آخر الأخبار

كلام لا علاقة له بالأمور السياسية......(42)

بقيت أعيش وحيداً في منزلي الذي أقطنه والكائن في بلدتي برزة البلد لأكثر من تسعة أشهر.
حيث أخترت بمحض إرادتي عدم السفر, رغم حصولي على فيزا شينجن وتأشيرة السفر.


تهجيري من بلدتي
والسبب هو سوء حالتي الصحية, لأنني مصاب بالتهاب قصبات حاد ومزمن. وخاصة أن لي تجربة سابقة, حين ساء وضعي الصحي إلى درجة خطيرة في سفرتي السابقة, وأسعفت إلى المستشفى, وغادرته مباشرة إلى المطار, لأعود وحيداً إلى الوطن. ولهذا السبب سمحت لزوجتي بالسفر وحيدة لزيارة أولادنا وأحفادنا خارج الوطن. أذكر جيداً أنني ودعتها في مطار دمشق الدولي مساء يوم 9/6/2012م. وعدت وحيداً وأنا أحس بألم الفراق, وألم المرض , وألم الوحدة مع المرض. وألم ما سأعانيه من صعوبات في تدبير أموري اليومية الصحية والمنزلية.
عشت وحيداً في منزلي, أقضي وقتي في العبادة والقراءة والكتابة , ومتابعة شبكات النت والاطمئنان عن وضع زوجتي واولادي وأحفادي. ولا أغادره سوى إلى سوق البلدة القريب لتأمين بعض الحاجيات والأدوية الضرورية. إلا أن تردي الوضع الأمني في البلدة في نهاية شهر أيلول, دفع بمعظم سكان برزة البلد لمغادرة بيوتهم. ولم يبقى في جادة ابن القيسرواني من برزة البلد التي تقع في نهاية جادة البستان إلا أنا واخي الضرير وزوجته, حيث بقينا حتى نهاية شهر آذار من عام 2013م, بالرغم من حوادث القنص وإطلاق النار الكثيف أثناء الاشتباكات, واختراق الرصاص للنوافذ والجدران, وسقوط شظايا القذائف والقنابل على السطوح والحدائق وفسحات وباحات وممرات الدور والأزقة, وتساقط زجاج بعض النوافذ نتيجة الانفجارات وتبادل إطلاق النار. وإحدى الطلقات اخترقت زجاج نافذة وأنا اتناول طعام الغذاء, ونثرت بقايا الزجاج على الطعام وعلى السجادة المفروشة على الأرض. ومع كل هذا بقيت في منزلي حتي اليوم الذي سمعت فيه قبل الغروب بصوت انفجار قوي. ارتجت لقوته كل أعمدة وجدران البيت. وبدأت أشم رائحة غبار, وأحس بحرقة في عيناي, وأشعر بضيق في التنفس, لم تفلح بالحد منه كل الادوية والبخاخات التي احرص على وجودها في جيبي, وفي كل غرفة من غرف البيت. ظننت أن جزء من المنزل قد تدمر. وسارعت لأتأكد من سلامة الغرف غرفة غرفة. فوجدت أن الزجاج من بعض عينات النوافذ تساقط وتهشم على الأرض, وحدقت في المرأة الجدارية فوق المغسلة فوجدت عيناي لونها بلون الدم. وبت في حيرة من أمري, فلا جار اتصل به وأسأله عما حدث, أو أطلب منه العون والمساعدة. وأخي الذي بقي هو وزوجته في داره ضرير, وحتماً غير ملم بما حدث. لذلك قررت البقاء متوكلاً على الله. وفي هذا الجو من الحيرة والارتباك, رن جرس الهاتف فجأة, فهرعت إليه بلهفة, فإذا المتصل هو زوج أبنة أخي, والذي سألني إن كنت بخير أو أنني مصاب, وحين قلت له أنني بخير, طلب مني أن ابقى ريثما يرسل من ينقلني من البيت حالما يتوقف إطلاق النار, ويكون الخروج آمناً من الدور. وأخبرني بأنه شاهد من بيته المرتفع الذي يقطنه أن قذيفة دمرت الشقة المبنية فوق المنزل الملاصق لمنزلي منزل, فخاف من أن يكون قد أصابني مكروه. وبعد مضي 20 دقيقة سمعت صوت شاب يصرخ علي كي أفتح له باب البيت, وحين فتحت الباب, وجدت أكوام الركام أمام الباب وعلى الدرج. وأن بعض جدران منزل ابن أخي قد تدمرا بفعل قذيفة أصابت المنزل. وحملت وأياه بعض الملابس بعد أن وضعناها في حقيبة, واتجهنا إلى بيت أخي لأخبره بما حدث. وأنني متجه لقضاء الليلة في بيت غمتي عمتي في البلدة, مع ابنة أخي وزوجها وأبنها العاجز.
في صباح اليوم الثاني, حملت حقيبتي باكراً واتجهت إلى بلدة معربا, لأبدأ رحلة التهجير وعذاب التهجير. راجعت فيها مستوصف السلام الطبي, حيث فحصني الطبيب المختص, وأخبرني بأنني مصاب بنزيف حاد في عيناي من أثر الانفجار وذرات الغبار والزجاج. وبنفس الوقت راجعت طبيباً بخصوص ضيق التنفس, فأعطاني جلسة رذاذ وحقنتين عضليتين, ووصف لي الأدوية الواجب علي استخدامها. وبقيت أراجع المركز باستمرار, وفي كل مرة يتم تبديل العقاقير بأخرى . والتهاب القصبات الحاد بقي يلازمني بين حال سيئة ومستقرة, إلى حالة أسوأ, وتناولي للعقاقير بهذه الكثافة حولني إلى شخص نحيل الجسم وواهن القوى, مع اصفرار وشحوب في الوجه , وفقدان الشهية للطعام, مع صداع يومي شبه متواصل.
في معربا اتقدم بالشكر الجزيل لأبن شقيقتي وزوجته و أقاربه المهجرين من مدينة حلب الذين استضافوني في دارهم طيلة مدة إقامتي في معربا, وعلى ما قدموه لي من مساعدة في كل المجالات. كما أشكر الكثير من الأهل والأقارب والجيران وأهالي حي برزة البلد الكرام, الذين توافدوا لزيارتي بمكان إقامتي للتهنئة بسلامتي من حادث قصف منزلي في برزة البلد, والاطمئنان عن وضعي الصحي بدون ملل أو كلل وانقطاع, وتقديمهم كل مساعدة ممكنة.
كنا نتمنى خلال ما يقارب الثلاثة أعوام من عمر الأحداث في برزة البلد أن نجد أي أثر أو دور للمختار أو للمتنفذين والأثرياء أو لأعضاء المجلس المحلي المنتخبين لمجلس محافظة دمشق في التواصل وتقديم المساعدة لسكان حي برزة, أو زيارة من أصابتهم مصيبة أو مكروه. وفي معربا بقي دور هؤلاء معدوم ولاوجود له. فلم يكلف أي واحد منهم أن يسأل عن أوضاع أحد من اهالي بلدتهم الكرام. حتى أنهم غيبوا من لهم القدرة على الإقناع عن كل أمر.
وقزموا مهامهم بتأمين الحماية والدعم لأقاربهم, وأصحابهم ومدهم بكل أشكال الاعانات والمعونات وحتى بالمازوت والغاز. والغريب في الأمر أنه إذا كان غياب بعض الوزراء والمحافظين عن الاتصال بالمهجرين وتقديم الرعاية لهم, والوقوف على أحوالهم بسبب الدواعي الأمنية بنظرهم مبرر مع أنه غير مبرر ولا مقبول, فإن غياب المخاتير ورؤساء البلديات ودوائر الخدمات ليس له من مبرر على الاطلاق, وهو ليس سوى تقاعس في إداء مهامهم, وتهربهم من عمل وطني وإنساني يساهم بتعزيز أواصر الوفاق والمحبة بين الناس. وكم هو محزن أن وزرات المالية والكهرباء والاسكان والمرافق لم يشعروا بشعور المهجرين, رغم معرفة القاصي والداني بأن برزة البلد وبعض القرى والمدن هجرها أو هُجر سكانها, وهدمت بعض مبانيها, وبدل أن يرفعوا مذكرة لمجلس الوزراء لتسوية أوضاع الناس, وتخفيف العبء عنهم, راحوا يراكمون عليهم الضرائب والفواتير, والتي باتت تثقل كاهل كل مواطن. حيث أنني دفعت قيمة فاتورة هاتفي مع اجور النت لعدة أشهر بحدود العشرة آلاف ليرة سورية.
في بلدة معربا بت مضطراً لاستخدام شبكة النت عن طريق الهاتف النقال. واستخدامي لهذه الشبكة سببه متابعة نشر ما أكتبه من مقالات, و للاتصال مع زوجتي وأولادي خارج الوطن, لأطمئنهم عن وضعي الصحي والمعاشي., حيث كانت إدارة سيرتل تقدم وحدات مجانية إضافية لمستخدمي النت. ومنها هدية مجانية ب200 وحدة لمن يشتري 200 وحدة, وهدية مجانية ب500 وحدة لمن يشتري 500 وحدة, و1200 وحدة مجانية لمن يشتري 900 وحدة. إضافة إلى هدايا مجانية على باقي الاتصالات. وفجأة رفعت أسعار الاتصالات ولم يعد لهذه المزايا من أثر أو وجود, مما زاد من حجم العبء على السوريين. مع أن كل سوري بات مضطراً بشكل يومي, لاستخدام هاتفه الجوال, للاطمئنان على أهله وذويه.
في بلدة معربا لم أجد من أثر لرئيس بلديتها في تقديم أية خدمة من الخدمات. حتى المياه كنا نضطر لشراء برميل الماء بأكثر من 70ليرة, بسبب إمداد المنازل بالمياه يوم واحد كل خمسة أيام. حيث كنا ندفع 1000ليرة سورية كل أسبوع ثمن مياه. ناهيك عن تردي الخدمات وارتفاع الاسعار. وهذا ما زاد من حجم الأعباء على سكان البلدة والمهجرين.
عند مراجعة السوري لبعض الدوائر, قد يضطر لطلب مقابلة وزير أو مدير أو مسؤول, للبت بموضوع أو قضية. يصطدم بتهرب أو رفض البعض, وهذه لتصرفات لا تليق بأي مسؤول.
كل هذه الممارسات والأساليب ليس لها من مبرر , وتسيء لسوريا الوطن وللسوريين.
رجل شهم لن ينساه المهجرين والقاطنين في التل ومعربا وحرنة من برزة البلد وباقي المناطق السورية من مختلف المحافظات, هو الدكتور صلاح عبلا رئيس جمعية إنعاش الفقير في التل, على جهوده في تواصله مع الناس وتقديم كل دعم ممكن لهم في مختلف المجالات. وهذا الرجل كان يسخر كل امكانياته, وحتى أنه يوظف ابنائه بالمجان لخدمة الناس بدون استثناء. وكم المهجرين وسكان المدن والقرى في وطني سوريا بأمس الحاجة لأمثال هؤلاء الرجال!!!
لم أجد أي أثر أو دور يذكر لرجال المال وحملة الشهادات العليا من سكان برزة البلد الكرام, في تقديمهم لأية خدمة أو مساعدة مهما صغرت للمهجرين. ولكن الناس البسطاء والفقراء ومحدودي الدخل من اهالي برزة ومعربا والمحامي وهيب شاكر, هم من تطوعوا لمساعدة الناس المهجرين. فالشكر لهؤلاء على جهودهم الخيرة التي سيثيبهم عليها الله.
في بلدة معربا باتت الأسعار مزاجية, حيث الكثير من الباعة باتوا يرفعون الاسعار بصورة مزاجية. وبدأ السكان والمهجرين يشعرون, ببروز أشخاص همهم تحقيق الأرباح في هذه الظروف. فأسعار المواد ارتفعت بشكل جنوني, وباتت الاسعار ناراً تكوي القاطنين والمهجرين. وحتى التنقل بالميكرو باصات, باتت الأجرة يحددها كل سائق على هواه دون أدنى رادع من ضمير. فذاك يحدد اجرة الراكب من معربا إلى دمشق أو مساكن برزة بمائة ليرة سورية, وآخر ب75 ليرة سورية , وآخر بخمسون ليرة سورية, والراكب مجبر على الدفع فقط.
وضعي الصحي الذي بدأ يتردى من سيء إلى أسوأ, هو من أجبرني على التفكير بالسفر. وبدأت مرحلة تقديم إجراءات السفر للالتحاق بزوجتي وابني الوحيد المقيمين في سويسرا. والسفر بات مشكلة معقدة وعويصة. وحينها يشعر المرء بأن العقوبات التي فرضتها كل من الجامعة العربية ودول الاتحاد الأوربي على النظام السوري كما يدعون, إنما هي نار تحرق المواطن السوري في كل مكان وزمان. فبات لزاماً علي السفر لبيروت. وحين وصلت إلى لبنان. تبين لي أن كلام بعض المسؤولين اللبنانيين عن سياسية النأي بالنفس عن الشأن السوري ,أو ما يفخر به رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي عن تقديم الدعم والعون للسوريين اللاجئين والمهجرين للبنان ليس أكثر من كلام لا محل له من الاعراب. فالسوري لن يجد أية مساعدة. وسيتكبد السوري الكثير من النفقات. وسيتم التحقيق مع السوري في كل سفارة دولة يطلب منها منحه الفيزا من قبل موظفات لبنانيات. ولذلك باءت محاولتي الأولى بالفشل. ولكن بعد شهر تقدمت بطلب آخر ونجحت في مسعاي. وسفري لبيروت مرتين كلفتني أكثر من 80000 ليرة سورية أجور سفر واقامة ومواصلات. ومشقة السفر لرجل مريض مثلي, دفع بوضعي الصحي إلى ما هو اسوأ. فلم اتمكن من السفر بتاريخ 26/9/2013م كما هو مقرر. فاضطررت للبقاء ومراجعة الأطباء حتى منتصف شهر تشرين الثاني, ريثما تحسن وضعي الصحي الذي يمكنني من السفر.
حدد موعد سفري من مطار بيروت الساعة السادسة والنصف صباح يوم الخميس بتاريخ 14تشرين الثاني 2013م. حضر الناس لوداعي من يوم السبت وحتى ظهر يوم الأربعاء بتاريخ 13تشرين الثاني. وحوالي الساعة الثالثة من يوم الأربعاء ودعت من حضر من الأهل والأقارب والجيران, و جميع من كنت اقطن معهم في الدار, وغادرت معربا بصحبة ابن شقيقتي طارق وصديقه اسماعيل الذي حضر خصيصاً من محافظة السويداء, ليرافقنا في سفرنا إلى بيروت ويستضيفنا عند أخيه, فالشكر لهما على هذه الشهامة والنبل والوفاء. وصلنا بيروت الساعة الثامنة مساء, واتجهنا إلى بيت مضيفنا, وبعد تناولنا طعام العشاء بقينا ساهرين حتى الساعة الثالثة من صباح يوم الخميس. وامتطينا السيارة واتجهنا إلى مطار الشهيد رفيق الحريري. وفي بهو المطار ودعت طارق واسماعيل واتجهت أجر امتعتي إلى جناح شركة الطيران التركية. ولن انسى شهامة ونبل تلك المرأة التي انتزعت مني عربة امتعتي وتقدمت بها على كل أمتعة صفوف المسافرين لتوصلني إلى موظفة الشركة التركية, لأنها شعرت بأنني متعب ومريض. وربما هذا التصرف أزعج الموظفة التي ما أن قدمت لها تذكرة السفر, حتى أجابتني بأنها لن تسمح لي بالسفر لأنني رجل مريض, ولا يسمح له بالسفر. فأجبتها بأن مهمتها هي تدقيق أوراقي, لا اجراء فحص وكشف طبي على وضعي الصحي. وعزيمتي أحبطت كل جهودها الارهابية. ومن ثم اتجهت بأمتعتي إلى بوابة السفر, حيث امتطيت الطائرة, والتي أقلعت من المطار الساعة السادسة والنصف صباحاً من يوم الخميس متجهة إلى مطار صبحة استانبول, حيث هبطت فيه الساعة الثامنة صباحاً. في المطار لم أجد من موظف أو عامل تركي يجيبني باللغة العربية, أو يقدم لي أية مساعدة. وعانيت الأمرين من حمل امتعتي والتنقل بها على السلالم الكهربائية. والغريب أن ماء الشرب في المطار والطائرة التركية لا يقدم للمسافر على الاطلاق, إلا من خلال دفع يوروا لزجاجة صغيرة الحجم لا تملئ جوف طفل صغير. فثقافة حكومة أردوغان التي يفاخر فيها بتحسين وضع الاقتصاد التركي , تعتمد على تحقيق الأرباح لا تقديم أي خدمة من الخدمات الضرورية بالمجان للأتراك والمسافرين حتى ولو كانوا من السوريين. وشعرت بالحزن من تهرب موظفي المطار من التحدث باللغة العربية على الرغم أن غالبيتهم من المسلمين ويقرأون القرآن الكريم الذي انزله الله باللغة العربية, ويردده بعضهم في صلواتهم حمس مرات باليوم. وانتظرت حتى الساعة الحادية والنصف, حيث تابعت رحلتي على متن طائرة تركية أخرى متجهة إلى زيورخ. هبطت في المطار الساعة الواحدة والنصف. وفي مطار زيورخ قدمت جواز سفري لرجل الأمن الذي أستقبلني بترحاب وبوجه بشوش. وأرشدني إلى المكان الذي توجد فيه حقيبة السفر, وإلى قاعة وصول المسافرين. وحين عبرت إلى بهو المطار كان بانتظاري زوجتي وابني وحفيدي. وما أن وقعت عيونهم علي, وجدوني رجل حولته سنتين من الأحداث المأساوية في سوريا, وعقود المرض العضال إلى شيخ طاعن بالسن, عمره يزبد عن التسعين.
السوري يستحق أن يعامل من الجميع في كل زمان ومكان, بكل محبة وتقدير و احترام.
الأثنين: 2/12/2013م العميد المتقاعد برهان إبراهيم كريم
burhansyria@yahoo.com
bkburhan@hotmail.com

إضافة تعليق جديد