"الإنسان الورقي Human Foliar" للفنان ثاير الربيعي أنموذجا
تقديم:
ثاير الربيعي، فنان تشكيلي عراقي تولد بغداد، مغترب يعيش في نيوزلنده، له مجموعة من الأعمال المنفذة في العراق والأردن ونيوزلد في مجالات ( الرسم ، الخط، النحت) ، عضو جمعية الخطاطين العراقيين ١٩٨٤، عضو أكاديمية الفنون الجميلة النيوزلندية ٢٠٠٣، بكالوريوس اختصاصي الإعلام- الفلم ٢٠١٠.
العمل الفني :
العمل حمل عنوان (الإنسان الورقي)، بقياس يكاد يكون مربع( ١٢٠ × ١٢٢,5 ). استعمل الفنان مواد مختلفة mixed media)) اكرلك، معجون، غراء، شريط ورقي لاصق sellotape، ورق تواليت، تراب.. شغلت الخطوط الرأسية ذات الطابع الهندسي للأشكال (المربع والمستطيل) مساحة العمل الأكبر، تجمعت في اتساق متعدد المحاور (أفقيا وعموديا) في تنظيم وصياغة عناصر التكوين وباقتصاد لوني، يعد اللون المغاير (البرتقالي المحمر) في أعلى جهة اليسار مركز جذب للبصر لقتامته. غُيب الجزء العلوي من هيئة شكل الإنسان في الفكّر( الذي عادة ينتمي إلى الارتفاع الذي يمثل الرأس والفكر) بل اعتنى بإظهار الجزء السفلي منه والذي شمل أقدام آدمية بوضع الجلوس بمحاور متقاطعة. العمل الفني نفذ باستعارة مفاهيمية باستدعاء البعد الدلالي في التشفير البصري.
الدلالة والمعنى :
استعار الفنان مواد تعبر عن فكرة ومفهوم العمل بإيمائية تحمل دلالاتها كإشارة لقيمة الإنسان الذي هو سيد المخلوقات جميعا والذي كرم ان خلقه الله فأحسن تقويمه. اعتمد شكل الفكَر- الكاركتر الموتيف الخاص المُشَخّص بأعماله السابقة- والذي يطرح من خلاله أفكاره، تم توظيفه ليبعث من خلاله رسائله البصرية والتي يرمى لغايةٍ قصد تحقيق مطلب ذو غاية بعيدة حسية . يلاحظ ان شكل الإنسان في العمل مطوي كالورقة، صوره الفنان بشئ من الاستهانة والاحتقار والظلامية، حيث اقترن الشكل بالمناديل الورقية (لفافات من أوراق التواليت)، وهذا أعطى للورق المبذول قيمة ماديّة وفنية جمالية عالية في العمل. تم التقاطه من النفايات وسلة المهملات ووضع في عمل يعرض في أفضل الصالات، كي يبقى شاهدا على إسراف الإنسان في كل شئ. عبر العمل عن كيف يحيا ويُعامل الإنسان في عصرنا من خلال استعارة الربيعي للورق الرخيص( مادة تستعمل مرة واحدة ثم ترمى في النفايات) وظفها كإشارة تحمل دلالتها فقدت صفتها الأصلية السابقة، ليصور بها الإنسان الذي يمثل أعلى قيمة في هذا الوجود بمادة ارخص ماتكون في الوجود. أحالها إلى علامة يرسي فيها علاقة (تربط بين العلامة، وشئ آخر غير نفسها) بطريقة احتجاجية تستفز ذائقة المتلقي الذي يعيش حياة الاسترخاء لتنبيهه وتذكيره بأخيه الذي يشاركه الحياة على هذه الأرض، لذا تم اختياره لمواد ذات صلة بالموضوع لغرض مطابقة الشكل بالمضمون، ثم خلط المواد المذكورة جميعها بالتراب ليصبح طينا فيما بعد، وللطين دلالة الآدمية، أصله مزيج من الماء والتراب (من عناصر الكون التي كونتنا) هذان العنصران اللذان يلعبان دوراً إيمائيا هاما،ً فالماء مصدر للحياة، والطين يعني الأرض له علاقة مع الولادة والموت وفي هذا تعارض قوي جدا( ثنائية الأضداد). عادة التراب والماء يعمل ثقلهما على إنزالهما إلى النصف الأدنى من خلال رسم الجزء السفلي فقط بدلا من ان يرسم ماله علاقة بالتفكير والعقل. القرينة في هذا العمل حملت نية التبليغ (رسالة للمتلقي) على سبيل الاستعارة المكنية، استعمل الفنان الربيعي مواد يمكن إدراكها (المدلول) الذي يمثل الفكرة أو المفهوم لتصل الى المتلقي عن طريق الدال(ورق التواليت لرسم إنسان عصرنا) وهذا حمل العمل قيمة إيمائية عالية نهج فيها إلى إبراز شكل وهيئة إنسانهُ الورقي بنتاج إبداعي يحمل دلالات أيقونية بصرية. انه استقراء الدليل والموضوع والمؤول استنبطه من الأحداث وأخبار العالم اليومية بتساقط مئات الآلاف من الناس من هنا وهناك وليس المقصود هنا الكوارث الطبيعية، لكنه الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان، وكيف يُقْتَل ويرمى بطريقة تشبه الى حد ما رمي ورق التواليت المستعملة، هي عملية إيجاد النقائض لتمنح قيمة أخرى يَرْمِي لِمُثُلٍ بهْدِف وقْصِد. استعار مادة لا يمكن إعادة صناعتها ولا الاستفادة منها بعد استعمالها، مادة ترمى في النفايات لا يمكن تدوير صناعتها، موارد تستعمل لمرة واحدة ثم ترمى الى القمامة ليكمل بها الفكرة والمفهوم وهي (للاسْتِخْفافٍ وَالاسْتِهْزاءٍ ). تناول ورق التواليت ومسح به الأرض والطاولة ثم رماه على الأرض ليكون صادقا تماما فيما يعنيه. ظهر شكل الإنسان بلا رأس ليمثل كل إنسان بلا أي تحديد لهويته. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فانه مقتول ومرمي بلا انتماء لأي طائفة، إلا انه إنسان ، يعني: أي من المتلقين ممكن ان يكون هو بمكانه.. كما أشارت المربعات الورقية في الجزء الأعلى إلى صحف الإنسان التى تصعد إلى السماء (وثيقة) سجلت عليها أعماله ( من افترى عليه ومن جنى عليه ومن قتله) فطبيعة البشر الاعتداء على بعضهم البعض وبلامبالاة. لكن في قاموس الفنان ومن مبدأ رسالة الفن الإنسانية فالأمر جلل، وثق ذلك وسجل كما هو في أعلى اللوحة. شكّلَ الظل الأسود في أسفل العمل والذي يبدو للمتلقي كأنه ظل لجناح طائر تعبيرا عن حالة ولحظة فورة الروح ساعة القتل يقول الفنان ثاير عن ذلك : " لم أجد أقوى من كلمة عراقية (تفرفح روحه مثل الطير). ثم سجل العنصر (الزمكاني) في اللوحة زمان ومكان لحدوث اي جريمة بحق أي إنسان...لكن لا نراهما.. لذلك يحس المتلقي من خلال اجواء اللون البنفسجي ومشتقاته بغرابة المكان والزمان...وهذه الأجواء تشير لأي زمان ومكان ممكن ان تحدث فيه الجرائم بحق الإنسان. ان قتل النفس أمر عظيم عند خالقها هو الذي قرر لها الحياة والرزق والطموح، أفراحها وإحزانها، بما كل ما يحمل قيمته الاجتماعية، فرديته، ملكيته، طموحاته ورغباته.. ثم يأتي من غرر به و يوقف هذا القرار يوقف أحلامه، رزقه، وجوده. مثل الفراغ بين ظل الجناح والأوراق الملصقة تعبير عن مسافة الزمان بين الأرض والسماء. اما اللون الأحمر المتردد إلى برتقالي فاستعاره من موسيقى بتهوفن (سيمفونية القدر) القدر الذي يطرق على الباب ليُحذر وينذر، فجاء بلون يخالف كل الجو العام للوحة كأنه الصراخ بأعلى صوت: انتبه إلى ماذا يحدث حولك وأمام عيناك من انتهاكات صريحة؟ كلنا مسؤولون وكلنا محاسبون، فتردد الأحمر إلى برتقالي (حركة) كأنه طارق ليسمع الآخر ويعير اهتمام المتلقي. تم اختيار القياس المربع لحصر شكل الفكَر ليبدو وكأنه سجين في قفص.
تضمن التكوين composition)) معنى إيمائي وكيان بوحدة بناء تواءمت مع المفهوم. بني العمل على أساس سليم وبالشكل الواعي( عملية بحث. ونمو التفكير. وإدراك النتائج) في علاقات معينة – دراسة سابقة مرسومة- لم يصور الفنان شكل الإنسان إطلاقا كي لا يعفينا من التفكير في غير المألوف( المشاركة الذهنية للمشاهد) عكس (الفواقعية) عكس العمل بطريقة محرفة لندرك معاني وعلاقات غير ماتعودنا ان ندركها في أوضاعها العادية. ان لذة مشاهدة وقراءة الأعمال المشفرة عادة ماتجعلنا نستمتع بقيم جديدة " الفن ما هو إلا لغة، واللغة وسيلة للاتصال، وكل من يتمكن من تعلم اللغة بعمق يستطيع أن يتفهم المعاني ويكشف عنها "(1). نقل لنا الفنان الواقع الاجتماعي بطريقة فنية لإنسان العصر وكيف يستهان به بارتكاب جرائم القتل والإبادة بحقه بصورة حسية، بصرية، أيقونية من خلال الاستعارة والتشبيه حيث قام العمل على ثلاث عناصر الدال والمدلول والمرجع، بتشفير بصري إيمائي عالي. على الرغم من كل هذه المفاهيم القاسية والجدية، لم يمح الجانب الجمالي للمشاهد لإحساسه بالانشراح وليأخذ فرصة حقه في التمتع من خلال توزيع العناصر والقيم الفنية كاللون والتوازن بين الكتل وطريقة توزيعها لتمنح المتلقي شعورا بالفسحة والدينامية بانتقال عين المشاهد داخل مساحة العمل الفني. كان من الممكن ان نجد ألوان سوداء ودماء، أبعدها الفنان ليمنح المشاهد رؤية بصرية مريحة رغم قساوة الموضوع وفسح فرصة تأمل ومتسع من التأويل، ربما يجد المتلقي شيئا ما يكوّن له معناه الخاص به. وهذا مايستهوينا عند قراءة العمل الفني المعاصر ليس حدوده المرئية، بل تأليفاته المضمرة.
2014
__________
-عُرض العمل في اكاديمية الفنون الجميلة النيوزلندية New Zealand Academy of Fine Arts ( تعتبر قاعة الدولة الرئيسية الرسمية في نيوزلاندا) وان الفنان التشكيلي العراقي ثائر الربيعي احد أعضائها، موقعها العاصمة ولنكتون، حيث مكان سكناه. العمل الفني حاليا من مقتنيات مستشفى العاصمة التي اشترته من الفنان بقيمة ٢٠٠٠ دولار. ومازال العمل الفني" الإنسان الورقي" معلق في الطابق السابع ، قسم العمليات، الى جانب مقتنيات لفانين من حول العالم).
يقول الفنان ثاير الربيعي : " والذي افرحني...ان العمل لم يحبس في بيت احد الاغنياء يعلقه على جداره ويحبسه. لكنه بقي معروض ليشاهده كل يوم عشرات الناس انه في معرض دائم ومهم".
-(1) مقولة لمحمود بسيوني، العملية الابتكارية.
إضافة تعليق جديد