متوسطو الثقافة ليسوا فلاسفة وليسوا مفكرين علي المستوي الذي يستطيعون فيه أن يصنعوا أيديولوجية حقيقية. تصوري علي عقلة عرسان يصنع أيديولوجية أمة. هذه كانت مأساة حقيقية عشناها ونري تأثيرها الآن في الكتابة بهذا الشكل المأساوي، أنا أقرأ مخطوطات حتي أصاب باحمرار في العيون من الهواء والهراء والإنشائيات، أنت تعرفين أنك لا تستطيعين أن تمسكي بالمادة الكتابية بيديك إمساك اللحم لكي تكتبي، أنت تكتبين فراغيات، هوائيات، إنشائيات، كلام لا معني له... وهذا هو المرعب في الكتابة السورية الآن. أنا أعرف كاتبة سورية، كتبت في السنوات الأخيرة مايزيد عن ألف، ألفي صفحة من الروايات وكلها هراء في هراء في هراء لأنها لا تعرف لماذا تكتب، ليس من رسالة، إنها تردد المقولات الإعلامية الصحفية في الكتابة، وهذا يصنع مدرسة من صغار الكتاب ومتوسطي الكتاب الذين يرون النجاح فيها، في هذا الاتجاه فيسرعون وراءهم وهكذا تدور الدوارة. نحن نعيش للأسف الشديد نتيجة أن انقطعنا مع التراث وانقطعنا علميا ودراسياً مع المعاصرة، وأبعدنا عن المتوسط لنقذف في الصحراء. نحن سرقت سواحلنا.. بعضها للأتراك في اسكندرونة (أنا لست قوميا سوريا حتي لا أريد أن أفهم بهذه الطريقة، ولكني أنظر إلي واقع سورية) أخذت الاسكندرونة وأعطيت للأتراك، وأخذ الساحل اللبناني منا، وأخذ الساحل الفلسطيني وأعطي لليهود، فأصبحنا قارة صحراوية ليس لها إلا ثمانون كيلومترا من الاتصال بالمتوسط، ثم جاء حزب البعث الصحراوي فكريا أصلا فأغرقنا في هوائيات من الألفاظ دون أن يكون لدينا مادة حقيقية للكتابة، ثم جاء علي عقلة عرسان فخرب وخرب وخرب... أنا أتمني من حسين جمعة وأنا متفائل به كثيرا لأنني أعتقد أن كل من يأتي بعد علي عرسان سيكون أفضل منه. في مراحل علي عرسان كان سوادا حقيقيا في تاريخ سورية. انتهينا منه الآن، الحمد لله. أنا أعتقد أننا قادمون علي مرحلة أفضل يتحرر فيها الكاتب من هرائيات وهوائيات علي عرسان الكاذبة.
هناك بعض الروائيين يتبنون ويقدمون للساحة الأدبية أسماء جديدة من الشباب وأعمال هؤلاء غالبا ما تكون مجرد محاولات مبتدئين. كيف تري مثل هذا التبني؟
في الستينيات من القرن الماضي كنت طالبا في مصر، وكنت علي علاقة طيبة بالكاتب الكبير يحيي حقي وهو أستاذ أفخر بشدة بأنه كان من أولئك الذين أحببتهم في صباي.. كان يملك شاعرية خاصة ولغة خاصة ورقة إنسانية خاصة. كان في ذلك الحين رئيسا لتحرير مجلة اسمها المجلة وهي كانت من أهم المجلات الأدبية والمتنوعة في مصر في ذلك الحين، وربما في اللغة العربية. وفي ذلك الحين ظهر كاتب جديد هو اسماعيل ولي الدين فقدم نوفيللا أو رواية صغيرة كان اسمها حمام الملاطيلي فأعجب بها يحيي حقي فتبناها وأخذ يكتب عن هذا الكاتب بأن له مستقبلا. وفي إحدي الزيارات التي قمت بها مع بعض الأصدقاء في مصر في ذلك الحين للأستاذ حقي بدأنا نعاتبه كيف تبني كاتبا نحن لم نعتقد أنه كاتب متميز، فنظر إلينا وقال: والله احترت معكم ياشباب، إذا تبنيناه تبنينا الشباب الجدد قلتم إنهم مثل اللبلاب، وإذا ما تركناهم دون تبنٍّ فسيصبحون شجر سنديان، ولكن من بين كل مئة بذرة سنديان ستنمو سنديانة واحدة، والتسعة والتسعون الباقية سوف يقتلها البرد والريح والجفاف والأقدام التي تمر فوق الموقع، احترنا معكم. فقلنا له: ولكن هذا لبلاب.. أتربون اللبلاب؟ فنظر إلينا في حنان وأبوة وقا ل: ولكن الحياة أيضا في حاجة إلي لبلاب. مقولة تلح علي كثيرا منذ ما يقارب الأربعين عاما وأنا أفكر فيها.. هل نتبني كاملا كل النبتات الجميلة في الأدب أم نتركها للصراع مع الطبيعة حتي يتصلب عودها وتتحول إلي أشجار سنديان تستطيع أن تبقي علي الحياة كاملة؟ ثم أتذكر مقولة يحيي حقي بأولئك الذين كانوا يكافحون ويحاربون ويقاتلون ويقفون ضد التيار ولكنهم يصلبون ليصبحوا سنديانا للمستقبل. ولكن الحياة في الوقت ذاته مليئة بالشجيرات وباللبلاب الذي لا بد له أن يعيش أكثر، وربما لن يكون له مستقبل، ربما لا يستمر حتي السنة القادمة.. ربما لن يعيش حتي العقد القادم ولكنه يعيش. الحياة بحاجة إلي سنديان.. وإلي شجيرات.. وإلي لبلاب.
رواية ملكوت البسطاء تحولت إلي مسلسل تلفزيوني، هل استطاع المسلسل أن يصل إلي مستوي هذه الرواية الجميلة؟
منذ بضعة عشر عاما كنت في رحلة صغيرة مع روائي كبير اسمه غالب هلسا ـ رحمه الله ـ كنا قادمين إلي دمشق فرأينا عن بعد البنايات المغلفة بالأنتينات والهوائيات الكثيرة الكثيرة، فنظر إليها بحسرة وقال أمامك الآن مئات الآلاف من القراء الذين يقرؤون أتفه الأدب تحت اسم المسلسلات التلفزيونية، هذه الأنتينات تسرقهم منا في قراءة أدبنا. فقلت له: هل يجوز أن نترك كل هؤلاء القراء لهؤلاء الكتاب من أنصاف المثقفين وأرباع المثقفين وممن يحومون حول السطح ولا يستطيعون الغوص عميقا بالروح البشرية؟ من هذا الحوار ظلت المسألة تتناوشني لفترة طويلة، وأنا بالحقيقة حاولت أن أركب الجوادين في وقت متقارب معا.. حاولت أن أصل إلي القاريء العريض قبل كتابة الأعمال التلفزيونية وحاولت أن أستجيب لنوازع روحي الطامحة جدا إلي سماوات لا يستطيع التلفزيون أن يصل إليها عبر فن الرواية، فكتبت الرواية وحاولت أن أخلص في كتابتي للرواية إلي أقصي مشاعر الحريات والمثقفة عالميا وليس محليا، وربما كان هذا مؤثرا علي جماهيريتي التلفزيونية.. فحينما أكتب بالتلفزيون لا أستطيع علي نقد ذاتي أن أنزل إلي مستوي الكتابة التلفزيونية الحقة.. يظل ذلك جزءا من الكاتب الروائي المتأنق، لابد أن يبدأ بالكتابة فالناس اعتادت علي السفاسف واعتادت أن تنظر إلي التلفزيون كفن راق يمكن أن يوصل فنا راقيا إلي القراء. مابين هذين القطبين لصت طويلا، وفي السنوات الأخيرة وبعد تجربتي حينما طلب مني أحد المنتجين التلفزيونيين أن أكتب له عملا تلفزيونيا عن الصراع مع الصهيونية، فقررت أن أكتب لأول مرة ليس عن القضية الفلسطينية كقضية لاجئين ومظلومين ومطرودين من بلادهم ومستعمرين... لا، قررت أن أكتب عن الصراع الأيديولوجي الأساسي ما بين الفكرة العربية والفكرة الصهيونية، أن أكتب عن الصراع ما بين الصهيونية واليهودية أصلا، وأنت تعرفين أن اليهود لم يقبلوا الصهيونية إلا كرها، وبعد انتصار الصهيونية التي استعانت بالغرب علي العرب وعلي اليهود. أنت تعرفين أن الصهيونية خدعت عشرات الآلاف من اليهود اليمنيين وانتزعتهم من فردوسهم وجاءت بهم إلي فلسطين، انتزعت الآلاف من اليهود العراقيين من فردوسهم البابلي التاريخي وجاءت بهم إلي فلسطين ليتحولوا إلي أيد سوداء تعمل في المهن التي لا يعمل بها الأشكناز البيض. ولكن وأنت تعرفين أن الصراع مابين الفقراء يحيلهم إلي أعداء، وهكذا تحول هؤلاء اليهود إلي أعداء. المهم ليس هذا، حينما دخلت في الجدي، فالصراع الصهيوني مع اليهود ومع العرب ومع المسيحية الصهيونية في صراعها أيضا ضد العرب وضد اليهود أخذ المنتج هذا العمل ودار به علي الأقنية جميعا فلم يجد من يرضي أن يذيع عملا كهذا.
هم يريدون البكائيات، يريدون الفلسطينية المسكينة المطرودة، المقاتل المهزوم، لكن لا يريدون أن يقرؤوا الحقيقة في الصراع الحقيقي الأيديولوجي الذي يتم بين حضارتين، بين القومية العربية والقومية المفترضة الصهيونية والتي لا علاقة لها حقيقة باليهودية. أنت تعرفين أن جماعة هالوت إسرائيل كانت ضد الصهيونية، نتركاتا كانت ضد الصهيونية وأتت عشرات الحاخامات والحركات اليهودية في امريكا نفسها ضد الصهيونية، ولكن نحن لا نعرف هذا الأمر، نحن نضعهم كلهم في بلوك واحد ونبدأ في تكبيرهم فنصغر، فإذا ما صغرنا آمنا بأننا لم نستطيع أن نفعل ولا نستطيع أن ننتصر، فما علينا إذاً إلا أن نستسلم وأن نساير الواقع. فلنعد إلي موضوعنا الذي حدثتني عنه، الرواية أعذب من التلفزيون، لأنها فن الرمزية اللغوية، والرمزية اللغوية تجعل من كل قارئ مشروعية في قراءة النص كما يراه هو. فهو يري المكان بعينه الخاصة، ويري الشخوص بعينه الخاصة، ويقرأ الأفكار بعينه الخاصة. وحينما سمعت قراءتك لرواية لو لم يكن اسمها فاطمة سمعت قراءة غير التي أنا كتبتها، هناك عشرات القراءات للنص الروائي، ولكن حينما يكتب للتلفزيون أو للسينما تصبح قراءة واحدة هي قراءة السيناريو وقراءة المخرج للسيناريو تصبح قراءة محددة. السينما أرقي من التلفزيون بمئات المرات، التلفزيون والسينما فيها أعمال لخيال أحادي ولي س لخيال جماعي أي خيال كل القراء المتعامل مع النص الواحد، السينما أو التلفزيون هي خيال القاريء الواحد السينارست المخلص.