لا أخفي أني لم أكن أتوقع أن تكون الأمور بهذا المستوى من التشويش والبلبلة وأن تصل لحدود التشويه المتعمد,ولا أخفي أني كنت حتى الأمس القريب أبدي تعاطفا مع بعض الطروحات , وإن كانت تطرح بطريقة متعجلة وغير موفقة , و كنت أركز وأراهن على أخذ هذه الطروحات إلى الجانب الموضوعي العقلاني بما يجمع الناس حولها ويجعلهم يتبنونها , خصوصا بما يتعلق منها بالحريات العامة , معتقدا أن القضية أكبر من تفصيل هنا وإخفاق هناك وهي قضية وطنية جامعة ومحقة تستحق أن يبذل المرء من أجلها كل الجهد والتأني.
ومن جهة أخرى ,أعلم أن الكثير ممن يتبنون فكرا تقليديا"كما رأيته" , يخشون من خوض نقاشات مفتوحة , ويأمنون لمعتقدات يرونها تؤمن استقرارا لهم, لهذا كان احترام فكر ومعتقد الآخر الذي لا يصادر حق غيره في هذا أول الشروط الموضوعية التي وضعتها للحوار,وإن الإختلاف في الحوار الموضوعي ليس مشكلة بل هو السبيل الوحيد لإنتاج المعرفة.
في سبيل ذلك الرهان تم التغاضي في أحيان كثيرة عن غياب الإتساق والموضوعيةوعن الإنزلاق المتكررفي الخطاب .
إلا أن الإصرار على الخطاب الطائفي المتمادي ,وتكرار الأخطاء نفسها والإنقلاب بدون مبرر على أسلوب الحوار المنهجي الذي قضينا وقتا طويلا في وضع أرضية له سابقا ,جعل من يتبنى هذا الطرح يسيء لنفسه أولا ويسيء لهذه القضايا المحقةنفسها وتشويهها وجعلها تدور في فراغ طائفي مجردة من أية قيمة نضالية أو مجتمعية أو غائية.
قلت :هناك مقولات وطروحات كافحت البشرية طويلا لكي تتخلص منها , وحاولت كل العقائد والأديان والفلسفات أن تنقّي خطابها منها , لأن أي منها إن وجد في ثنايا فكر وعقيدة , فهذا كاف لإسقاطه من خانة الفكر والفلسفة , وإلقائه في خانة الغريزة العصبوية.
فأشياء مثل: الخطاب الجمعي, نبذ المختلف وإسقاطه, التكفير والتخوين, كلية الخطأ وكلية الصواب, تجميع الناس . هي اشياء نفهم أن تحاول أي سلطة سياسية إقتصادية مسيطرة ان تتبناها وتنفذها عمليا , لكن كيف تفهم من يتبنى هذا علنا ويبشر به وينسبه لدين أو لطائفة أو لعقيدة وينتقد السلطة في نفس الوقت لتبنيها ذلك
,فما معنى هذا الكلام ومن سيصدقه ؟!
وإن أقصى ما ينتجه هذا الفكر هو تبشيره بتقسيم المجتمع لبنى كيانية مختلفة طائفيا ,يحكمها قانون الضرورة (السلطة) الضامنة لتعايشها السلمي , فإن اهتزت هذه كانت الحروب الأهلية.
ولكن هل هناك أمل؟
لا بد من ذلك , لا بد من فتح كوى للتواصل والإتفاق , بعيدا عن كل شيء , حين ترى إنسانا مصابا على طريق نتيجة حادث خارجي أو لأسباب ذاتية , فأول ما يفكر المرء به هو أن يمد يده للمساعدة والعون , لا ان يدخل معه في جدال حول الأسباب , وأول ما يفكر به المرء هو تخليصه من مصابه قبل أن يلومه ويحملّه المسؤولية.
وهذا ليس بلا أفق ,فلدى الجميع هواجس , وهموم وآلام ,ظلم وإحباط وغربة ..وبشكل متفاوت .
إن محاولة تفهم هذا ,هو أمر مهم وشرط ضروري للتواصل و وإن ممارسة النبذ والإقصاء لا يودي لمكان , وإن من يبشّر بهذا يحكم على نفسه بالإنغلاق والنبذ أولا .
يجب أن يفهم النقد العلمي الموضوعي بأنه السبيل الوحيد لإنتاج المعرفة ,وليس محاولة أخرى للنبذ , فهذا عكس منهجه ومنطقه, وبغيابه لا يمكن عمليا إنتاج شيء له قيمة أو اهتمام.
هل هذه طوباوية مدعاة ومثالية فارغة ؟
لا , بكل تأكيد وسنرى أن لهذا شرطا موضوعيا لكي لا يكون هكذا.
إن اليرقة المأسورة داخل شرنقتها تشعر بالدفء والأمان ولهذا تظن أن هذا هو المكان المثالي للعيش باستمرار, ولكن حين تعجز لأسباب ذاتية أو خارجية عن تحطيم شرنقتها والخروج للعالم الرحب فإن هذه الشرنقة تكون قبرها , وقد يأتي أحد ما لفتح كوة صغيرة في جدار الشرنقة لمساعدة هذه اليرقات المأسورة لكي تفعل ذلك بعد أن يطول مكوثها .ولكن هذا بالتأكيد لا ينفع , إن كانت هذه عاجزة عن الطيران لأسباب ذاتية ,ولو حطمت لها الجدار كله.
هي دعوة لمن يتبنى هذه المقولات وهذا الفكر أن يقوم بالمراجعة , في عصر تحطيم الأسوار هذا والتواصل وتبادل المعرفة الهائل الذي يجري بسرعات قياسية وغير مسبوقة , وليس لأحد الوقت والهم لانتظار أحد ,يجب أن يكون لديك الكثير من العلمية والكثير من الموضوعية والكثير من البراهين لكي تلفت الإهتمام إلى قضيتك .
فما هو الشيء الذي ستتبادله مع الآخر, شريكك في الوطن ..وكيف تقنعه بقضاياك المطلبية , وما هو الشيء الذي ستتبادلانه مع المتفوق العلمي الآخر المتقدم عليكما ..خرافاتكما وأوهامكما , من سيقبض هذا ومن سيهتم بكما ؟
إن هواجسك وهمومك وغربتك , هي نفسها تستدعي منك أن تكون موضوعيا وعقلانيا ومتفهما للآخر, وستكتشف في العمق وبعيدا عن هذه الأوهام أنها هي ذاتها لكليكما .
وإذا كنت غير قادر على تقاسم المواطنة والتفكير بشكل موضوعي مع الآخر , وإذا كان خطابكما هو الإقصاء وعدم تفهم القلق والهواجس والآلام , فكيف لك أن تطلب من السلطات المدججة بكل أنواع التفوذ وأساليب السيطرة الإقتصادية والمادية والمعنوية أن تقاسمك وتتفهم هواجسك, ألست تعطيها المسوّغ والمبرر لكي تحتكر هذا وتقصيكما معا.
يجب التفريق بين من يقع في شباك هذا الفكر وبين الفكر ذاته ,يجب النظر إليه على أنه واقع في شرك من الوهم ويجب التعاون معه للإفلات منه لا نبذه وإهماله , وذلك بعكس الفكرنفسه, الذي تجب مقاومته وكشفه وبيان تناقضه وأوهامه ..
وبالتأكيد هذا يستدعي أولا ممن لا زال يعتنق هذه المقولات أن يقوم بالمراجعة والنقد ,أو لا.. فإن كنا لا نقدر أن نمنع أحدا من الإساءة لنفسه , فبالتأكيد سنقاوم ونكشف الفكر الذي يسيء لمجتمعه ويشوّه صراعه وقضاياه, ونحول دون أن يحوّل المجتمع كله لشرانق وقبور أبدية ,و هذا لا يسيء لنفسه فقط , بل يسيء لهذه القضايا , ويسيء لكرامة الإنسان وفكره وقيمته ومعنى نضاله.
هي أشياء قد تكون للمستقبل , الذي نحاول أن نكون ونكوّن جزءا منه ومن خارطته .
إن ما نحاوله هو فتح كوة صغيرة في الجدار , لكي يصبح من الممكن رؤية الضوء وتنسم الحرية .
لهذا كانت هذه المشاركات , ولهذا ستكون مستقبلا ..
إضافة تعليق جديد