة الحرية والعدل وكراهية الظلم في نفس الإنسان فهي تسرد لنا قصص الثورة على الطغاة، العسكريتاريا، حكم المخابرات، الاحتلال، والفساد. ومن المثير أن نعرف بأن بعض تلك المسرحيات ما تزال ممنوعة من العرض على شاشات بعض محطات التلفزة العربية.
شخصية فيروز
يقول شقيقها جوزيف حداد متحدثاً عنها: لقد وهب الله أختي فضائل الصمت والاحتمال, ومحبة الآخرين. دائماً كنت اعتبرها أكثر حكمة وأقوى مني. طبيعتها الحقيقية الطيبة كانت تتجلى في وقائع بسيطة لا أزال أذكرها.
تكره السيدة فيروز الكلام الكثير، ويعتبر عنصر الخجل والاحترام للجمهور من أهم العناصر التي ساهمت في تشكيل هويتها الفنية المميزة. والذي يعرف فيروز الإنسان، يدرك بأنها تحاول أن تحمي نفسها من الواقع, لأن الواقع برأيها قاسٍ جداً. فهي تفضل أن تعيش في عالم من الأحلام مليء بالصدق والعفوية, والبساطة الحقيقية وهي غالباً ما تصطدم بهذا الواقع, واقع يسيطر عليه ثلة من ذوي الأقنعة الاجتماعية, وفيروز التي لا يعرفها الكثيرون عن قرب تتشوق إلى حياة سياسية واجتماعية مثالية, حياة تستظل بظلال الصدق والمحبة والأمل.
تتميز فيروز عالمها الخاص بجمال روحي أخاذ رغم الاختبارات القاسية التي مرت بها على مدى حياتها، ومن أهمها وفاة ابنتها ليال في ريعان الصبا، والحياة القاسية التي ترافق ابنها هلي الذي يعاني من وضع صحي مزمن.وإذا كان البعض يأخذ عليها وقفتها الجامدة أو التعالي خلال أدائها على المسرح، فهذا رأي يفتقر إلى الموضوعية. أما من يعرفونها ويعشقون فنها، فإنهم يدركون, أنها حين تغني تنتقل إلى حالة من الصلاة والابتهال.
لقد تميزت كافة الأعمال المسرحية الرحبانية بالملحمية.. وكانت فيروز فيها الشخصية المحورية التي تتميز بصفات استثنائية.. ففي بترا كانت ملكة ذات شعبية، وفي جبال الصوان ويعيش يعيش كانت أشبه ما تكون بقائدة ثورة.. فلا بد من أن تكون الشخصية ذات ملامح مميزة أهمها الوقار والشموخ والكبرياء. من ناحية أخرى، يعتمد تصرف فيروز وشخصيتها وتفاعلها مع الجمهور بشكل أساسي على طبيعة الأغنية المؤداة.. فكيف يتوقع المنتقدون أن تتصرف فيروز أو تتحرك عندما تغني زهرة المدائن ، سيف فليشهر ، شادي .. وغيرها؟
أم زياد
تقول السيدة فيروز: إن زياد منقذ الفن من السقوط الكبير في الحاضر، وهو سيد في المستقبل ، ومن هذا الإيمان العميق بعبقرية زياد، والذي شاطرها إياه الكثير من عمالقة الموسيقى والفن، جاء تعاونها مع زياد الرحباني امتداداً طبيعياً للمدرسة الرحبانية العريقة.
ولم يكن التعاون مع زياد تجديداً اعتادت فيروز أن تخوض غماره منذ بداياتها الفنية، فحسب. وإنما هو تجديد على صعيد الأغنية العربية إجمالاً. ويتجلى هذا الجديد في البعد العالمي الذي أضافه زياد على أسلوب التوزيع واللحن. وبالطبع، فإن هذا التجديد الموسيقي يتبع المواضيع الجديدة والمثيرة للجدل التي استطاعت أن تعالج مشاكلنا الوجودية مع الحب، العلاقة بين الرجل والمرأة، السياسة، الحرية، أزمات الفرد المالية، ورحلة البحث عن عمل، كما لم يحدث على هذا المستوى في تاريخ الأغنية العربية.