آخر الأخبار

عود على بدء

لأن الدائرة غير المثلث، ولأن أحكام النقض أولى بالاستئناف، ولأن الجمل الذي هاجم الواقفين على تخوم الخديعة ليس فيلا حبشيا، فعلى الواقفين حول كعبة الوطن أن ينفضوا، فللثورة رب يحميها. وعلى الذين تركوا بصمات أصابعهم ونبراتهم العاجية فوق أسطح البنايات وسرادقات العزاء أن يتوقفوا عن النشيج قليلا، فلكل ثورة عرابوها ومشّاؤوها، ولكل ثورة مقال. ولا عزاء لمن فتح شرايينه للريح وأطلق للنزف أحلامه الخبيئة.
عودوا أيها المصريون سيرتكم الأولى بعيدا عن الصهيل واللافتات .. ونظفوا أفنيتكم من الدماء ولا تشبهوا بالثوار، فقد أخرجت الميادين أثقالها، وأوصدت حانات التمرد أبوابها. آن أن تعودوا لحفر الترع وشق المصارف وبناء الأهرامات، وآن أن تختبئوا في أوراق التاريخ وسراديب الجغرافيا كما فعل أولو العزم من المقهورين من آبائكم بعد أن أعلن الجمل انتصاره على الفيس بوك، وداست سنابك المغول جماجم الحالمين وأجهزة اللاب.
من خلف زجاج ذاكرتكم المعتم، يعود التاريخ اليوم حيا كيوم دفنته أمه، فبعد أن فتنتم أنفسكم باتباعكم عجل الثورة، وبعد أن سرتم في دروب الذين قتلوا أنفسهم وذويهم ، ها هو أحمد عز يعود إليكم من خلف جبل الوهم حاملا ألواحه ليعلن سقوطكم الأخير وموتتكم الأولى. ها هو حامل المن وموزع السلوى يروج فوق الأرصفة الباردة مشاريعه الدافئة: منديلا لكل عريان، وليلة حب دافئة لكل خصي ينبح.
فوق منصة ميدان لم يعد دافئا أبدا، يجلس الرجل القرفصاء ليلوى أعناق الكلمات دون أن يستوقفه أحد أو يستمهله أحد أو يستبطأه أحد. وبأنامله الرقيقة، يوزع أمين أمة ظننا أنها خلت الآلام فوق جراح الوطن بالتساو، ولا يلتفت إلى أحد لأنه يعلم أن لا أحد هناك، وأن الدماء التي جفت منذ ربيع لم تعد تحض على الثأر أو تغري البكاء، فقد رحل الذين يعاش في أكنافهم، ولم يبق فوق المقاعد الشاغرة إلا قصاصات جرائد وصور ممزقة وجرافيتي باهت، وقصاصات شعر وآثار دماء.
اليوم يعود عز إلى سوق الوطن بخيله وهجنه دون أن يوقفه أحد، لأن ميادين الرجولة صارت قفرا، وأن ميادين السياسة في بلادنا أرحب من صدور القوانين، وأن محاكم التاريخ أقل صرامة من محاكم النقض والاستئناف، وأن ذاكرة الشعب الذين ثار على حاكمه ثم ثأر لحاكمه من حاكمه، وعاد إلى الميادين في ذكرى الثورة رافعا صورة فرعونه القعيد أضعف من ذاكرة ذبابة.
اليوم، وبعد أن خلت المنصات من روادها، وأغلقت بورصة الثورة على انهيار في معنويات شعب ذهب إلى الثورة ولم يعد، يتقدم أحمد عز كل الرؤوس وكل الجماجم وكل اللافتات ليتصدر الغلاف، وغدا، يمسك الرجل لوح الوطن بيمينه ليرسم فوق خارطة لم تعد ذات ملامح أحلامه القرنفلية ومشاريعه العابرة للأفهام. وغدا تفتتح في سماواتنا الراقصة المزيد من القنوات الماسية، ويتوزع فوق ضفاف قنواتها رعاة الإعلاميين المرتزقة. وغدا يهتف الشعب: بالروح .. بالدم. لكن التاريخ يشهد أن ليست كل الدماء سواء.

إضافة تعليق جديد