تبدأ هذه القصة بعيدا جدا عن البحر، فى قرية صغيرة اسمها كاماتتشاتكا. وكانت هذه القرية تقع على ارتفاع ثمانمائة متر تقريبا عن سطح البحر، ومع هذا، عاش سكانها جميعا على صيد السمك لأن النهر، الذى كان فى سرعة سيل، كان يجرف مياه نقية إلى حد أن أعدادا لا تحصى من الأسماك الآتية من بحر أوخوتسك كانت تندفع نحو منبع النهر فوق سيوله السريعة بلا توقف.
هناك وُلد ذات يوم صبى ترك رضيعا على جزيرة صغيرة قاحلة. التقطه وآواه صيادون سمعوه يبكى وأطلقوا عليه اسم نازروم.
فاجأ نازروم العالم كله لأنه، خلال بضعة أسابيع، صار فى قامة رجل. وفى الشهر الثالث من عمره، صار أقوى وأذكى شباب المنطقة. كان الناس يتطلعون إليه بذهول، ولكنهم أحبوه كثيرا لأنه كان لطيفا ومجدًّا فى عمله. أحبوه إلى أن جاء يوم اختفى فيه السمك فجأة. لم يعد هناك سمك يعيش فى مياه النهر، وبقيت الشباك فارغة. وأدى هذا فى الحال إلى مجاعة، وبدأ الناس يحكون أن نازروم هو الذى جلب اللعنة على القرية. وتحدث بعضهم عن قتله، ورغب آخرون فى طرده، وكان أبوه بالتبنى، المسكين پليتون، قلقا.
"يجب أن تختفى إلى أن يعود السمك"، قال لنازروم.
أجاب الصبى بهدوء شديد: "إذا اختفى السمك فهذا لأن تايينادز، شيخ البحر، قد نام. ولن يعود السمك إلا عندما يستيقظ".
حك پليتون لحيته. وهذا ما جعله يبدو غريبا تماما!
"ومتى سيستيقظ؟
- عندما سنذهب لإيقاظه، قال الصبى.
- ومَنْ إذن سيذهب لإيقاظه؟
- أنا، إنْ كنتَ ترغب.
- ولكن أين هو؟
- فى مكان ما فى جزيرة فى بحر أوخوتسك.
- وهل تعلم أين تلك الجزيرة؟
لا، قال نازروم، ولكننى سأجدها".
وعندما ازدادت القرية تهديدا، ترك الصياد العجوز ابنه بالتبنى يسافر وبدأ يصلى فى انتظار عودته.
سار نازروم بمحاذاة ضفة النهر حتى البحر. سار ثلاثة أيام وثلاث ليال و، عندما وصل إلى الساحل، منهكا، نام على رمال الشط.
وقبل الفجر مباشرة، أيقظه شبان كانوا يتكلمون، دون أن يهتموا بوجوده، عن تايينادز وكأنه سيدهم.
"يمكننا أن نرقص ونتسلى فى سلام، كانوا يقولون، فهو ليس على وشك الاستيقاظ".
رقصوا طول اليوم، ثم انتهى أحدهم إلى القول:
"على كل حال، علينا أن نذهب لرؤية ما إذا كان ما يزال ينام".
وأراد بعضهم أن يبقوا أكثر؛ وكان هناك جدال، غير أن ذلك الذى اقترح العودة انتهى إلى إقناع أصدقائه، وجرت كل الجماعة المرحة نحو الساحل. دون أن يتردد، نهض نازروم ودخل الماء خلف المجهولين. ولأن نازروم كان صبيا لا يمكن أن يدهشه شيء بدا له من الطبيعى جدا أن يرى هؤلاء الشبان يتحولون إلى نوع من الدلافين الكبيرة حالما يلمسهم الموج. ركب نازروم الموج أقوى من الجميع وترك له نفسه ليحمله.
استغرقت الرحلة عدة ساعات فقط؛ وحينما وصلوا إلى الجزيرة، استعادت الدلافين صورتها البشرية وتوجه الشبان إلى منزل مبنىّ من قشور الأسماك ومن الصدف.
وفيما كان الشبان ينظرون بخوف من خلال النافذة ليروا ما إذا كان شيخ البحار ما يزال نائما، دخل نازروم إلى المنزل.
كان تايينادز يشخر بصوت مرتفع جدا، ممددا على جلد دُبّ. ودون أىّ تحفظ، هزّه الصبى وصاح به:
"ألا تخجل من النوم بينما يموت صيادو سمك الأنهار من الجوع! إذن، هل هذه هى الطريقة التى تقوم بها بعملك؟"
استيقظ العجوز مذعورا، وفرك عينيه، وغطس رأسه فى حوض ماء مجمد، ونفض جسمه وانتهى إلى استعادة وعيه. وعندما أخبره الصبى أنه ظل نائما منذ أيام عديدة، انفجر الشيخ فى غضب شديد وصرخ:
"لابد أن هذه الدلافين الكسولة هى التى صبت منوما فى نبيذى. وأثناء نومى، استمتعوا بوقت طيب. ساكربليه، سرعان ما سنرى من هو سيد البحار!"
وبعد أن قال هذا، أمسك بسوطه وخرج إلى العتبة وهو يفرقع عذبة السوط وصرخ:
"إلى العمل، يا عصابة الكسلى! اذهبوا واضربوا الأمواج حتى يصعد السمك من جديد فى اتجاه منابع الأنهار. اذهبوا، أسرع من هذا! أنتم لا تخجلون!"
لم يكد ينتهى إلا وكانت الدلافين قد غطست بالفعل واختفت.
"شكرا، قال الصبى. ولكنك طردتهم كلهم، وأنا، من الذى سيعيدنى إلى الساحل؟"
بدأ الشيخ يضحك خفية.
"أنت، انطلق الشيخ. أنت ستعود على القدمين.
- على القدمين؟ قال نازروم وألقى نظرة قلقة نحو البحر الذى كان يلمع على مدى البصر.
- أىْ نعم، قال الشيخ".
وبحركة هائلة من ذراعيه رسم قوس قزح كانت إحدى قدميه تقف على الجزيرة والأخرى بجوار القرية التى كان قد سافر منها نازروم.
عندئذ، تسلق نازروم إلى أعلى المنحنى الذى انزلق منه ببطء، مفرشحا رجليه على القوس الضوئى الهائل.
وأترككم تتخيلون دهشة صيادى السمك عندما رأوه يهبط على هذا النحو من السماء. وأترككم أيضا تتخيلون ابتهاجهم عندما استداروا نحو النهر حيث وجدوا الأسماك تعود إليه بأعداد كبيرة إلى حد أنه كان عليهم أن يزيدوا متانة الشباك.
وصار يُحتفل بنازروم. فقد أصبح سيد البلاد، وأعتقد تماما أنه صار كذلك دائما لأنه، منذ ذلك الزمن، لم يعد شيخ البحر ينام أبدا.
كل شعوب العالم تخيلت كائنات مثل "شيخ البحر". ولأنهم كانوا ملوكا أقوياء فقد كانوا موضوع إجلال عميق.
الإغريق، الذين نعرف عنهم صفات البحارة، كانوا يكرمون بصورة خاصة پوزيدون، سيد البحر الأبيض المتوسط. وكان يحكم العاصفة ويملك فى قاع المياه قصرا رائعا. وكان يخرج منه أحيانا ويظهر على السطح فى مركبة من الذهب، ممسكا فى يده بشكوكة ثلاثية.
ويتكلم سكان نيچيريا أيضا عن شخصية من هذه الشخصيات: ألْ‘-أوكونْ. وكان يعيش فى قصر تحت الماء محاطا بجلساء عديدين، وكانوا مخلوقات بشرية أو مخلوقات أشبه بالأسماك. وذات يوم تحدى سيد البحر الإله ذاته، لكنكم تتصورون جيدا من الذى خسر. ومنذ ذلك الحين، لم يعد ألْ‘-أوكونْ يشغل سوى المرتبة الثانية بين الآلهة، مباشرة بعد الخالق.
وعند الإسكيمو، تحكى قصة تشبه بشدة قصة شيخ البحر. ففى قديم الزمان كانت امرأة، هى "أمّ الماء" تحكم المحيطات. وكانت هى التي توزع الطعام على الرجال. ولم تكن دائما ذات شخصية سهلة؛ وأيضا، من أجل إرضائها، كان ينبغى تقديم قرابين لها.
وذات يوم، كانت تنتشر مجاعة كبرى فى إجدلوليك ومات كثير من الناس جوعا. واجتمع سكان القرية فى منزل لإعداد الهبات المخصصة لأمّ الماء. وأعلن رجل عندئذ أنه يريد الهبوط مع الهدايا. وكان عليه أن يلح طويلا لأن أصدقاءه، مندهشين بمثل هذا الاقتراح، حاولوا أن يمنعوه. وأخيرا حصل على الحق فى الاختفاء تحت جلود وفى الرحيل. وعندما صار مختفيا تماما، جرى إلقاء الحِزم فى البحر.
وصل الرجل فى حالة جيدة إلى أمّ الماء، غير أن الناس لم يعرفوا أبدا ماذا قالا لبعضهما فى ذلك اليوم. ومهما كان من أمر فإنه لم تعد هناك مجاعة، وكان سكان إجدلوليك سعداء من جديد. وبعد ذلك بوقت طويل، أدركوا أن من أنقذهم كان ساحرا. وأخذوا بالتالى يرسلون دائما سحرة إلى جوار أمّ الماء، ذلك أنهم كانوا بحاجة إلى مساعدتها
Bernard Clavel: Légendes de la mer
(سيبيريا).
إضافة تعليق جديد