اسمه محمد بن القاسم من شعراء المئة الثالثة المنسيين كما ذكر إبراهيم النجار صاحب كتاب ( شعراء عباسيون منسيون) وقد غلب عليه لقبه. كان ماني شاعراً رقيقاً يغلب عليه الغزل في شعره الذي يفيض رقة وعذوبة.
ذكره ابن المعتز في طبقاته قائلاً: حدثني أبو شجرة قال: كان ماني المجنون من أشعر الناس وهو القائل:
نُجْل العيون قواصد النبلِ
قتَّلنا بعيونها النُّجْلِ
كَحَلَ الجمال جفون أعينها
تفتر عن كحلٍ بلا كُحلِ
وكأنهن إذا أردن خطاً
يقلعن أرجلهن من وحل
وقد أورد ذكره صاحب الأغاني فقال:
هو رجل من أهل مصر يكنى أبا الحسن واسمه محمد بن القاسم، شاعر لين الشعر رقيقه لم يقل شيئاً إلا في الغزل، وماني لقب غلب عليه، وكان قدم مدينة السلام ولقيه جماعة من شيوخنا منهم أبو العباس محمد بن عمار وأبو الحسن الأسدي وغيرهما فحدثني أبو العباس بن عمار قال كان ماني يألفني وكان مليح الإنشاد حلوه رقيق الشعر غزله فكان ينشدني الشيء ثم يخالط فيقطعه وكان يوماً جالساً إلى جنبي فأنشدني للعريان البصري:
ما أنصفْتك العُيونُ لم تَكِفِ
وقد رأيتَ الحبيبَ لم يَقفِ
فابكِ دياراً حلَّ الحبيبُ بها
فَبَاعَ منها الجفَاءَ باللَّطَفِ
ثم استعارتْ مسامعاً كَسد اللومُ
عليها من عاشِقٍ كَلِفِ
كأنها إذْ تقنَّعَتْ بِبِلى
شَمطاءُ ما تستقلُّ من خَرَفِ
يا عينُ إما أَريْتنِي سَكَناً
غضبانَ يَزوِي بوجهِ مُنْصرِفِ
فمثِّلِيه للقلبِ مُبتسماً
في شَخص راضٍ عليَّ مُنعطِفِ
إِن تَصفيه للقلب مُنقَبضاً
فأنتِ أَشقَى منه به فَصِفِي
يُقال بالصّبرِ قتلُ ذي كلَفٍ
كيف وصبري يموت من كَلَفي
إِذا دعا الشوقُ عَبرةً لِهوى
فأيّ جَفْنٍ يقول لا تَكِفِي
ومُسترادٍ لِلَّهْوِ تنفسح
الْمُقْلَةُ في حافتيه مؤتَلفِ
قَصَرْتُ أَيامَه على نَفَرٍ
لا مُنُنٍ بالنَّدى ولا أَسُفِ
بحيث إِن شئتَ أن ترى قمراً
يسعى عليهم بالكأسِ ذا نُطَفِ
قال فسألته أن يمليها علي ففعل ثم قال: اكتب، فعارضه أبو الحسن المصري يعني ماني نفسه فقال:
أقفرَ مَغْنى الديار بالنَّجَفِ
وحُلْت عما عهدتُ من لَطَفِ
طويتُ عنها الرضا مذمّمةً
لمّا انطوى غضُّ عيشِها الأُنُفِ
حَللتُ عن سَكرة الصَّبابة من
خوفِ إلهي بمعزِلٍ قُذُفِ
سَئِمتُ وِرْدَ الصِّبا فقد يَئستْ
مني بناتُ الخدور والخَزَفِ
سلوتُ عن نُهَّدٍ نُسِبْن إلى
حسنِ قَوامٍ واللحظ في وَطَفِ
يمددنَ حَبل الصِّبا لمن أَلِفَتْ
رجلاه قِدِّ المُحول والدَّنَفِ
ومُدنَفٍ عادَ في النحول من الوَجد
إلى مثلِ رقَّة الألف
يشاركُ الطيرَ في النحيب ولا
يَشركنه في النُّحول والْقَضَفِ
ومُسمِعاتٍ نَهكْنَ أعظُمَهُ
فهو من الضيم غيرُ منتَصِفِ
مفتخراتٍ بالجَوْر عُجْباً كما
يفخر أهلُ السّفاه بالجَنَفِ
وقهوةٍ من نِتاج قُطْرَبُّلٍ
تخطف عقل الفتى بلا عُنُفِ
ترجِعُ شَرخَ الشباب للخَرِفِ
الفاني وتدنى الفتى من الشغف
قال فبينا هو ينشد إذ نظر إلى إمام المسجد الذي كنا بإزائه قد صعد المئذنة ليؤذن فأمسك عن الإنشاد ونظر إليه وكان شيخاً ضعيف الجسم والصوت فأذن أذاناً ضعيفاً بصوت مرتعش فصعد إليه ماني مسرعاً حتى صار معه في رأس الصومعة ثم أخذ بلحيته فصفعه في صلعته صفعة ظننت أنه قد قلع رأسه وجاء لها صوت منكر شديد ثم قال له: إذا صعدت المنارة لتؤذن فعطعط ولا تمطمط، ثم نزل ومضى يعدو على وجهه.
ولقيت عنتاً من عتب الشيخ وشكواه إياي إلى أبي ومشايخ الجيران يقول لهم هذا ابن عمار يجيء بالمجانين فيكتب هذيانهم ويسلطهم على المشايخ فيصفعونهم في الصوامع إذا أذنوا حتى صرت إلى منزله فاعتذرت وحلفت أني إنما أكتب شيئاً من شعره وما عرفت ما عمله ولا أحيط به علماً.
منوسة الجارية تغني وهو يضيف
ونسخت من كتاب لابن البراء (والكلام لصاحب الأغاني)، حدثني أبي قال عزم محمد بن عبد الله بن طاهر على الصبوح وعنده الحسن بن محمد بن طالوت فقال له محمد: كنا نحتاج أن يكون معنا ثالث نأنس به ونلذ في مجاورته، فمن ترى أن يكون؟ فقال ابن طالوت لقد خطر ببالي رجل ليس علينا في منادمته ثقل قد خلا من إبرام المجالسين وبرئ من ثقل المؤانسين خفيف الوطأة إذا أدنيته سريع الوثبة إذا أمرته. قال: من هو؟ قال: ماني الموسوس. قال: ما أسأت الاختيار. ثم تقدم إلى صاحب الشرطة بطلبه وإحضاره فما كان بأسرع من أن قبض عليه صاحب الشرطة بربع الكرخ فوافى به باب محمد بن عبد الله فأدخل ونظف وأخذ من شعره وألبس ثياباً نظافاً وأدخل على محمد بن عبد الله فلما مثل بين يديه سلم فرد عليه، وقال له: أما حان لك أن تزورنا مع شوقنا إليك؟. فقال له ماني: أعز الله الأمير، الشوق شديد والود عتيد والحجاب صعب والبواب فظ ولو تسهل لنا الإذن لسهلت علينا الزيارة. فقال له محمد: لقد لطفت في الاستئذان. وأمره بالجلوس فجلس. وقد كان أطعم قبل أن يدخل، فأتى محمد بن عبد الله بجارية لإحدى بنات المهدي يقال لها منوسة وكان يحب السماع منها وكانت تكثر أن تكون عنده فكان أول ما غنته:
ولستُ بناسٍ إذ غدوا فتحمَّلوا
دُموعي على الخدَّينِ من شدّة الوجْدِ
وقولي وقد زالتْ بعيني حُمولُهمْ
بواكرُ تُحدَى لا يكنْ آخرَ العهدِ
فقال ماني: أيأذن لي الأمير؟ قال: في ماذا؟ قال: في استحسان ما أسمع، قال: نعم، قال: أحسنت والله فإن رأيت أن تزيدي مع هذا الشعر هذين البيتين:
وقمتُ أداري الدمع والقلب حائرٌ
بمقلةِ موقوف على الضر والجَهْدِ
ولم يعدني هذا الأمير بعدله
على ظالم قد لجَّ في الهجر والصد
فقال له محمد: ومن أي شيء استعديت يا ماني؟ فاستحيا وقال: لا من ظلم أيها الأمير، ولكن الطرب حرك شوقاً كان كامناً فظهر. ثم غنت:
حجبوها عن الرياح لأني
قلت يا ريح بلغيها السلاما
لو رضوا بالحجاب هان ولكن
منعوها يوم الرياح الكلاما
قال: فطرب محمد ودعا برطل فشربه، فقال ماني: ما كان على قائل هذين البيتين لو أضاف إليهما هذين البيتين:
فتنفست ثم قلت لطيفي
ويك إن زرت طيفها إلماما
حيها بالسلام سرا وإلا
منعوها لشقوتي أن تناما
فقال محمد: أحسنت يا ماني، ثم غنت:
يا خليلي ساعة لا تريما
وعلى ذي صبابة فأقيما
ما مررنا بقصر زينب إلا
فضح الدمع سرك المكتوما
قال ماني: لولا رهبة الأمير لأضفت إلى هذين البيتين بيتين لا يردان على سمع سامع ذي لب فيصدران إلا عن استحسان لهما. فقال محمد: الرغبة في حسن ما تأتي به حائلة عن كل رهبة فهات ما عندك. فقال:
ظبية كالهلال لو تلحظ الصخر
بطرف لغادرته هشيما
وإذا ما تبسمت خلت ما يبدو
من الثغر لؤلؤاً منظوما
فقال محمد: إن أحسن الشعر ما دام الإنسان يشرب ما كان مكسواً لحناً حسناً تغني به منوسة وأشباهها فإن كسيت شعرك من الألحان مثل ما غنت قبله طاب. فقال ذلك إليها فقال له ابن طالوت: يا أبا الحسين كيف هي عندك في حسنها وجمالها وغنائها وأدبها؟ قال: هي غاية ينتهي إليها الوصف ثم يقف، قال: قل في ذلك شعراً، فقال:
وكيف صبر النفس عن غادة
تظلمها إن قلت طاووسه
وجرت إن شبهتها بانة
في جنة الفردوس مغروسه
وغير عدل إن عدلنا بها
لؤلؤة في البحر منفوسهْ
جلَّتْ عن الوصف فما فكرة
تلحقها بالنعت محسوسهْ
فقال له ابن طالوت: وجب شكرك يا ماني فساعدك دهرك وعطف عليك إلفك ونلت سرورك وفارقت محذورك والله يديم لنا ولك بقاء من ببقائه اجتمع شملنا وطاب يومنا. فقال ماني:
مدمن التخفيف موصول
ومطيل اللبث مملول
فأنا أستودعكم الله.. ثم قام فانصرف، فأمر له محمد بن عبد الله بصلة، ثم كان كثيراً ما يبعث يطلبه فيبره ويصله ويقيم عنده.
وفي معجم الشعراء نجد المرزباني يقول عنه:
ماني الموسوس اسمه محمد بن القاسم يكنى أبا الحسن من أهل مصر نزل بغداد. وله مقطعات تستملح وهو متوكلي. يقول:
ومترف عقد النعيم لسانه
فكلامه وحي وإيماء
وكأنما نهكت قوى أجفانه
بالراح أو شيبت بإغفاء
لو صافح الماء القراح بكفه
لجرت أنامله كجري الماء
يرنو إلى نعم بنية مسعف
ولسانه رنق على لألاء
وله:
دعا طرفه طرفي فأقبل مسرعاً
وأثر في خديه فاقتص من قلبي
شكوت إليه ما لقيت من الهوى
فقال على رسل فمت فما ذنبي
وأما الوسوسة فكانت معروفة في عصره يتخذها البعض تظرفاً واستظرافاً وهي ليست وسوسة حقيقية بل طريقة يتبعها الموسوس ليقول ما يريد، على أن ماني الموسوس تميز عن غيره من الموسوسين بحساسية مرهفة وشعور عميق بالجمال وكان شعره في الغزل، وله مديح قليل منه مخاطباً إبراهيم بن المدبر في الأهواز وقد صرف عنها:
ليت شعري أي قوم أجدبوا
فأُغيثوا بك من طول العجف
نظر الرحمن بالصنع لهم
وحُرمناك لذنب قد سلف
يا أبا إسحاق سر مستودعاً
وامض محموداً فما منك خلفْ
إنما أنت ربيع صيب
حيث ما صرفه الله انصرف
ومن أجمل أبياته في شدة النحول قوله:
ها أنا ذا يسقطني للبلى
عن فرشتي أنفاس عوادي
لو يحسد السلك على دقة
حقاً لأمسى بعض حسادي
قال المبرد محمد بن يزيد النحوي: خرجنا من بغداد نريد واسطا، فملنا إلى دير هزقل ننظر إلى المجانين، فإذا المجانين كلهم قد رأونا، ونظرنا إلى فتى منهم قد غسل ثوبه ونظفه وجلس ناحية عنهم؛ فقلنا: إن كان فهذا فوقفنا به، فسلمنا عليه فلم يرد السلام؛ فقلنا له: ما تجد؟ فقال:
الله يعلم أنني كمد
لا أستطيع أبث ما أجد
نفسان لي نفس تضمنها
بلد وأخرى حازها بلد
وأرى المقيمة ليس ينفعها
صبر وليس بفوقها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي
فكأنها تجد الذي أجد
فقلت له: أحسنت والله! فأومأ إلى شيء ليرمينا به، وقال: أمثلي يقال له أحسنت! قال: فولينا عنه هاربين، فقال: أسألكم بالله ألا ما رجعتم حتى أنشدكم فإن أحسنت قلتم لي أحسنت، وإن أسأت قلتم لي أسأت. قال: فرجعنا ووقفنا، وقلنا له: قل. فأنشأ يقول:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم
ورحّلوها وسارت بالدمى الإبل
وقلبت من خلال السجف ناظرها
ترنو إلي ودمع العين منهمل
وودعت ببنان عقده عنم
ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين! ماذا حل بي وبها
من نازل البين؟ حل البين وارتحلوا
يا راحل العيس عرج كي أودعهم
يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنقض مودتهم
يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا
قال: فقلنا له: ماتوا! فصاح وقال: وأنا والله أموت: وتربع وتمدد فمات، فما برحنا حتى دفناه.
كما أورد له من الأبيات ما يلي:
له وجنات في بياض وحمرة
فحافاتها بيض وأوساطها حمر
رقاق يحول الماء فيها كأنها
زجاج أريقت في جوانبها الخمر
ومن ابتكاراته الخاصة ما أورده له أبو هلال العسكري في ديوان المعاني وهو قوله:
بكت عيني غداة البين دمعا
وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بخلت علينا
بأن أغمضتها يوم التقينا
هذا وما زال ديوان ماني الموسوس شاهداً على عاطفة صادقة وأحاسيس مرهفة ورقة وعذوبة تستحق الوقوف عندها وتأملها ودراستها.
إضافة تعليق جديد