اليوم التاسع: لقاء مع الأصدقاء و قرار حاسم.
استيقظت صباح السبت و معدل السكر في دمي أقل من 130. يعني هو بجوار الحد الطبيعي. أكثر من ذلك: جاء أصدقائي الفرنسيون -إيريك و باسكال- لزيارتي بعد الظهر و لعبنا لعبة ورق فرنسية تدعى "تارو" و هي قريبة -إلى حد ما- من اللعبة السورية المعروفة باسم "الطرنيب"...
قبل أن يغادر أصدقائي قمت بقياس السكر فكان... 1.04! يعني طبيعي تماما...
عندها فكرت كما يلي:
الدواء الذي أتعاطاه، بمعدل حبة واحدة في اليوم، هو دواء لا يخفض السكر في الدم لكنه يساعد الخلايا على استقلابه. ثم إن مدة فعاليته هي 8 ساعات، فالحبة التي أخذتها ظهيرة الأمس لا يمكن أن يستمر تأثيرها حتى مساء ذلك اليوم!
و منه، لا يمكن أن يكون انخفاض السكر بسبب الدواء... و منه قراري بإيقاف الدواء...
و هو قرار سيتضح لاحقا أنه صحيح...
اليوم العاشر: نتيجة القرار الحاسم.
كانت النتيجة هي ما توقعته بالضبط: فبالرغم من توقفي عن تعاطي الأدوية استمر انخفاض السكر في دمي و عاد لوضع طبيعي جدا. يعني منذ يوم الأحد السابق، منذ ثمانية أيام، أنا لا آخذ أية أدوية و الحال ممتاز...
لكن ذلك لا ينفي حقيقة بسيطة: حين ذهبت للمشفى كان لدي أكثر من ضعفي الحد الطبيعي! كان لدي 2.6 غ/ل. فما السر يا هل ترى
اليوم الحادي عشر:
حل الأحجية
أنا لم أتمكن، حتى تاريخه، أن أقتنع أني مصاب بالسكري... يعني عدم المؤاخذة: المرضى بالسكري يتبولون كثيرا، كل ربع ساعة تقريبا... و أنا لم ألاحظ ذلك...
بعدين يعني شو هذا السكري العجيب الذي يشفى خلال أقل من أسبوع؟
لا! الحل يجب أن يكون مختلفا...
دعني أذكـّـر أنني وقت ذهابي للمشفى كنت مصابا بوعكة صحية: ألم في البطن. و زاد ذلك سوءا أنني فقعت سكرة صميدعية قبل ذهابي للمشفى بسويعات...
يعني ربما أن مرضي إياه أضعف البانكرياس، أو أنه شجع الكبد على إفراز المزيد من الغلوكوز، أو ربما جعل هضم وجبتي يتم بشكل بطيء بحيث يستمر تدفق السكر للدم... أيا كان الوضع، فقد ذهبت للمشفى و تلقيت 48 وحدة من الأنسولين... من دون اي مبرر، وفقا لرأيي.
و الآن يجب أن ننظر بعين العطف للبانكرياس: فهذا الإنسان، يعني البانكرياس، هو مثلنا جميعا: يعني هو لديه عمل، فيتوجه لأداء عمله، فإن وجد أن العمل إياه -يعني إفراز الأنسولين- قد تم، فإنه يتمدد على كرسيه الطويل و يدخن سيجارة حشيش و هو مبسوط... يعني يتكاسل.
و هذا باعتقادي ما حصل: دفعة الأنسولين الهائلة التي تلقيتها في المشفى أدت لتكاسل البانكرياس... فاستمر ارتفاع السكر و لم تعد البانكرياس لوضعها الطبيعي إلا تدريجيا... و بعودتها التدريجية انخفض السكر تدريجيا...
هذا هو رأيي، لا أدعي أنه الحقيقة و لكنه الوحيد الذي يسمح لي بفهم ما حصل...
بقي علي أن أكتب الخاتمة و هي تتضمن تأملاتي في هذا الموضوع...
خاتمة و تأملات...
في رواية "المحاكمة" (*) لفرانتس كافكا، يستيقظ المواطن "جوزيف ك." ليجد ثلاثة رجال يخبرونه أنه تحت التوقيف. المشكلة، كل المشكلة، هي أنهم لا يقومون بتوقيفه: هذه ليست مهمتهم! مهمتهم هي فقط إبلاغه بأنه تحت التوقيف. كما و لا يشرحون له سبب توقيفه: هذه مهمة الإدعاء، هم مهمتهم فقط أن يقومون بإبلاغه أنه تحت التوقيف!
و تمضي القصة فصولا حيث نجد السيد "جوزيف ك." يحاول أن يدافع عن نفسه ضد تهمة لا يعرفها و ليس هناك من يتفضل بشرحها له، و يأخذ محاميا للدفاع عنه -مجددا بدون أن يعرف ضد أي تهمة- و المحامي أيضا لا يهتم بمعرفة التهمة: يعني مهمته هي الدفاع عن المتهم و ليست معرفة التهمة... و هكذا دواليك.
رواية "المحاكمة" لفرانتس كافكا ترسم صورة رائعة لعبثية الحياة في مواجهة "النظام"، و "النظام" هو مجموعة من البشر "انتظموا" و تخصص كل منهم بوظيفته: هناك من يبلغ بالتوقيف لكنه لا يعرف طبيعة التهمة، و هناك من يعرف التهمة لكنه لا يبلغها للمتهم.
تماما كما أن هناك الطبيب الذي يحقن المريض بالأنسولين دون الإهتمام بمعرفة إن كان هذا المريض بحاجة له أم لا. أو كالطبيب الذي يقرر أن هذا المريض يجب أن يبقى في المشفى فإن رفض المريض ذلك قام بتخديره. تماما كالطبيب الذي يصف علاجا للمريض يمكن أن يتسبب بموته بسبب نقص السكر دون أن يشرح له أعراض نقص السكر -مع العلم أن شرحها بسيط: ارتجاف الأصابع
يعني و لم يتعب نفسه؟ مهمة الطبيب هي أن يصف العلاج، لا أن يحافظ على حياة المريض
ما أعتقده أنا حقا هو أنني لو لم أعترض على جحشنة الأطباء لكانوا تمكنوا من إصابتي حقا و صدقا بالسكري عن طريق تخريب البانكرياس بتاعي بواسطة أنسولينهم الذي يحقنون!
و بالمناسبة، أعتقد أن هذا هو الفرق الكبير بين فرنسا و عالم فرانتس كافكا: ففي فرنسا، إن كانت لديك الشجاعة و كنت على خلق عظيم، فيمكنك أن تتحدى النظام -يعني على مسؤوليتك الخاصة- و أن تعيش... على عكس المسكين "جوزيف ك." الذي اضطر في النهاية أن يعاقب نفسه بالإعدام...
و هذا، و رب الكعكة، أمر كويس!
انتهى.
---------------------
(*) بالفرنسية، اسم الرواية هو "Le Procès"... لا أعلم كيف تمت تسميتها بالعربية...