حاول الأهل أن يناقشوا قراري. أما الأصدقاء فأصيبوا بما يشبه الصدمة: ففي وقت يعود الجميع من سورية، اقرر أنا زيارتها لقضاء عطلتي السنوية، بدل أن أتوجه نحو إحدى الدول الأوروبية كما يفعل معظم اللبنانيين. قراري كان متسرعاً، إتخذته قبل يوم واحد من تنفيذه. وضبت حقيبة سفر صغيرة وصرفت بعض الأموال وقررت زيارة دولة لا تبعد عن منزلي سوى ساعة واحدة في السيارة، مردداً بيني وبين نفسي السؤال حول الأسباب التي تجعلني أحلم بزيارة الدول البعيدة قبل أن أزور سورية القريبة.
في الطريق من القرية باتجاه نقطة الدبوسية، وطوال نصف الساعة التي تفصلني عن الحدود، كنت أراجع افكاري، وأحاول رسم صورة في ذهني عن البلد الذي أنا ذاهب إليه. أفكر في الأمور السياسية، في شعور كان يشبه الكره لكل ما هو سوري. حقد اعمى رافقني طوال السنين الماضية. أسترجع صورة أمي وهي ترجوني أن أغير مشروعي خوفاً من المجهول. أسأل السائق عن حقيقة أن ذهاب اللبنانيين إلى سورية بات خطراً، فيهز برأسه ويقول هلأ بتجرب .
البداية: خوف وفظاظة
في النقطة الحدودية، لم يكن ثمة رتل من الشاحنات المتوقفة، بل كان المكان هادئاً جداً، يعكر هدوءه بعض المسافرين القليلين جداً. يعطيني الأمن العام تأشيرة الدخول من دون أي رسم، ومن دون اي تفتيش. يوصلني السائق نفسه إلى نقطة الأمن السوري. أقدم للعسكري الجالس خلف الزجاج هويتي، فيدقق باسمي عبر الكومبيوتر.
تمر الثواني. أفكر في ما قد يحصل. ماذا لو كان قلق أمي في محله؟ ماذا لو كانوا يعرفون أنني كنت طوال سنوات أجاهر بعدائي لسورية وأتظاهر ضدها؟ تمر الثواني وكأنها ساعات. افكر في الذين اعتقلوا ولا يزال مصيرهم مجهولاً حتى الساعة. استيقظ على خبطة الجندي وهو يمهر تأشيرة الدخول ويرميها لي مع الهوية بطريقة فظة. لا أجد مفراً من شكره برغم اسلوبه الفظ، ربما بسبب الخوف وربما لتجنب مشاكل أنا بغنى عنها. السائق اللبناني الذي ظل ينتظرني خارجاً شرح لي كيف عليّ ان أتنقل، ثم أخذ أجرته وعاد إلى لبنان.
صور أولى... وصولا الى حمص
عشرات الأمتار... وأمر على مجموعة من شبان الجمارك السورية يشربون الشاي. أسألهم إذا كانوا يريدون تفتيش الحقيبة فيشيرون إلي بالتقدم. من دون أن يستغرق الأمر كله عشر دقائق انتقلت من لبنان إلى سورية. من غير أن أعلم السبب عرف سائقو الفانات والتاكسيات أني لبناني فهرعوا إلي يعرضون خدماتهم.
في الباص كانت حواسي مستنفرة. أريد تنشق الهواء السوري حتى أستدل على مكوناته. أريد أن أرى كل شيء. وهنا بدأت المشاهد المتناقضة مع ما كنت أتخيله.
وبعد مسافة قصيرة بدأت أفكر في احتمال صوابية الشعار الذي يتحدث عن الجغرافيا الواحدة والطبيعة الواحدة، إذ بدت الطريق وكأنها إحدى الطرق العكارية.
المساحات الواسعة مزروعة بأشجار الزيتون وتظللها أشجار الصفصاف، إلا أن طرقات سورية كانت أكثر ترتيباً واتساعاً وحتى نظافة من الأوتوسترادات اللبنانية.
كانت حواسي مشغولة باكتشاف اسرار المسافة، أما فكري فانشغل في تخيل الأسلوب الذي سيعاملني به السوريون. كنت أفكر في ما لو عاملوني بالطريقة نفسها التي عاملهم بها اللبنانيون في المرحلة الأخيرة، وماذا لو كان بعض السوريين عنصرياً تجاه اللبنانيين كما يحدث عندنا لدى البعض.
خمسة وثلاثون ليرة سورية هي كلفة الإنتقال من الحدود اللبنانية - السورية إلى محافظة حمص، المحطة الأولى في رحلتي، خصوصاً انني كنت أحمل شوقاً خاصاً للتعرف على أهالي هذه المحافظة، لأن اللبنانيين يعشقون السخرية من الحماصنة، والحماصنة متهمون بالغباء وتؤلف عليهم النكات بشكل يفوق التصور. طوال ساعتين لم أسجل أي مشادة كلامية بين السائق والركاب بسبب التدخين أو الدفع أو السرعة، كما يحصل في لبنان. فالركاب هنا يبدون منضبطين مطمئنين والسائق ملتزم بالقانون.
للوهلة الأولى بدت حمص كما تخيلتها. ففي القرب من موقف الفانات والسيارات إنتشر عشرات العمال على الأرصفة، تماماً كأننا في مستديرة الكولا. بدوا شبيهين بالعمال السوريين الذين كانوا يملأون ساحات القرى والمدن اللبنانية ويثيرون حساسيات لدى البعض. سرت بحسب الخريطة التي رسمها لي صديق لبناني. ما هي إلا ثوان حتى كنت في مدينة حمص أجوب طرقات ضيقة ومرتبة، والأهم أنها قديمة. فالمحال تتميز بالسقف العالي القديم وبالحجر الأبيض. وإذ اختلطت رائحة القهوة العربية برائحة الكعك، ظننت أنني في طرابلس، مدينة العروبة في لبنان. فحمص تشبهها إلى حد بعيد، والناس يبدون من طبقة اجتماعية متوسطة هي أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى.
نزل اللبنانيين في سورية
وبعد أحاديث قصيرة مع بضعة بائعين في السوق فهمت أن تجار حمص كانوا يعتمدون في السنوات الماضية على الزبائن اللبنانيين الذين كانوا يقصدونها بأعداد كبيرة لقربها من الحدود، فيشترون معظم احتياجاتهم سواء أكانت غذائية أو ملابس أو غيره.
حي الغسانية بدا لبنانياً بامتياز، حيث تتجاور الكنيسة والجامع وتفصل بينهما مدرسة الغسانية، في مشهد لطالما اعتقدت أن لبنان يملك الحق الحصري فيه.
نزل أبو فادي هو المكان الذي كنت اقصده. كلما أوقفت شخصاً لأستدل منه عن الطريق يسارع هو ومن حوله ليرشدوني في حماسة كبيرة مشددين على عبارة والله اشتقنالكم . النزل الصغير يشبه المنازل في المسلسلات السورية . فبعد القنطرة والباب الحديدي، دار كبيرة تمتلئ بالورود والشتول الخضراء. لفتني الإبريق الفخاري الذي يحوي ماءً بارداً في مشهد يذكر بالقرية اللبنانية. أبو فادي صاحب النزل كان رائعاً. ترك طاولة الزهر، حيث كان يلعب مع صديق وهرع ليحمل عني الحقيبة، قائلاً أن هذا نزل اللبنانيين في سورية ، وبدأ الأسئلة عن السفر، وإذا ما كان مريحا او متعبا، مشدداً على أنه من الأفضل أن أنام قليلاً قبل أن أخرج، فسهرات حمص طويلة، ومؤكداً أنه سيعزمني بعد القيلولة على سندويش شاورما لم آكل مثلها في حياتي . بدا المكان رائعاً ودافئاً جداً، وبدا الرجل طيباً، تماماً كما وصفه لي صديقي في لبنان.
قلق اللبنانيين وطمأنينة السوريين
كانت الوجوه مغايرة تماماً لوجوه اللبنانيين. كانت مفعمة بالأمل وبالنشاط وبدا عليها حب الحياة والفرح بالحياة، عكس الكثير من اللبنانيين الذين نادراً ما يبتسمون بل يقضون معظم وقتهم متذمرين. كان التجار الذين دخلت إلى متاجرهم والأشخاص الذين كلمتهم جميعاً يريدون الإطمئنان على لبنان. شعرت وكأني أعيش تناقضاً داخلياً بين أفكار كانت مترسخة فيَ وأفكار جديدة تبينها لي التجربة. فحين يعرفون انني لبناني كانوا يزيدون في ترحيبهم وضيافتهم وكرمهم، فتلوح أمامي صورة سلوكي تجاه السوريين في بلدي، وسلوكهم تجاهي في بلدهم. والملفت ان الذين بدا عليهم الفقر لم يبدوا قلقين. وفي المساء نفسه في جلسة مع أبو فادي والشلة كما يسميها، أخبروني أنهم سعداء في حياتهم. تلك السعادة الهاربة دوماً من كثير من اللبنانيين، بدت هنا متوافرة وفرة حقيقية.
كل الذين التقيتهم، لم يكونوا أغبياء كما يصفهم كثير من اللبنانيين. لم يكونوا أغبياء وإنما كانوا بسطاء، غير معقدين. كانواغير متفلسفين. لم يتحدثوا عن السيارات الفارهة والهواتف النقالة، وأقساط المدارس والجامعات. كانوا يريدون أن يعيشوا اللحظة من دون قلق، أن يستمتعوا بيومهم. حتى التجار لم يكونوا كالفينيقيين اللبنانيين الذين يطمعون دوماً بالمزيد، بخاصة من الأجانب. كانوا يعرضون عليَ الأشياء بأسعارها العادية بالليرة السورية. وشعرت في يومي الأول أن السوريين أكثر صدقاً من كثير من اللبنانيين، وأنهم يعرفون كيف يعيشون.
حلب توقظ بيروت الجميلة
إن كانت زيارة فرنسا تمر حتماً بباريس، فإن زيارة سورية لا تكتمل إلا بالمرور في حلب التي تستوقف زائريها طويلاً. فكل ما فيها، زواياها ومحالها وفنادقها واسواقها، والأهم أهلها، يشعرون الزائر أنه في مكان قد حلم به كثيراً. يشعر الزائر أنه ينتمي إلى هذه المساحة التي تكاد لا تنتهي. للوهلة الأولى تبدو حلب تشبه بيروت. أو أنني أريد لبيروت أن تشبهها. حلب توقظ بيروت الجميلة النائمة في زوايا النسيان، أو أن بيروت قد مرت من هنا وتركت بعضاً من أشيائها الجميلة.
حلب تشبه بيروت في ازدحام السير. ففي مدينة الملايين لا يوجد مترو . ولدى سؤالي سارع السائق لينصحني ببدء مشواري من المدينة القديمة. المشاة مزدحمون على الأرصفة المزدحمة بالبائعين الذين يبدون جزءاً من مشهد المنازل الساحرة والقديمة. فجأة تشعر ان الوسط التجاري البيروتي لا يتجاوز حجمه احد الأزقة الصغيرة المتفرعة من أسواق حلب القديمة الفريدة في الشرق.
الحلبيون فخورون بمدينتهم بشكل لا يوصف. ما أن يشاهدوا الزائر مندهشاً من المشهد حتى يسارعوا إلى إخباره أن الأسواق هي بطول سبعة كيلومترات وتعود إلى القرن الثالث عشر وتمتد من باب إنطاكية غرباً وسوق النيرب شرقاً بطول 750 متراً وعرض 350متراً. وهي على شكل شوارع وأسواق متوازية ومتعامدة، تضم تسعة وثلاثين سوقاً، يختص كل سوق بنوع من البضائع والسلع، كسوق الحبال والقطن والعطارين والنجارين... وغيرها.
وإن كانت الأسواق تتنوع في ما تعرضه، فإنها جميعها تتشارك برائحة التوابل والمأكولات الشهية. أصوات البائعين وأصوات القرقعة والطقطقة المنبعثة من محلات أصحاب الحرف، عربات المكسرات والكعك والعصير المندفعة بين جموع الناس، الأطفال الصغار الذين يبدو عليهم الإشتياق إلى النوم، لكنهم رغم هذا يحملون الكراتين ويصرون على بيعك أي شيء: بدلات الرقص الشرقى، الهواتف البلاستيكية، أشرطة الكاسيت والديسكات، صداري نسائية، والثياب الداخلية والأحزمة... الخ.
ولكي يكتمل مشهد بيروت، أو المدينة التي أحلم بها منذ زمن بعيد، ويبدو أنها حلب، يتناهى إلى أذني صوت المذياع يصدح بأغاني السيدة فيروز ووديع الصافي. كأنه مجتمع الرحابنة، في وقت تنصرف فيه بيروت عن هؤلاء وتفتح ذراعيها لآخرين الذين يغنون رقصا وبالصور. حتى ذلك الرجل الجالس في زاوية من محله وعلى رأسه لبادة حمراء ويغني وهو يعزف العود، بدا مهتماً بالذين يقصدون متجره لسماعه أكثر من الذين يقصدونه لشراء حاجاتهم.
وإن كان بعض المطاعم في بيروت يفرض على موظفيه ارتداء ملابس فولكلورية، فإن سوق حلب غني بمظاهر فولكلورية لا تزال جزءاً من الحياة الإجتماعية في سورية، حيث يجتمع عدد كبير من الناس حول أحد الحكواتية التقليديين الذي يحكي في كل مساء حكاياته، ويرافق ذلك بإشارات حية وأحياناً التلويح بالسيف.
المطبخ الحلبي
المطبخ السوري شبيه بالمطبخ اللبناني، مع تمايز كل منهما بأطباق خاصة، كالتبولة والكبة النية وكأس العرق. أحد العاملين في المطعم الذي قصدته أخبرني بافتخار كيف ان المطبخ السوري يعتمد في تحضير الوجبات على المواد الطبيعية والطازجة التي تسمح بتحضير مائدة عامرة بألوان شتى مما لذ وطاب, في وقت قصير وجهد قليل. ولا تستعمل المشروبات الروحية, أو المنكهات الصناعية في المطبخ السوري, حفاظا على صحة المستهلك و اهتداء بالقرآن الكريم الذي يقول (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا). والملفت أن أسماء المأكولات الشعبية السورية يرتبط بالمحافظات والمدن السورية وهذا ما يسهل على السائح معرفة أشهر المأكولات الشعبية في زيارته لهذه المدن، كالفتات الشامية والفلافل الشامية والقطايف الشامية والكبب الحلبية والكباب الحلبي. وكذلك تشتهر حلب بالحلويات الحلبية, المعروفة عالميا بطريقة صنعها الفريدة, وأشكالها المتميزة, وحشواتها الغنية, وطعمها الطيب, ونكهتها الزكية, فهي مزيج من ماء الورد وماء الزهر وقطر السكر والسمن الحموي والمستكة.
استدراك الأحكام المسبقة
في طريق العودة، كنت أفكر في أحكامي المسبقة، في هذه الآفة اللبنانية التي تحكم علاقاتنا، فنحكم على بعضنا انطلاقاً من انتمائنا الطائفي والعائلي والمناطقي، ونحكم على الآخرين تبعاً لعينات صغيرة. كنت أحاول حفظ الصور، صور مشاهد كثيرة ما كنت أعتقد أبداً أنها موجودة بالقرب مني. كنت افكر بجمال المدن السورية، والأسواق المفتوحة أمام الفقراء، وأتخيل القوى الأمنية وهي تمنع بائعي اليانصيب من الدخول إلى الأسواق التجارية في لبنان كما تمنع بائعي الترمس والعرانيس.
أسترجع صور المدن والقرى السورية ذات الطابع الأثري، وأفكر بما اقترفت الأيدي في بيروت ولبنان. أسترجع صدى فيروز والرحابنة ووديع الصافي، وأفكر في مرحلة جميلة مرّ بها لبنان مرور الكرام. أسترجع صورة الشعب الطيب والمضياف والمحب للبنانيين، وأفكر في صفات اللبنانيين في علاقاتهم مع بعضهم. تسجل زيارة سورية، تدني الأسعار، وجمال المدن ومحافظتها على المظاهر القديمة، ليس في العمران فحسب، بل في العلاقات بين الأفراد ايضاً.
هكذا تكون العلمانية وعقبالكن
بدت حمص صغيرة مقارنة مع ما كنت أتخيله. وبدا الداخل المديني الحمصي أشبه ما يكون بالقرية، حيث يعرف الجميع بعضهم. قبل أن يزداد غرامي بحمص قررت الإنتقال إلى المحافظة الأخرى والإستفادة من الوقت الضيق بأكبر قدر ممكن.
الملفت أن الإنتقال من محافظة إلى أخرى في سورية يحتاج إلى ساعتين على الأقل. وكلما ابتعد الباص عن حمص باتجاه أدلب إزدادت مفاجأتي بالطبيعة الخضراء، وبالسدود والبحيرات، حيث بدا واضحاً كيف يستفيد السوريون من مياههم. أما المجتمع الأدلبي فبدا زراعياً بامتياز.
وفي قنايا القرية التي نزلت فيها، وهي مطلة على الحدود التركية، يعيش المسيحيون اللاتين والعلويون سوياً. بدا الأهالي منسجمين ولا يتمتمون على بعضهم كما يحصل في معظم الأحياء القليلة المختلطة في لبنان. وفي صالون دير اللاتين في قنايا، الملفت هو وجود صورة الرئيس السوري بشار الأسد فوق صورة البابا وصورة المطران. وقبل أن أعلق، سارع الأب المرافق ليقول هكذا تكون العلمانية، عاقبالكن .
السوريون الذين قابلتهم وتحدثنا قليلاً، بدوا عاشقين لدولتهم مقتنعين برئيسهم ومؤمنين بمستقبل أفضل ينتظرهم. ورغم محاولاتي لاستنطاقهم تذمراً أو شيئاً مما يقوله معظم اللبنانيين عن حكامهم، فقد كانوا جميعاً مصرين على قناعتهم بما لديهم.
غسان سعود - صدى البلد