ما الذي يجمره العيد في جراح الغريب غير وخز العوز وحقائب الذكريات ؟ وعليك أن تمضي كمدا محطم الخطى نحو فرحة بلاستيكية تستعار من أقنعة المارة ومن رمادهم المر تغلف بها وجهك كي لا تخدش مسيرة أطفالك يفتشون عن مرجان فرسك الكسير.ويمضي العيد بنتحه وملحه ما بين إدمانك مهنة التذكر وما بين وقاحة الهاتف الخلوي،ويلوح من ارتجاج العناصر ثلة من الأصدقاء آمنوا بأوطانهم وازدادوا حنينا عارضين عليك مشاركتهم زيارة أصدقائهم في مخيم البقعة.فكرة تملك طاقة إزهاق روح الصمت وتحفز ذر الجمر في عيون الغربة الوقحة.
والبقعة وما أدراك ما البقعة؟بقعة الأرض التي أجرتها وكالة الغوث وأكلت أرضة الوقت نصّها لتبقى اسمك أيها المنفى يهدد بهجرة وشعاب أخر،أم ثاني أكبر سوق في المملكة يتزاحم فيه الرزق كما تفاخر أحدهم مفتتحا بوتيكه الجديد ؟البقعة بيت صديقي جمال شتيوي الذي استوطن الذاكرة ذات حموضة وغاب في حلكة الرحيل ولم يعد صدى لخطاه سوى رنين الحزن في جدول قلبي،البقعة دفيئة الأساطير ومرجل الشهداء متمسكين بعروة الأرض قابضين على زناد الدم،أم مخيم القحط وحلكة الأزقة؟أم عذابات رياضيين يحصدون الذهب وتنصبهم المدينة باعة على البسطات يلاكمون طواحين الهم والحنطة؟لا! مخيم عدنان الأسمر الذي أغمدوا جفنيه فاستل المعرفة ونِبل الذكريات ليفضح بالكشف وثنية المدينة .
وها أنت بعد أن عددت دوائر العجلات ما تعالي من بناء،وما تأثث بالنكران من طبقات تزيف حلكة الوردة وتحترف الفرار، تعرج هابطا نحو مخيم البقعة المصطف بمارش العودة كجنود الحلم والحكمة،والممتد بفوضاه الخلاقة كمارد النصر والثورة،للأشياء هنا نكهة الخبز والنشيد .ورغم سنوات الشتات المغرقة بالخوف والنزف لا زلت تلمح تراب بيت نتيف والسنديانة ودير نخاس يحني أقدامهم في رحلة الجذر والعودة،سمرة تلة صافي وشيطنة بحر الطنطورة تتراكض في كل زقاق.جيفارا ينتصب كنسر خارج للتو من أعلى جرمق في بولييفيا يحدث بحكايات الحب والتغيير،ومرسيل خليفة ينبعث من ركن قسي في زقاق منسي، يعمد الطرقات بنجم يوسف وحكايات أيمن ومنتصب القامة يمشي رغم أنف محطات" الواوا"،أم تحمل سلتها،ما الذي يا أماه تحملين ؟سلة من كروم الخليل ؟ام سلطان إبراهيمي يحمل ملوحة بحر اللد؟أم بعضا من تين الرملة طافح بالخير والشهوة.إلى أين أماه تذهبين؟أإلى ساحة الحناطير في حيفا أم الى باب الزاوية؟
ومن أين ثوبك القزحي؟ومن طرز في كم يديك كل دروب عودتنا ؟ومن حنى قبة الصدر ب(حناء النخيل)؟
نحن الآن في مواجهة زقاق يشبه ما سواه،وبيوت صفيح يقاسمه الطوب قليلا من رغيف النرفزة تتشابه حد التوأمة ،ولكن بيت أبو ذياب وأقسم ليس ككل البيوت،لن تتجاوز غرفه أصابع اليد الواحدة،ولن يعربد فيه الرخام المخملي،ولن تتثاءب فيه المشربيات والتحف والرياش،ولا يتخذ شكل الخزنة أو هندسة الهرم،لا فسيفساء،لا عواميد ،لا درب حوريات ولا أقواس هزيمة،بيت يستحضر تفاصيل الأرض المفقودة ويصر على شنق الاغتراب بمقصلة الذاكرة.
أين أنت عائد نبعة ؟لماذا غبت وتركت عيني تواجه المشهد وحدها؟لو كنت هنا لاحتضنت كاميراك زيتونة قلبي ولصفقنا معا لعلياء النشيد،ولكنك آثرت أن تحج الى عري آخر.
أينك الآن يا "شيرا"؟ أيتها القادمة من حرش الصقيع ،من وعورة كندا الثلجية تفتشين في مآقي الأطفال عن جواب لسؤالك المستحيل"كيف يستطيع الجيل الثاني أو الثالث من اللاجئين التواصل مع أرض لم يرها ولم تأتلف فيها أحزانه وأمانيه وذكرياته؟"إطلالة واحدة على بيت أبو ذياب، الشيخ الذي لم تغادره بيت نخاس ،فجبهته ما زالت مبتلة بندى الكروم،وقدماه يا لقدميه وان خانتاه في دروب الغربة المعبدة الا أنها تحمله للأرض والشجر،مشهد شجري واحد يعيد للشيخ صباه وكأن الشجر يقول له "يا شيخ قم" فيحمل سريره ويمشي، يقلم الشجر ويسقي عطش الأرض.
أنها زيتونته لا ريب!زيتونتة الغربية _رغم عبث وعجمة وتغريب الايدولوجيا المسيطرة _،تخرج من جيب الجدار خضراء خضراء ،سبحانها تنزهت من كل سوء!معجزة الفلسطيني الذي اعتاد المعجزات كما يعتادون قهوة الصبح أو شاي الرابعة،فقد اعتصم بجرمقه وخرج من نص السفينة،وقطع البحر عوما رغم مسلك اليباس،وقاوم ريحا غدوها نكبة ورواحها نكبتين،ونبذ هدهد الخيانة ونتف ريش الهزيمة،ولم يلق سيفه رغم عليقة الطور وما زالت خمرته تتوالد في الآنية نحو أعراس جديدة في قانا الجليل.
إنها زيتونة أبو ذياب الذي حين كان عليه أن يختار ما بين فسحة أخرى في بيت اللجوء أو أن يكوم زيتونته جثة للنار أو لمنشار التحف ،اختار بقاءها مهددا بنيه البررة أن من يقطعها سأقطع أي صلة به وسأغمد في قلبه سيف النسيان،وأطلقها من كوة الجدار لتمتد ظلا من نور دير نخاس تحضن الدرب ويتجذر جذعها عميقا في غرفة الضيوف تعدهم "سنخرج جميعا من عتمة الجدار"،وتنشد مع قهوة الترحاب سيمفونية غسان الملحة"دقوا جدران الخزان"،إنها الحرب فاشتدوا زيم،بزيتونة أخرى سنثقب جدار الفصل وجدار المخيم وجدار الذات.
أين أنتم يا حراس الأخضر؟أيها الخضر مرابطي ثغور البيئة وقلاع زرقة البحر،إنهم هناك رسل للمحل والتحريم، يقتلعون الشجر ويغتصبون بكارة التراب،والمقيمون هنا على قلق اللجوء يثقبون الاسمنت بالزيتون وأجران الذاكرة،ويربتون على أضلاع الزيتونة بالنور والقبلات يقاسمونها الرغيف والقهوة وشهقة الحزن.
جدار النفي الذي أفرغتم عليه القطر ستون عاما تذوبه زيتونة واحدة،فالويل لجدار الفصل من زيتون يعد العدة أن يصل مغرب الشمس ونكهة البحر بأياديه الخضراء وعتمة حنائه .
شكرا لكم أصدقائي المشتبكين بوعورة النشيد،وشكرا لعيد مؤجل يحملني لزيتونة تقرأ تضاريسي وتشد خيولي نحو مطلع الأساطير ونحو انكسار الساهرة وكل زيتونة وأنتم بخير.
جمال شتيوي:كاتب وصحفي أردني
عدنان الأسمر:مناضل ومربي فلسطيني ذهب ببريق عينيه السجن
شيرا:صحفية كندية
حناء النخيل :قصيدة للشاعر الأردني رياض حتاوي في وداع الشهيد رامز طهبوب
عائد نبعة:مخرج سينمائي فلسطيني
أبو ذياب:عبد المجيد شطرات شيخ من بلدة دير نخاس من أعمال الخليل حملته سفينة اللجوء إلى مخيم البقعة في الأردن