طبيعة عملي كمهندس أبحاث وتطوير في إحدى المؤسسات الصناعية في أوروبا تتيح لي اللقاء والنقاش مع رجالات الصناعة في مختلف بلدان العالم . في أحد أيام تشرين الثاني/نوفمبر لعام 2005م ، كنت على موعد للاجتماع بفريق خبراء إحدى الشركات الألمانية ، وكان يترأس هذا الفريق المدير الفني للشركة ، والذي تربطني به معرفة سنوات خلت . بعد الترحيب به ، وبالفريق المرافق له ، أخذ الحديث مجراه ، تطرقنا إلى الظروف الاقتصادية ، التي تحيط بمهنتنا ، وإلى الشؤون الفنية في تطور مهنتنا ، وإلى الإمكانات والأسباب الواجب الأخذ بها ، لتحسين الأوضاع والظروف الاقتصادية .. أثناء هذه الأحاديث والمناقشات ، فاجأني المدير الفني ، بأن زيارته هذه ، سوف تكون الأخيرة لشركتنا ، لأنه قد بلغ سن الخامسة والستين ، وأنه بعد شهر من الآن ، سيصبح في عداد المتقاعدين . من ناحية هو فخور ، بما استطاع أن ينجزه لشركته ، التي تقوم بصناعة أفخر أنواع الجوخ ، وبصناعة الأقمشة ، التي تستخدم في تنجيد مقاعد أفخر أنواع السيارات ، مثل المرسيدس و البي ام دبليو ، ومن ناحية أخرى ، بأنه يتمتع بحالة صحية جيدة ، يرجو أن تمكنه ، بأن يستمتع بسن التقاعد .. هنا حاولت أن أعود بذاكرته إلى بدايات عهده بمهنة النسيج .. فقد روى ، أنه انتسب إلى الشركة في الرابعة عشر من عمره في عام 1954م ، وقد أمضى - كما هو واضح - واحداً وخمسين عاماً في العمل في هذه المهنة . عندها سألته عن رقم استطاعة ماكينة النسيج ، وعن عدد الماكينات ، التي كان يرعاها كل نساج آنذاك . أجاب بأن استطاعة ماكينة النسيج كانت 80 حدفة بالدقيقة ، وأن كل نسّاج ، كان يستطيع ، أن يقوم على رعاية وخدمة ماكينتين .
أما اليوم أصبحت استطاعة ماكينة النسيج تبلغ في نفس المجال 800 حدفة بالدقيقة ، وكل نسّاج يستطيع أن يقوم على رعاية عشرين ماكينة .
بفعل التقدم التكنولوجي الحثيث ازدادت سرعة ماكينة الإنتاج خلال خمسين عام تقريباً إلى عشرة أضعاف ، وبفعل تطور تلقائية العمل والمراقبة للماكينات ( أوتوماتيك والرقابة الذاتية ) ازداد عدد الماكينات ، التي تقع في حيّز فعالية عامل النسيج إلى عشرة أضعاف أيضاً .. فتكون محصلة ذلك أن نسّاج اليوم ينتج مائة ضعف ، ما أنتجه النساج قبل خمسين عاماً ، فإذا انطلقنا بالتفكير ، بأن حاجة الإنسان في الملبس قبل خمسين عام هي نفس حاجته اليوم إلى الملبس ، فلن تبقى في مهنة النسيج سوى فرصة عمل واحدة من كل مائة فرصة عمل آنذاك .
إن هذا الرقم ، ليس من نسج الخيال ، وسوف لن يتوقف عند هذا الحد ، بل هو من صميم الواقع ، وينطبق إلى حدّ كبير على مختلف شؤون الصناعة والخدمات في عالمنا اليوم ، ويضعنا كصناعيين وسياسيين ومفكرين اجتماعيين أمام تحدٍّ واضح وهو :
كيف يمكننا إبداع فرص عمل جديدة ؟ لنمكّن كل إنسان ، من أن يكتسب لقمة عيشه عن طريق عرق جبينه ، وإلا فعالمنا مقبل على أوضاع لا تسعد الإنسان ، وعلى حروب بشتى الأشكال من أجل لقمة العيش .
إن ما تشهده فرنسا اليوم من انتفاضة بعض الشباب - سواء كان ذلك بحق أو بغير حق - يمكن أن يفسّر بأنه مطالع لمثل هذه الحروب ، إذا لم نستطع ، أن نتدارك الأمر ، ونطور الظروف المعاشيّة والاجتماعية ، ونسعد كل إنسان بفرصة عمل ، يكتسب عن طريقها لقمة عيشه بكرامة وسلام .