21) لمحة عن عناد الرئيس حافظ الأسد:
بعد نهاية ذلك الاجتماع الماراثوني مع الأسد في دمشق، دعانا الأسد لأوَّل مرَّة بعد 10 ساعات تقريبًا من التفاوض للتوَّقف عن الكلام والذهاب إلى غرفة الطَّعام لتناول الغذاء.
كانت مناقشات الصباح بين الرَّجلين خلال 10 ساعات غير مثمرة، لأن الأسد كان متشددًا في شروطه خاصة بخصوص التفاوض المباشر مع إسرائيل وإصراره على مشاركة الأمم المتحدة في مؤتمر للسلام ينعقد بصورة دائمة حتَّى الوصول إلى اتفاق. وهي شروط ترفضها إسرائيل وأمريكا.
جلسنا جميعًا حول الطاولة وكنت أجلس كالعادة بجانب الأسد وبيكر في مقابله، وتناولنا بشهية المازة العربيَّة ونحن نتحدث في أمور هامشية لتخفيف التوتر الناتج من تصلب الأسد وتعثر التفاوض، وفجأة ومن دون مقدمات، عاد الأسد بعناد لتأكيد موقفه حول مؤتمر السَّلام الدَّوْلي وشروطه الشخصيَّة الصعبة. بيكر صعق وقال مثلاً عاميًا من ولاية تكساس ترجمته الحرفية هي: (لو كان الضفدع له جناحان، فإنَّ خصيتيه لن تحكا الأرض عندما يهبط)!! لم يفهم المترجم السوري مغزى المثل فصمت! التفت الأسد نحوي فورًا وسألني عن التَّرْجمة العربيَّة لهذا المثل ولكن بيكر تدخل فورًا مُبتَّسمًا قائلاً: (أظن من الصَّعب ترجمته للرئيس) (ربما لأنَّه محرج).
وأضاف بيكر (لقد قصدت أن الثعلب لو لم يتوَّقف عن الجري لاستطاع إمساك الأرنب) ولكن الأسد بدا مع ذلك مشوشًا وتظاهر بنسيان الموضوع، وعدنا بعد الغذاء إلى غرفة الاجتماعات لمواصلة النقاش والتفاوض لنواجه مشكلات أعظم مع الأسد.
وأثناء النقاش استطاع بيكر بمهارته الفذة انتزاع قبول الأسد وموافقته على أمور محورية مهمة، ثمَّ بعد ساعات من الحديث والتفاوض والنقاش، استخدم الأسد ببرود تكتيكه الاستفزازي المعتاد في المفاوضات، فقال كلامًا يناقض كل ما وافق واتفق عليه مع بيكر قبل قليل! ولذلك، نظر إليه بيكر بغضب شديد وهو غير مصدق ما يجري ورفع يديه في الهواء محتجًا، ثمَّ أقفل شنطته الجلدية (Portfolio) التي يكتب فيها ملاحظاته قائلاً: بغضب شديد وهو ينهض: (فخامة الرئيس لا أعتقد أنني استطيع مواصلة التفاوض معك) (Mr. President، I Cannot Do Business With You!). عندها قفز الوزير السوري ناصر قدور ليهمس في أذن الأسد (إنه غاضب سيدي)! وفوجئنا جميعًا عندما بدا الأسد مبتهجًا (بعكس المتوقع) بأن تكتيكه في التفاوض نجح في استفزاز (وزير خارجية العالم الحر)!!
ولكن مع هذا، كان النجاح النهائي والحقيقي من نصيب جيمس بيكر ومهارته العظيمة في التفاوض، لأن الأسد أشار بلطف لبيكر ليعود إلى الجلوس مبديًا بمكر استعداده لإعادة النَّظر فيما قاله.
(22) في القدس
يفتتح دجرجيان الفصل الخامس بعنوان القدس، بمقولة مهمة لرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، حيث قال حرفيًّا للمؤلف بتاريخ 17 كانون الثاني -يناير 1994 (جميع الحكومات الإسرائيليَّة قرَّرت أنَّه لكي تنبثق ديمقراطيات في العالم العربي، يجب أن ننتظر مئة سنة على الأقل)!
وصلتُ إلى تل أبيب في 12 كانون الثاني -يناير 1994، لأبدأ فصلاً جديدًا ومهمًا في حياتي الدبلوماسية كسفير للولايات المتحدة في إسرائيل. قابلت جميع زعماء إسرائيل والشخصيات المهمة خلال فترة عملي، ولا أنسى مُطْلقًا حديثًا شخصيًّا مهمًا مع الرئيس الإسرائيلي وايزمان، الذي قال لي بوضوح: إنَّه يجب على إسرائيل أن تسعى بقوة إلى إقامة سلام مع سوريا، وأنَّه يُعدُّ هذا السَّلام جائزة كبرى لإسرائيل، لأن سوريا هي الدَّوْلة العربيَّة الوحيدة التي مازالت تستطيع إيذاء إسرائيل.
وقال لي: إنَّه مازال يتذكّر أنَّه بعد حرب تشرين الأول -أكتوبر 1973، التي تآمرت فيها مصر وسوريا للهجوم على إسرائيل، أنَّه قال للرئيس السادات بصراحة كشخص عسكري يحدث عسكريًّا مثله: (مبروك يا أنور، لقد أدميتم أنفنا)!!
(23) الرئيس حافظ الأسد يقبل عرض الرئيس بوش
للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام
وفي 3 أيار -مايو، هاتفت بيكر لأخبره أن فاروق الشرع أبلغني بموافقة الأسد حول مشاركة سوريا في مؤتمر دولي للسلام، وأن المؤتمر يمكن إعادة عقده بحسب التصويت، وهكذا أصبح الباب مفتوحًا للعمل مع إسرائيل والعرب لعقد مؤتمر السَّلام الدَّوْلي في مدريد عام 1991. الدبلوماسية المكوكية لرئيس بيكر بين إسرائيل وسوريا نتج منها زيارة بيكر لدمشق 16 مرة؛ ولكن الأسد لم يوافق على مشاركة سوريا في مؤتمر مدريد للسلام إلا في زيارة بيكر الأخيرة ولكي نوثق هذه الموافقة كتابيًا بدل الصُّورة الشفهية التي لا يعتمد عليها دبلوماسيًا، هاتفني بيكر من واشنطن ذات يوم وقال لي: إنَّه سيزور لشبونة (البرتغال) بعد أيَّام قليلة ومعه رسالة شخصيَّة مهمة تحتوي على اقتراح رسمي من الرئيس بوش الأب إلى حافظ الأسد ليحضر المؤتمر.
وليؤكِّد بيكر أهمية الرِّسالة القصوى طلب مني إقناع فاروق الشرع ليحضر بنفسه إلى لشبونة ويستلم الرِّسالة شخصيًا.
في الحقِّيقة، كانت الرِّسالة تحتوي على اقتراح رسمي نهائي من بوش لكي تقبل سوريا رسميًّا المفاوضات المباشرة وجهًا لوجه مع إسرائيل ضمن نطاق المؤتمر الدَّوْلي، الذي ستحضره الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على أساس قراري الأمم المتحدة رقمي 242 و338، وكذلك مبدأ مقايضة الأرض بالسَّلام أو بمعنى آخر قبول إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلها عام 1967، مقابل السَّلام مع العرب.
وبنبرة عصبية مترددة ومتقطِّعة طلب بيكر مني إقناع الشرع أن يسافر إلى لشبونة ليستلم الرِّسالة من بيكر شخصيًّا لكي تعكس أهميتها القصوى بالنِّسبة إلى أمريكا. ضحكت فورًا، لأني أعرف أن إقناع السوريين بعمل قرارات سريعة ليس بالمهمة السهلة مطلقًا!
اتصلت بالشرع وشرحت له الأمر ولكنَّه اشتكى فورًا من ضيق الجدول (Short Notice)، وقال: إن سفره مستحيل من دون موافقة الرئيس الأسد!! واصلت الاتِّصال بالشرع لمدة يومين متوترًا لتكرير الطَّلب، وأجابني في النهاية بالموافقة وشعرت بالارتياح والفرحة وأخبرت بيكر فورًا، ثمَّ أدركت أنَّه لا يوجد رحلات تمكنني من الوصول إلى لشبونة في الوقت نفسه، ولذلك طلبت من الشرع أن يسمح لي بمرافقته على متن طائرة الرئاسة السورية الرسمية، وعندما وافق الشرع، هرعت لطلب موافقة الخارجيَّة الأمريكيَّة لكي أسافر على متن طائرة الرئاسة السورية.
وفي اجتماع لشبونة، أحسَّ الشرع بالأَهمِّيّة التاريخيَّة لرسالة بوش وشرح له بيكر أن جواب الأسد على هذه الرِّسالة قد يكون نقطة تحوّل تاريخية في الصراع العربي - الإسرائيلي.
وفي طريق عودتي إلى دمشق مع الشرع، بدأت في محاولة شاقة لإجابة نطاق واسع من الأسئلة الصعبة التي سيطرحها الشرع والأسد حول موضوع الرِّسالة بل وتفحص كل كلمة فيها كعادة الرئيس حافظ الأسد؟
مناقشتي مع الشرع كانت مكثفة وطويلة وأحيانًا حصلت مناوشات عصبية. لقد كنَّا تحت ضغط رؤسائنا. وخصوصًا خوفي من قيام الأسد بتفكيك محتوى الرِّسالة كلمة بكلمة كعادته محاولاً إيجاد ثغرات بنفسه! وأنا بدوري كنت أتلقى عدَّة مكالمات من بيكر يسألني عن رد الأسد.
أخيرًا تلقيت دعوى في ذات المساء للِّقاء الشرع في وزارة الخارجيَّة بدمشق ليلاً. وفي الواقع، توقعت بسبب توقيت الموعد في ساعة متأخرة بالليل بأن الأمر قد يكون بخصوص إطلاق رهينة أمريكيَّة في لبنان، وفرحت بهذا الهاجس السعيد!
وعندما وصلت مكتب الشرع في الوزارة في آخر اللَّيل كان يبدو عليه بوضوح الهدوء والراحة وكان يبتسم عندما قال: (عندي أخبار جيِّدة لك) وناولني مظروفًا أبيض مغلقًا موجهًا إلى الرئيس بوش. شكرته وقلت: أتمنَّى أن يكون جوابًا إيجابيًّا ولكنَّه ضحك عندما ناولني نسخة من الرِّسالة وهو مبتهج قائلاً: اقرأها بنفسك وأعطني رأيك. قلت له فورًا: رأيي ليس مهمًا مُطْلقًا بل رأي الرئيس بوش والوزير بيكر هو الأهم.
ضحك الشرع بصوت عالٍ وفاجأني عندما قال: (طبعًا طبعًا، ولكن الرئيس الأسد يهتمّ برأيك أنت أيضًا)!! قرأت الرِّسالة برهبة شديدة وكانت تتكون من بضع صفحات وبعد أن أنهيتها، جلست على الكرسي، وبدأت بقراءتها مجدَّدًا ببطء شديد وعندها قال الشرع ضاحكًا: (لماذا تقرأ ببطء هكذا وهي رسالة قصيرة وواضحة؟).
نظرت إليه مُبتَّسمًا وقلت: (أبحت عن ثغرة سورية)!! ضحك الشرع وهو يهز كتفيه إلى الأعلى: (هل وجدتها؟). شعرت برهبة شديدة وقلت له: (إنك تجعلني عصبيًّا لأنني لم أجد أيّ ثغرة مطلقًا)!! وهنا قال الشرع: (ما رأيك؟) أجبته: (معالي الوزير أرجوك أبلغ الرئيس الأسد أنني أعتقد أنَّه صنع قرارًا يحسب له تاريخيًّا في عملية السَّلام). شعرت بنشوة وفرحة غامرة لهذا الخبر وغادرت بسرعة إلى السفارة لكي أرسل نصّ الرِّسالة إلى الوزير بيكر والرئيس بوش.
في الواقع وحقا، لقد قبل الأسد عرض الرئيس بوش كما ورد من دون تحفظ سوى قوله (إذا فشلت المبادرة أنَّه يملك الحق للعودة إلى مواقفه القديمة). وهذا من حقَّه طبعًا (أي أن تكون الأمم المتحدة صاحبة الدور المهم في كلِّ المفاوضات بدل القطبين أمريكا والاتحاد السوفياتي قبل تفككه).
بالفعل، لقد كان قرار رئيس دولة عربيَّة قومية مهمة ينتمي إلى حزب البعث وتقع بلاده على حدود إسرائيل الشماليَّة بالمشاركة في مؤتمر السَّلام يُعدُّ فتحًا سياسيًّا أمريكيًّا هائلاً، وبينما كان موظفو الاتِّصالات في السفارة يعدون البرقية لكي ترسل إلى واشنطن، لم استطع مقاومة الفرحة الغامرة، وهاتفت بيكر على الخط الآمن. أجابتني سكرتيرة بيكر الآنسة (كارون جاكسون) أنَّه في اجتماع منفرد مهم مع وزير الخارجيَّة الروسي قلت لها بغضب على غير عادتي: (اسمعي يا كارون لا يهمني من يكون الضيف، أحضري بيكر إلى الهاتف فورًا لأن الموضوع مهم جدًا!!) وبعد دقائق، أجابني بيكر بصوت جدي مستفهمًا بتعجب: (ماذا لديك يا إد، أرجو أن يكون الأمر يستحقُّ أن اقطع الاجتماع مع الوزير الروسي؟). أجبته وأنا مهتاج من الفرحة: (لقد تسلَّمت للتو رد الرئيس الأسد. إنَّها موافقة غير مشروطة على اقتراح الرئيس بوش)! تمهل بيكر، ثمَّ قال ثلاث كلمات بهدوء جليدي كعادته: (أحسنت يا إد) واقفل الخط، ثمَّ توجهت إلى التلفزيون لأشاهد المؤتمر الصحافي للوزير بيكر مع ضيفه الروسي حيث بدأ بيكر الكلام خارجًا عن الموضوع وصعقني عندما قال: (حسب ما وردني للتو من سفيرنا في دمشق، فإنَّ رد الرئيس الأسد كان إيجابيًّا بخصوص اقتراح الرئيس بوش حول مفاوضات السَّلام)! عندما سمعت هذا التصريح أحسست برعب وبرعشة في جسدي لأن بيكر قال هذا الكلام من دون أن يقرأ رد الأسد بنفسه كعادته الحذرة في جميع شؤونه.
وفيما بعد عندما قابلت بيكر قلت له مازحًا: (لقد ورطتني يا سيدي لأنك أعلنت عن قبول الأسد لاقتراح الرئيس بوش من دون أن تقرأ الرسالة!) ورد بيكر بدهائه المعروف مبتسمًا: (لقد تعمدت توريطك حتَّى تتعلم الصَّبر في المستقبل)!!!
إضافة تعليق جديد