لازلت أذكر رحلتي إلى "صفاقس" التي بدأتها من "تونس" العاصمة حيث "جبل ذو القرنين" القادم من البحر، و"جامع الزيتونة" العريق، وساحة رائد علم الاجتماع المعروف"ابن خلدون"، و "المسرح البلدي"، حتى وصلت إلى منطقة "المرسى" السياحية ذات الشواطيء الجميلة، ثم بلدة"سيدي بوسعيد"، ملتقى الفنانين والرسّامين والشعراء، ثم إلى "قرطاج" حيث المسرح الأثري الروماني الشهير، ثم "حلق الوادي"، فالحديقة الوطنية، وصولا إلى مدينة"نابل"، ومدينة "الحمامات" الساحرة، وهي من أشهر المواقع السياحية البحرية حيث تنتشر فيها أفخم الفنادق (النزل) إلى جانب برجها الأسباني القديم.
واصلت الرحلة إلى مدينة "سوسة"، هذه المدينة التي تعدُّ مع مدينة "المنستير" الساحلية جوهرتان فريدتان على ساحل "تونس"، وبعدها تابعت إلى منطقة أثرية تاريخية هي "الجم"، وهي من أهم المدن الرومانية وتشتهر بمسرحها الأثري الكبير، الذي حافظ على بنائه رغم تعاقب العصور.
يمتد طريق "صفاقس" وسط غابات من أشجار الزيتون، تحتضن هذه المدينة الممتدة على شاطيء البحر، والتي تتميز بأسوارها التاريخية، وأسواقها الشعبية، وجامعها الكبير الذي شيد في القرن العاشر، وتعد مئذنته من أجمل المآذن التونسية، وكذلك منطقة "القصبة"، وإلى جانب هذه المعالم الفريدة نجد الأحياء العمرانية الحديثة، ومطارها الدولي، والعديد من المؤسسات الثقافية والتربوية والعلمية والاجتماعية، الحكومية منها والأهلية، بالإضافة إلى المنشآت الصناعية والتجارية التي تشتهر بها داخل "تونس" وخارجها.
منذ عدة سنوات أعلنت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) اختيار "صفاقس" عاصمة الثقافة العربية لعام 2016، فانطلقت المؤسسات التونسية الثقافية في الإعداد لاحتضان هذه المناسبة والبناء على ما حققته من نجاحات، وما واجهته من تحديات خلال احتضان "تونس" العاصمة لهذه المناسبة في عام 1997، خاصة أن "صفاقس" هي مدينة الابتكار والعمل والاستثمار، ومركز متقدم للرواد والمبدعين، في كل صنوف العلم والفن والمعرفة، وهي ذات سجل حافل في رعاية وتنظيم الأنشطة الثّقافيّة كمهرجان "سيدي منصور" السنوي، الذي تجاوز عدد دوراته الخمسين، ومهرجان "صفاقس" الدولي، ومهرجان "المدينة"، و"قرمدة"، بالإضافة إلى الفعاليات الدورية للمعاهد والمؤسسات الثقافية والعلمية والتربوية والاجتماعية.
إن التحدي الأكبر الذي تواجهه "صفاقس" في مهمتها هذه، هو الواقع المؤلم والمحزن للثقافة والمثقفين العرب خلال السنوات الأخيرة، فآثار الانقسام والتشرذم والضياع إلى جانب القمع والفساد بكل أشكاله ودرجاته، وما استشرى من أمراض في نفوس وعقول بعض مثقفينا، بدت واضحةً على المشهد الثقافي العربي، وهو أمر يضع تحديات كبيرة أمام القائمين على هذه المناسبة وطموح وتطلعات "صفاقس". فهل يفلح أطباء "صفاقس" -الذين نشهد لهم جميعاً- في تضميد جراحات ثقافتنا العربية، وهل يفلح عطار "صفاقس" في إصلاح ما أفسدت نزاعاتنا وحروبنا؟
رغم إدراك "صفاقس" للواقع العربي المتردي، وتداعياته الكارثية على حاضرنا ومستقبلنا جميعاً، وما أصاب الثقافة والمثقفين، فإنها اختارت التحدي وشرف المحاولة، ورغم كل بواعث اليأس والإحباط والفشل، اختارت "صفاقس" أن تلهمنا وتستنهض ما تبقى فينا، اختارت أن ترفع راية الأمل والإيمان بالثقافة الأصيلة الجامعة والمثقفين الحقيقيين، اختارت السعي إلى تعميق الحوار وتعزيز قيم التسامح والتفاهم والسلام، لقد اختارت المضي قدماً رافعة شعار"الثقافة توحّدنا و"صفاقس" تجمعنا".
إضافة تعليق جديد