آخر الأخبار

العنصرية الوطنية

هذه شعوب تحتاج هزات بارتدادات، إذ لا تكفيها ثورات.

في مقدمة روايته "نيران صديقة" يشن الكاتب المصري علاء الأسواني هجوماً عنيفاً على الجملة الشهيرة وصاحبها مصطفى كامل: "لو لم أكن مصريا، لوددت أن أكون مصريا"، في انتقاد لاذع لما تنطوي عليه هذه العبارة من معان عنصرية، حتى وإن كانت "عنصرية وطنية حميدة" في نظر البعض، إلا أنها تحمل كل دلالات نفي الآخر، وإلغاء كل ما دون هو مصري.

وبينما تُكرس هذه العبارة جدلية العنصرية الموشومة بالوطنية، فإنها تضع الذات العربية أمام تساؤلات محيرة ومستهجنة في آن، تفرضها مستجدات القرن الحادي والعشرين، ليس بشأن الممارسة العنصرية قولا أو فعلا فقط، بل بسطوة امتداد الفكرة طيلة هذه السنوات كي تبقى معمرة إلى الآن دون رفض، أو نقد، أو حتى تجريح.

وما كان من الممكن أن تجد عبارة كامل (1874-1908) كل هذا الامتداد الزمني، لو كان مفهومي الوطن والمواطنة مكتملين في الوعي الجمعي للعرب، ضمن مؤسسات فاعلة، وأطر سياسية حقيقية معبرة عن صوت الشعوب. يضاف إلى ذلك، أن الصدمات السياسية التي تلقتها الشعوب العربية على مدار المائة عام الماضية، لم تكن -على ما يبدو- كافية لإحداث فجوة ثقافية تقطع مع الماضي تماما، بحيث تضمن عدم امتداد مثل هذه العبارات "اللوثة" إلى الأجيال الجديدة، والتي بقيت تتضخم في عقولهم باعتبارها أناجيل مقدسة، لتترجم لاحقا دماً وشقاقاً وانقساماً سياسياً واجتماعياً بين الدول، الأحزاب، والإخوة.

وأمام استبداد الزمن بالتاريخ الذي أنتج لنا "عنصرية مُعمّرة" -يصلي لها كثيرون- يتوجب على المرء العربي اليوم حك عقله المتضخم كذبا بوطنية يتذكرها فجأة وينساها عمدا وقتما شاء، ليجيب عن الأسئلة التالية: ما ميزة المصري التي تجعل فلسطينيا يتمنى أن يكون مصريا؟ وما ميزة الفلسطيني التي تجعل مصريا يتمنى أن يكون فلسطينيا؟ وما ميزة الاثنين معا وغيرهما كي يتمنوا أن يكون كل البشر أشباههم؟ ربما في هذا كله ما يفسر بحث العرب الدائم عن مسوغات تبرر العنصرية التي تعتمل داخلهم تجاه أوطانهم، والتي مازالت "غائمة جزئيا سياسيا" عن طموحاتهم، و"غائبة كليا معيشيا" عن تفاصيل حياتهم.

ولأن مفهوم الوطن ليس مكتملا لدى الفلسطيني مثلا، لأنه لم يختبر فكرة وجوده أصلا، فهذه حالة تجعله يعيش كثيرا مع الاسم فقط "فلسطين"، وهي حالة متخمة بكثير من الشواهد الوطنية والحقيقية والمتخيلة، لذا تجد حالة الانتشاء الوطني لديه متضخمة، حتى أنها أصبحت أكبر من الواقع، وبكثير. بالمثل، فإن المصري يعيش اليوم حالة من "التضخم الوطني" أتاحتها ثورة 25 يناير أولا، مصحوبة بتضامن كبير مع الفلسطينيين إلى حد ما، وثانية أتاحها انقلاب 30 يونيو، مصحوبا بهجوم غير مسبوق على الفلسطينيين؛ ما جعل الوطنية لديه ترقى إلى مستوى التكبر على وطنية الآخرين داخليا وخارجيا، فأصبحت الوطنية وطنيتان، لكن الخيانة لدى الطرفين -الفلسطني والمصري- داخليا وخارجيا، بقيت واحدة في التنظير والفعل.

وفي مرحلة متقدمة من العنصرية الوطنية، يتضخم الوطن بصورة أكبر، فيصير "أماً للدنيا"، كما في الحالة المصرية التي التصق بها على مدار التاريخ العتيق، والقديم، ثم الحديث، أن "مصر أم الدنيا"، ليصنع التشبث بقدسية المقولة عبر الأجيال حائطا سميكا يُعمي قديمها وجديدها عن رؤية كل ما بات يتناقض مع هذه المقولة على الأرض.

وإن تناول أحدهم "الأم" بسوء، لم يَنجُ من قذائف جاهزة تترصده من داخل الجراب التاريخية للبلاد: الفراعنة، الفتوحات الإسلامية، دحر الفرنسيين، هزيمة البريطانيين. وإن كان ذلك بنظر البعض رد ينطوي على رغبة جامحة في الاستئثار بالتاريخ، للاستدلال على الأم من خلاله، فإنه أيضا يفسر شيخوختها الضاربة في التاريخ، والساكنة فيه منذ سنوات، ما جعلها خائرة القوى حتى أمام الاحتفاظ بالحرية التي انتزعتها لنفسها من أحضان الاستبداد في عهد مبارك.

ولمن يريد شيئا من التاريخ الموازي للحقبة ذاتها التي عاشتها مصر وأوروبا، فأنظر مثلا إلى ألمانيا، التي لم يَبقَ فيها حجراً على حجر تقريبا عقب الحرب العالمية الثانية التي انتهت قبل نحو 67 عاماً. لتقف مصر الآن، بشوارعها، وجامعاتها، ومرافقها العامة، ومصانعها، وبما تشاء أن تقف، أمام مرآة ألمانيا، ثم تصرخ بالشعار "مصر أم الدنيا"، وبأعلى صوتها، لترى إن كان سيرتد إليها صدى صوتها.

ولمن يحب التاريخ أكثر، فما رأيك ببريطانيا العظمى، التي أبقت على التاريخ قائما، ولم تنم عليه كما فعلت مصر، بل أرفقته بنهضة صناعية، ثم أتبعته بنهضة تكنولوجية عبقرية. لتقف مصر الآن، بتاريخها العتيق، والقديم، وواقعها الحالي، أمام المرآة التاريخية والعصرية للمملكة المتحدة، ثم تصرخ بالشعار "مصر أم الدنيا"، وبأعلى صوتها، لترى إن كان سيرتد إليها صدى صوتها.

سننحي أميركا جانبا، إذ لا يحلو للبعض مقارنة تاريخها الذي لا يزيد عن 300 عام –فهو قليل- بمصر العابرة لأي تواريخ في التاريخ. فقط، سنضع أميركا الضاربة في التطور اليوم، مقابل مصر الضاربة في التاريخ منذ الأزل، ثم اترك العنان لخيالك، واشتهي ما تريد من تعليقات.

إن المسألة ليست سرد تاريخ فقط كي تبرر الدولة حقها في امتلاك لقب "الأم"، بل إن الدولة "الأم" بالمفهوم السياسي علي الأقل في القرن الحادي والعشرين، تنطق مؤسساتها، ونظامها المعيشي، وإن شئت نظافة شوارعها، بأنها فعلا تستحق هذا اللقب، دون أن تحتاج إلى ترديده في كل مرة تجد فيه نفسها مهزومة أمام حضارة، وتاريخ، وعصرية الآخر.

وبعيدا عن التاريخ، هناك من يفضل استخدام النصوص القرآنية للتدليل على قدسية البلد، في إسقاط خاطئ يفتقر إلى أدنى فهم لمقاصد الآيات، وأسباب نزولها، في تبرير سخيف بأن ورود الأسماء والصفات لهذا البلد أو ذاك في الكتب المقدسة، يبرر رداءة حالتها معيشيا وسياسيا وتعليميا وصحيا، ويعفي رجالاتها من التفكير في سبل النهوض والتطور. وفي ذلك عزاء وسلوى يستدرهما قليلو الحيلة في فقهي الدين والسياسية.

إن مصر اليوم أحوج ما تكون إلى هزة قوية في العقل الجمعي لسكانها، وهزة أقوى في العقل الجمعي لما تبقى من مثقفيها، بعد أن اجتاح الكثير من أبنائها الحساسية الوطنية المفرطة، التي جعلت من أي نقد يوجه لها من قبيل السخرية من أنها "أم الدنيا"، محط تخوين للناقدين، وحذف لهم من قائمة الوطنيين، ليصبح الشعار المخادع "مصر أم الدنيا" آية مقدسة في قرآن مدعي الثورة فقط. وهو موقف يحتم على كل مصري أن يَعُضَ لسانه مرتين في كل مرة يتذكر شعار "مصر أم الدنيا" ليتأكد من صدقية ما يقول، قبل أن يعضه التاريخ مرة واحدة وإلى الأبد.

ليس لدي حَمِيّة ثقافية أو فِرْطٌ في الوطنية إن نقد أحدهم فلسطين عن حق، أو حتى عن غير حق، ولام الفلسطينيين على ما هم فيه من بؤس وفرقة، وبيعهم أراضيهم للإسرائيليين -كما يعتقد كثير من المصريين- لأن الحقائق على الأرض تشرح أكثر مما يمكن شرحه في هذا المقام. إذ إنه حين تفتح الباب بنفسك على مصراعيه أمام الطلقات لتتصدى لها واحدة تلو الأخرى، وأنت تعرف أن كل منها يحتوي نوعا خاصا من السم القاتل، جابهها كلها بطلقات محشوة بالحرية فقط.

إضافة تعليق جديد