إلى السمارة قريتى الصغيرة .. وزمن قد ولىّ
أحـمـد ....
(1)
وحيدا تقبع بين جدران غرفتك .. تلتهم العين المتعبة كل مافيها ... المكتب .. الأوراق ... الأقلام .. اللوحات المهملة فوق الحيطان ... المكتبة .. الأزهار الإسفنجية .... منفضة السجائر .. شرائط الكاسيت .. والغبار ... ورائحة الخمول ... تسأل النفس فى حيرة .. لماذا فقد كل شىء معناه ؟ تخلع نظارتك للحظات تمسح خلالها عينيك المتورمتين علك ترى الأشياء كما كانت ... لكنك تنسى أن كل شىء لم يعد كما كان ... فلن تشعر بطعم موسيقى مونامور . التى تذوب فيها عشقا . وهى تتسرب أسفل الجلد مدغدغة كل حواسك منسابة فى ملائكية . محلقة بك بين السحب لترقب من فوقها ليل قريتك الهادىء .. ولن تجلس أنت وأطفال العائلة حول المدفأة فى ليالى الشتاء مستمرئا دفئها الذى يجعل الخدر يسرى فى جسدك بنعومة لتحكى لك جدتك حدوتة الشاطر غريب وهو يقطع آلاف الأميال فوق جواده الأبيض حاملا سيفه اللامع باحثا عن ست الحسن والجمال وعن زمن آخر أكثر أمان .. ولن تستطيع الهروب من المنزل خلسة متجها إلى الترعة لتجد أسماء فى انتظارك هناك عند الصفصافة لتسبحا معا وتتعلقا كعصفورين صغيرين بأغصان شجرة الصفصاف..
الليل أسود .. الشوارع تمتلأ بالغرباء ... الليلة كل سنة وأنت طيب مولد الطاهرة الشيخة سلمى ... تحدق النظر فى خيوط العنكبوت التى احتلت أركان غرفتك ... يتراءى لك القطار العملاق آتيا من بعيد ... أسود كالشبح ... يخترق سحب ضبابية كثيفة ... وقطعة بشرية عارية .. لايد لها أو قدم ... كلها رأس كبير.. لها عين وفم وأنف وأذن .. تقف أمام القطار ... لاتأبه بصفيره أو بالموت الزاحف أسفل عجلاته ... يمر من فوقها ... يخلفها ألف قطعة أخرى حية .. تنزف دماء غزيرة .. تتألم .. وتقف كلها أمام ألف قطار قادم عملاق يخترق سحب ضبابية ... والقطع الحية لايد لها أو قدم .. كلها رأس .. لها عين وفم وأذن ... تحدق فى تلك القطعة .. تفتش بين رفوف الذاكرة المغبرة محاولا البحث بين جنباتها عن ذلك المكان الذى التقيت فيه بذلك الوجه المرسوم لتلك القطعة البشرية ... لكنك تتوه بين جحافل الزمن وتضيع كالثوانى بين السنين
والمحقق صرخ فى وجهك فى تشف :
ـ لافائدة من الإنكار فقد ألقينا القبض على كل مجموعتك
..........
تحاول القبض على اللحظات الراهنة حتى لاينفلت منك العقل غارقا فى ربوع الماضى .. لكنك أبدا لاتستطيع ... تحاول إبعاد أشباح قادمة من بعيد وصور متداخلة . مدققا السمع فى أصوات الميكرفونات الآتية إليك من المولد ..
ياشيخة سلمى مدد
ياسيدى على مدد
يارئيسة الديوان نظرة
وفى الصمت لازلت غارقا .. لكن تفكيرك أبدا كان هناك .. فى أعماق الماضي البعيد
..........
ـ اقرأ لى قصتك الأخيرة
ـ هبينى قبلة الحياة
ـ يالك من طفل غرير
ـ إنها بعنوان " دموع رجل "
ـ دموع مرة أخرى يالى من تعسه
ـ " شعر بوحشة تنتابه وهو يدور بين أركان المنزل حائرا .كل شىء يذكره بها .. صورها ... ملابسها ... عطرها ... من صورتها الموضوعة فوق خوان جانبى اقترب .. بين يديه احتضنها .. من صدره قربها .. ضمها إليه .. تساقطت دموعه فوق إطارها الفضى .. اختلطت دموعه بوجهها .. وبكت هى الأخرى معه . "
وبعد أن انتهيت من قراءة قصتك شعرت ببريق العين السوداء ينطفىء ... وعندما سألتها عن السبب أجابتك :
ـ لازلت رغم وجودك بين أحضاني تشعر بالغربة
........ وكنتما تلعبان عريس وعروسة . وزفكما الأطفال . وعلى شاطىء الترعة أسفل شجرة الصفصاف خلعتما ملابسكما . ووسط المياه سبحتما معا .. وقالت لك :
ـ أريد الغوص للأعماق فربما عثرنا على منزلنا الكبير
وحاولتما ... وخرجتما مرة أخرى ... انطرح الجسدان الصغيران على الطريق ... هى تبكى وتتقيأ ماشربته من مياه ... وأنت تزيل ماتعلق على رأسها من طين . وطمأنتها إلى أنكما ستصلان لمنزلكما الكبير الذى تحلمان به .. فقط يأتي الحفار ويزيل الطين الموجود فى أعماق الترعة فى العام القادم
لازلت غارقا فى صمتك ..
تستمع إلى همسات الجيران
ـ ابنك محسود
ـ مفيش غير الشيخة كريمة تعمل له حجابا
تتمنى أن يشفيك حجابها من الألم القابع فى الأعماق .. تتأوه من شدة الوجع صارخا دون أن يسمعك أحد
"رباه لماذا يتحطم فينا كل شىء جميل ؟ "
ـ قصصك ثورية وفى هذا دليل ادانة ضدك
وقبل أن تستقل السيارة مودعا أرض السمارة جاءتك رسالة أسماء
كانت سطورها مرتعشة . ولهيب الأنفاس المحترقة ينبع منها
" أحمد .. سأنتظرك حتى آخر العمر "
..........
وفى نويبع كان طابور الهاربين من الوطن طويلا.. أطول مما كنت تتخيل .. ولم يكن معك سوى حقيبة لم تكن ملكا لك .. بها قلم يتيم وحفنة أوراق قمت بتهريبها من عيون أبيك .. والكثير من أحزان الشاطر غريب .. وقطار أسود عملاق يمزق رأس بشرية حية .. لامعالم لها سوى أنها رأس كبير .. تقف أمامه وتتمزق لألف ألف قطعة .. وتعود للوقوف من جديد فى وجه ألف قطار آخر .. ولاتعرف لمن هذه الملامح الموجودة فى ذلك الوجه الموضوع فى ذلك الرأس .. مع أنك كنت مستعدا ـ ولازلت ـ لأن تدفع نصف عمرك لتعرف ..
..........
ومعك فى رحلتك كنت تحمل هزيمة خفية ..
..........
وصرخ المحقق فى وجهك محتدا وجسدك معلق فى سقف الزنزانة :
ـ لماذا لاتتأوه أسفل السياط أيها الوغد ؟
(2)
تجفف العرق المنحدر فوق وجهك ... ترتدى النظارة ... وبعد سنوات من الانتظار تنهض من خلف المكتب .. تتقدم خطوات ناحية الباب .... تفتحه ... تقتحم الغرفة أصوات الميكرفونات القادمة من المولد وصفعات هواء رطبة كنت تعشقها فى ليالى الأجازات الصيفية بعد شهور الدراسة فى المنصورة .. يطل الليل الأسود عليك ... تحدق فى نجوم القرية كأنك تراها لأول مرة ... ترقبها مذهولا وأنت ترى القطار القادم من بعيد يمزق القطعة الحية لألف ألف قطعة .. ولاتعرف لمن هذه الملامح سوى أن لها فم وأنف ... وكانت أنف أسماء تنزف دماء غزيرة بعد أن فقدت توازنها وسقطت وهى تلعب فوق شجرة الصفصاف على الأرض .. ودونما تفكير خلعت جلبابك وأخذت تجفف دماءها .. وفى نهاية اليوم كان نصيبك علقة ساخنة لأنك لم تعترف لأمك بمصدر هذه الدماء التى لطخت ثوبك ..
تغلق الباب خلفك ... تخطو ناحية الشارع .... فى حذر تشق سواد الليل ... الشارع مظلم .. أضواء الأعمدة خافتة .. المدرسة الابتدائية على اليسار منك .. مغلقة هى منذ سنوات .. أصبحت آيلة للسـقوط .. تحدق النظر فى الفناء والفصول .. يتراءى لك طفل الأمس وهو يعبث بين جنباتها ....
هنا كنت تلهو مع أترابك
وهنا كنت تلعب الحجلة
وهناك كنت تختفى مع أسماء بعيدا عن عيون الأطفال لتعطيها نصيبك من الطعام ... وهنا ضربكما معلم الحساب لأنه ضبطكما تجلسان ملتصقين ... وفى هذا المكتب المغلق طرقعت عصا حضرة الناظر فوق جسدك . لأنك لم تسمع الكلام وتعرض عن كتابة هذه الخزعبلات التى تزعم انها قصص
وهنا ..
وهنا ..
وأصبحت مدرستك آيلة للسقوط ..
.........
وسقط الحزن دفينا فى الأعماق خشية رؤية زبانية السجن له فيهرولون للأسياد ليبشروهم بالنبأ العظيم .. لكن الحزن استفحل مثل السرطان حتى نهش كل جسدك عندما تحركت " العبارة " من نويبع .. لحظتها قفز قلبك إلى حلقك مضطربا .. فأخرجت أوراقك وتقيأت آلامك فوق السطور ..
" أشعر بأن قطعة من جسدى تنفصل عنى يا أسماء .. "..
والشاطر غريب شعر بوحدة وألم فخرج من كتاب الحواديت مضحيا بعرشه وقصره وودع حاشيته ورعيته .. وامتطى جواده الأبيض وبدأ رحلته .
(3)
ـ أحمد أفندى ؟ .. معقولة .. ازيك يابنى
تطرقع السلامات . وتتطاير كلمات الأشواق والتحية
ـ كنا نتابع أخبارك الصحفية وقصصك فى اهتمام
تستأذنه محاولا الهروب من الهوة التى يدفعك إليها دون قصد ..
ودون قصد قررت اقتحام الدرجة الأولى فى " العبارة "
كانت الشمس حامية تشوى أجسادكم فى الدرجة الثالثة
ولايوجد سوى سماء زرقاء ومياه أشد زرقة
وجوع ينهش البطون
ووجوه مصفرة
ممصوصة
وقلق يكسى الوجوه المتعبة
وفى الدرجة الأولى خدرك الهواء البارد المنبعث من التكييف .. وموسيقى الديسكو الصادرة من كل مكان .. ورائحة الشواء تفوح فى المكان .. ووسط حلقة من ركاب الدرجة الأولى كانت قنبلة مصر الذرية ترقص على صوت التصفيق .. وعناوين الصحف تتراقص أمام عينيك ..
زلزال يضرب أنحاء مصر
الدول الشقيقة تسارع بالتبرعات
ديون مصر تتزايد
حادث بشع فى العتبة ..
مجموعة من الشباب يعتدون على فتاة أمام المارة
صرف خيام إيواء لمنكوبي الزلزال
مأدبة عشاء احتفالا بعيد الثورة المجيدة
فوز فيفي عبده بجائزة أحسن ممثلة لهذا العام
هروب بعض رجال الأعمال بمليارات الجنيهات
انهيار أسعار الجنيه المصرى
ارتفاع معدلات الفقر فى مصر
..........
وأقلك الأتوبيس من العقبة إلى عمان .. كانت الصحراء عريضة .. وكنت كحبة رمل تائهة فى قلب الجبال والدموع متحجرة فى العين المرهقة والفراغ ورائحة الموت والوحدة
والفقر
والقلم اليتيم
والأوراق
وأسماء
كنت متعبا وفى حاجة إلى النوم .. وندمت لأنك لم تنصاع ذات ليلة لأوامر جدتك وهى تتوسل إليك لكى تنام . لكنك كنت دوما تتمرد عليها وتطلب منها أن تحكى لك حدوتة جديدة عن الشاطر غريب .. فتحاول التخلص من إلحاحك .. لكنك أبدا تأبى الانصياع بسهولة لرغبتها .
" كان ياما كان .. فى سالف العصر والأوان .. كان فيه فارس جميل اسمه الشاطر غريب .. سجنوه ظلما تحت الأرض وهو فى طريقه للبحث عن ست الحسن والجمال .. الشاطر غريب لم ييأس .. ولم يحزن .. وأخذ يشق طريقا للنور والحرية .. " ..
وبعد أن تنتهى من حكايتها تنظر إليك وأنت هامد الحركة بعد أن خطفك ملاك النوم ... تعدل النظارة فوق أرنبة أنفك . تقف مكتوف الخطى أمام أضواء المولد ... مثلما وقفت أمام سياطهم وهى تكوى جسدك .. وسألت النفس فى حيرة :
ـ من أى عالم استمدوا هذه الوحشية ؟ ..
ورغم تورم أصابعك أمسكت بقلمك وكتبت إلى أسماء ..
" اعذريني لرداءة خطى يا أسماء .. فالمراقبة على قدم وساق .. ولو ضبطونى وأنا أخط رسالتى إليك لما ترددوا فى قتلى ."
يتبع...
*د.أحمد عبد الهادي :رئيس حزب شباب مصر
إضافة تعليق جديد