بورباكي، الحلقة الخامسة (و شبه الأخيرة): عن السرية و عن النجاح و
الفشل.
قلت أن بورباكي كان منظمة سرية، لكنني لم أتوسع في شرح ذلك...
بالحقيقة، السرية في عمل بورباكي تتمثل في نقطتين:
- أولاهما: كافة منشوراته، كل علاقاته المادية و القانونية و غيرها
كانت تتم تحت الإسم المستعار "نيكولا بورباكي"، فلا يوجد اي اسم لشخص
حقيقي.
-ثانيتهما، فالقانون الفرنسي يرغم البشر -على الأقل حين يرغبون أن
ينشروا كتبا و أن يقبضوا ثمنها-، هو يرغبهم أن يقدموا أسماء حقيقية! و
هنا نلاحظ أن بورباكي قام بإنشاء "منظمة المتعاملين مع نيكولا بورباكي"
و جعل لها سكريتاريا، هي عادة سكريتاريا أحد أعضائه، لكن هذه
السكريتاريا ترفض مقابلة الصحفيين، عداك عن السماح لهم بمقابلة السيد
بورباكي شخصيا! مهمة هذه السكريتاريا هو أن تنظم العلاقات مع المؤسسات
الرسمية و مع البنوك و مع أصحاب دور النشر...
فأنتقل للحديث عن نجاح أو فشل مشروع بورباكي...
أذكركم بما كان مشروع بورباكي: كتابة موسوعة في الرياضيات يتم كتابتها
بأسلوب منطقي صارم...
فهل نجح بورباكي في مشروعه؟ أم أنه فشل؟ أم الإثنين معا؟
للإجابة على ذلك أقول: كان مشروع بورباكي، حين اتضحت أبعاده، يتضمن 25
"منهاجا" في الرياضيات، تمثل الموسوعة المطلوبة. و طبعا كان كل من هذه
المناهج يتضمن عدة "كتب"، بحيث أننا إذا اعتبرنا عدد الكتب فالنتيجة هي
بحدود مائة و نيف من الكتب...
لقد أصدر بورباكي ما يقارب عشرة مناهج من أصل الخمسة و العشرين منهاجا
التي كان يطمح لنشرها، و هذا رغم أن المشروع قد ابتدأ منذ 70 عاما!
(يعني: إن اعتبرنا "الكتب" التي نشرت فإن بورباكي قد أصدر ما يقارب 25
كتابا من أصل المائة و نيف التي كان يعتزم إصدارها)...
هذا فشل واضح، أليسه؟
لا، ليسه!
ذلك أن بورباكي، و حين أصدر أولى كتبه، كان يمثل ثورة حقيقية في عالم
كتابة الرياضيات: لقد غير أسلوب طرح الرياضيات، لقد جعل الرياضيات تعود
لطبعها الأساسي: كتابة منطقية صارمة تحتفظ بالأساسي و تبتعد عن
الفرعي...
هذه الطريقة في كتابة الرياضيات شكلت صدمة للرياضيين الذين ينتمون
"للحرس القديم"، إذ وجدوا فيها ابتعادا فضائحيا عن طرق تدريس الرياضيات
القديمة، لكنها بالمقابل حازت على إعجاب "الحرس الجديد" الذي اعتمدها
أسلوبا للكتابة الرياضية...
و لم يقتصر هذا الإعجاب على الحرس الجديد في فرنسا: بل تعداها لكافة
أنحاء العالم: أمريكا، روسيا، المانيا... إلخ...
و هكذا صار "الأسلوب البورباكي" في كتابة الرياضيات هو الأسلوب المعتمد
لدى الرياضيين الشباب في كافة أنحاء العالم، فكان نجاح بورباكي الكبير
هو في فرض أسلوبه، حتى و لو أنه فشل في إنجاز موسوعته...
باختصار: لم يعد هناك من مبرر كي يقوم بورباكي بإنجاز موسوعته الرياضية
ذلك أن كافة الرياضيين في العالم اعتمدوا طريقته في كتابة الرياضيات...
كيف نوجز ما سبق؟
نقول: لقد نجح بورباكي بإنجاز ثورة حقيقة في مجال كتابة الرياضيات، ثم
إن منجزات هذه الثورة تم تقاسمها بين كافة الرياضيين في العالم، فانتفت
الحاجة لوجود بورباكي...
طبعا أي طالب في الثانوية العامة في سوريا يستفيد من الثورة البورباكية
من دون أن يدرك ذلك: إنه يدرس الرياضيات وفقا لأسلوب بورباكي، و ليس
وفقا لأسلوب الرياضيات في بداية القرن العشرين...
منظمة بورباكي في أيامنا هذه:
ما يزال نيكولا بورباكي موجودا. و هو يعقد مؤتمرا سنويا للرياضيات يتم
فيه متابعة آخر المنجزات الرياضية. لكن الحماس الذي كان يميز نيكولا
بورباكي أيام زمان لم يعد موجودا: لقد انخفضت مساهمة بورباكي في العلوم
الرياضية لكن يبقى الإشتراك في مؤتمره السنوي رمز "فخامة" لأي رياضي في
العالم.
و طبعا ما يزال بورباكي يحتفظ بالسرية حول اسماء أعضائه، رغم أن
معرفتهم أصبحت من أبسط ما يكون... لنقل أن هذا هو نوع من "المزاح" الذي
يذكرنا بالمزحة التي أدت لنشوء هذه المنظمة السرية...
لقد قلت، إلى حد كبير، إصدارات بورباكي... و الإعتقاد العام هو أن
مشروع بورباكي العظيم، كتابة موسوعة رياضية، لن ينجز أبدا...
لكن هذا لا يعيب ابدا نيكولا بورباكي... يكفيه فخرا ما أنجزه، أليسه؟
هذا هو كل ما لدي عن نيكولا بورباكي... و لا أعتقد أنني سأعود، اللهم
إلا بهدف إضافة تحديدات بسيطة...
فهذه كانت الحلقة شبه الأخيرة، و أختمها بالقول:
علموا أبناءكم الرياضيات و السباحة و ركوب الخيل...
إضافة تعليق جديد