آخر الأخبار

نقاش مع أستاذ بعثي

لقد التقيت في بيروت، خلال شهر نيسان/ ابريل 1963، باستاذ من زعماء حزب البعث العربي الإشتراكي في سوريا فرأيت أن أصارحه بما صرت أعتقده في الحزب ، فقلت له :

- إن الحزب قد خرج عن كونه حزباً عقائدياً ، يتمسك بالمبادىء، وينشر الايمان بوحدة الأمة العربية، وتحول إلى حزب سياسي عادي، يسعى إلى الحكم، ويضحي بمبادئه في سبيل الحكم.

وتوضيحاً لقولي هذا، أشرت إلى البيان الذي كانت أصدرته القيادة القومية للحزب ، ودعت فيه إلى تكوين وحدة إتحادية تستند إلى واقع الفوارق الإقليمية ، حتى انها ضمنته أحكاماً تؤدي إلى تزييد الفوارق الإقليمية وتعميقها. وذلك في حين أن الحزب كان قام على أساس مكافحة تلك الفوارق، والسعي وراء إزالتها.. وفي هذا ما فيه من تنكر صريح لمبادىء الحزب الأساسية.

ولكن الاستاذ البعثي أراد أن يدفع هذه التهمة عن الحزب قائلاً :

- انهم فعلوا ذلك لكي يدخلوا العراق في الوحدة، فتكون الوحدة ثلاثية، لا ثنائية . وطبيعي ان هذا يعني توسيع نطاق الوحدة.

غير اني أجبته : هذا التأويل لا يتحمل- مع الأسف- البحث والتحليل، لأن :

أولاً : ان مشروع الوحدة الإتحادية التي أشرت إليها منشور في بيان صدر في أواسط شهر أيار من سنة 1962 يعني قبل ثورة العراق، بمدة تناهز الثمانية أشهر.

ثانياً : المشروع المذكور يتكلم عدة مرات عن الاتحاد بين إقليمي مصر وسوريا، ولا يذكر العراق، ولا يشير إلى الوحدة الثلاثية.

فلا مجال منطقي لتعليل التحول المذكور بثورة العراق.

وأرى انه يجدر بزعماء حزب البعث، أن يكونوا صريحين، فيقولوا: لقد أخطأنا عندما أهملنا واقع الفوارق الإقليمية . والآن غيرنا خطتنا. غير انه لا يجوز لهم أن يقولوا: نحن على خطتنا الأصلية سائرون.

ثم نقلت البحث إلى ناحية أخرى، فقلت: إن مخالفة الحزب لمبادئه الأصلية لا تنحصر بما صار يقوله عن واقع الفوارق الإقليمية ، بل تتعدى ذلك إلى موقفه من مبدأ الحرية أيضاً .

انه- عندما تولى الحكم في سوريا- ترك هذا المبدأ جانباً، واسترسل في إغلاق الجرائد، وتعطيل المدارس، وفرض منع التجول في طول البلاد وعرضها.. وكان، من أول أعمال الحكومة البعثية: منع القواد السوريين- الذين كانوا يعيشون في القاهرة منذ بداية الإنفصال- من دخول البلاد، وإعادتهم إلى حيث كانوا. وغني عن البيان أن هذا العمل يخالف أوليات حقوق الانسان، وينافي مبدأ الحرية تمام المنافاة...

ولكن الأستاذ البعثي، أراد أن يدافع عن العمل الأخير، فقال:

- لماذا طاروا إلى دمشق، قبل أن يستأذنوا الحكومة؟ ان العراقيين الذين كانوا في القاهرة، لم يعودوا إلى بغداد إلا بعد صدور الأذن لعودتهم من حكومة الثورة العراقية. كان على القواد السوريين، ان يقتدوا بهؤلاء، فيستأذنوا الحكومة السورية، قبل أن يركبوا الطيارة.

وقد ظهر لي من كلام الأستاذ هذا انه يستند إلى معلومات ناقصة في هذه القضايا، فقلت له:

- إن العراقيين الذين انتظروا قرار الحكومة العراقية قبل ان يطيروا إلى بغداد، كانوا ممن سبق وصدرت عليهم أحكام بالاعدام . فكان من الطبيعي أن لا يعودوا إلى العراق قبل أن تصدر حكومة الثورة قراراً بإبطال تلك الأحكام.

والدليل على ذلك : كان في القاهرة عراقيون لاجئون، غير محكومين ولا مطلوبين للمحاكمة، إن هؤلاء رجعوا إلى العراق منذ الأيام الأولى للثورة، إنهم طاروا، دون أن ينتظروا صدور قرار أو اذن من الحكومة العراقية.

أما القواد السوريون الذين أرجعتهم الحكومة السورية فما كانوا محكومين، ولا مطلوبين للمحاكمة، فما كان أي موجب لينتظروا صدور قرار أو اذن بشأنهم.

إن حق كل فرد في أن يعيش في بلاده، يعتبر من أعرق حقوق الانسان، وأهم مستلزمات الحرية.

ولذلك قلت: إن هذا العمل ما كان يليق بحكومة تولت الحكم عقب ثورة قامت لغسل عار الانفصال كما يقولون. انه عمل يشبه إدامة الانفصال ، وينم عن روح حزبية ذميمة، فضلاً عن انه يخالف مبدأ الحرية مخالفة صارخة، ذلك المبدأ الذي كان الحزب لا ينقطع عن اعلانه كل يوم وفي كل مناسبة.

ولكن الأستاذ البعثي، عندما شعر بقوة انتقاداتي هذه، أراد أن يدافع عن عمل الحزب المذكور، بحجة أخرى، فقال:

- ولكن هؤلاء كانوا من عوامل الخطأ والانحراف في عهد الوحدة...

وأجبته: إذا كان لدى الحكومة ما يبرر الحكم عليهم، فإنه كان يجب عليها أن تعتقلهم وتحاكمهم، لا أن تمنعهم من الدخول إلى بلادهم وتعيدهم إلى القاهرة، ليواصلوا العيش هناك كلاجئين سياسيين، كما كانوا يعيشون في عهد الإنفصال.

ولكنه كرر قوله بصيغة التأكيد: تأكد يا أستاذ، انهم كانوا أهم أسباب الإنحراف في عهد الوحدة. إنهم مسؤولون عن كل ما حدث.

قلت: أنا أتكلم عن المبادىء. ولا أعرف إذا كانوا مسؤولين أم لا. ولكني أقول مرة أخرى : إذا كانت الحكومة تعتقد بأنهم مسؤولون، فقد كان يجب عليها أن تعتقلهم وتعاقبهم ، بعد محاكمتهم .

هذا، والشيء الذي أعرفه حق المعرفة- ولا بد من انك تعرفه حق المعرفة- ان هؤلاء لم يشتركوا- على أي حال- في جريمة تأييد الانفصال . ولذلك أستغرب كل الاستغراب، بل استهجن كل الاستهجان، منعهم من دخول البلاد، من قبل حكومة يرأسها من كان اشترك في جريمة تأييد الانفصال ، وتولى الحكم إثر ثورة قامت لغسل جريمة الانفصال .

بعد هذا النقاش الذي جرى حول قضية منع القواد السوريين من دخول البلاد، نقلت الحديث إلى قضية الصحافة وسألته:

- وما قولك في تعطيل الجرائد، وإلغاء إمتيازاتها، وعدم الترخيص بالصدور لغير جريدتين بعثيتين؟ إن حرية الصحافة من أهم مظاهر حرية الرأي. فهل يتفق هذا العمل مع مبدأ الحرية الذي ينادي به حزب البعث؟

قال: وهل يجوز أن تترك الصحافة حرة، دون أي قيد؟

قلت: طبيعي، ان حرية الصحافة يجب أن تقيد ببعض القيود، مثل كل أنواع الحرية. ولكن هذه القيود لا يجوز أن تعمل إلى حد حصر حق إصدار الصحف بحزب البعث وحده . إن الحزب كان يقول قبلاً لا حرية لأعداء العروبة وكان يجد لقوله هذا مؤيدين، بطبيعة الحال. ولكنه الآن صار يعمل ولسان حاله يقول: لا حرية في ميدان الصحافة لغير البعثيين . وفي هذا ما فيه من خروج صريح وتام على مبدأ الحرية بوجه عام، وحرية الصحافة بوجه خاص.

ولكن الاستاذ البعثي رد على قولي هذا، بنظرية أخرى، فقال:

- إن حزب البعث ظل يعمل ويناضل في سبيل العروبة منذ عشرين عاماً . واكتسب خبرة طويلة في هذا المضمار، فيحق له- بل يجب عليه- أن يوالي قيادة الرأي العام، لكي لا يترك مجالاً لتضليله.

قلت: إني أرى في هذا القول دليلا على غرور حزبي خطير. أنا لا أريد الآن أن أدخل في بحث حول خدمات الحزب السابقة، ولا في نوع الخبرة التي إكتسبها، لأني أرى أن ما يهم الآن هو ما يفعله الحزب الآن، وما سيفعله في مستقبل الأيام. إن الخدمات السابقة مهما تكن عظيمة، لا تستطيع أن تضمن للحزب عدم الإنحراف عن الطريق السوي ، ولا أن تحول دون إنحداره إلى وديان التردي والإنحطاط.

إن روح الحزبية الضيقة، من أخطر الآفات التي تتعرض إليها الجماعات. إنها تعمي الأبصار، وتحول دون رؤية الحقائق وتفسح مجالاً واسعا إلى الضلال. فعلى الأحزاب بوجه عام، وعلى الأحزاب التي تنزع إلى العقائدية بوجه خاص، ان تتجنب اغواءات الغرور، ومنزلقات الأنانية، وتكف عن النظر إلى أعمالها بنظارات وردية، وإلى أعمال غيرها بنظارات قاتمة سوداء. ومع الأسف، هذا ما يفعله الآن، قادة حزب البعث الذين تولوا الحكم في سوريا. إنهم يعملون بروح الحزبية العمياء، مستسلمين لدواعي الأنانية الحزبية.

ولكنه قال: إن الحزب بريء من كل ما تقول. انه لا ينقطع عن العمل بعقلية واعية ، وعيون يقظة، وفق مخططات مدروسة دراسة موضوعية. ومن أوضح الادلة على ذلك، انه استنكر خطط أكرم الحوراني وفصله.

وقلت له عندئذ: على ذكر قصة أكرم الحوراني، أعتقد أنه يجدر بكم أن تكونوا أكثر تبصراً في الأمور. إنكم تقولون عنه الآن، انه إنتهازي إقليمي، مناور، خائن. فهل تستطيعون أن تؤكدوا أنه لم يبق في الحزب من يشبهه من هذه الوجوه؟ ثم، هل يمكنكم أن تدعوا دون أن تخرجوا عن جادة المنطق والصواب- إن إنتهازات أكرم الحوراني وإقليميته لم تلعب دوراً هداماً خلال عهد الوحدة؟ وذلك في غفلة من سائر أركان الحزب، على أحسن الفروض؟

ولكن الاستاذ البعثي رد علي بسرعة وثورة، قائلاً :

- لا.. لا.. إنهم لم يكونوا غافلين.. إنه كان معروفاً لديهم بتلك الصفات، إنهم كانوا يعرفونه...

إن قوله هذا، أدهشني تماماً، فقلت له مندهشاً :

- تقول انهم كانوا يعرفونه! إذا صح ما تقول، وجب أن نحكم بأنهم كانوا أكثر من غافلين: كانوا مذنبين!

لو قلت لي أن أكرم الحوراني ما كان متصفاً بتلك الصفات قبلاً ، ولكنه تردى أخيراً ... أو قلت لي : انهم انخدعوا بمظاهره، فلم يكتشفوا حقيقته إلا أخيراً ... لو قلت أحد هذين القولين، لكنت قدمت لهم بعض الأعذار، وبعض الأعذار المخففة. ولكنك عندما تصرح بأنه كان معروفاً من قبل، وإنهم كانوا يعرفونه من قبل... تفتح باباً للتساؤل: لماذا إذن ظلوا يشتركون معه مدة لا تقل عن عشرة أعوام؟ يدخلون الوزارات بالاتفاق معه ويواصلون العمل معه، ويستقيلون معه، ويوقعون على وثيقة الانفصال معه؟ يفعلون كل ذلك، مع علمهم بأنه انتهازي، إقليمي، مناور! هل كانوا يريدون أن يستفيدوا من مناوراته ومداوراته؟ أم كانوا يقابلون مناوراته بمناورات أخرى، تضمن لهم منافعها، وتبعد عنهم شررها؟ هذا، إذا كان ما قلته الآن موافقاً للواقع. وأعترف بأن ذلك أدهشني تماماً . أدهشني إلى حد جعلني أشك في صحة ما تقول.

ولكن الأستاذ البعثي أكد صحة ما قاله في هذا المضمار، وأضاف إليه أمراً آخراً ، فقال :

نعم، أنا متأكد من انهم كانوا يعرفونه حتى انهم اطلعوا جمال عبد الناصر على ذلك.

وقوله هذا زادني استغراباً للأمر:

- تقول انهم اخبروا جمال عبد الناصر.. ذلك يعني : انهم قالوا له ان أكرم الحوراني انتهازي مداور، في الوقت الذي كانوا يعملون معه. وكانوا يظهرونه بمظهر الرئيس الرسمي للحزب! إذن جمال عبد الناصر كان محقاً تماماً ، عندما قال- بحيرة وألم- إن كل واحد منهم كان يتكلم على الآخر، ويطعن بالآخر.

ولكن الأستاذ البعثي واصل حديثه الدفاعي، وقال:

- نعم، انهم أخبروا جمال عبد الناصر. ولكن جمال عبد الناصر عندما عرف ذلك، صار يقرب جماعة أكرم الحوراني...

وسألته على الفور: من هم الأشخاص الذين قربهم جمال عبد الناصر، بسبب إنتسابهم إلى أكرم الحوراني. وبعدما عرف أن المومى إليه انتهازي مداور؟

أجاب الاستاذ عن سؤالي، بكل اطمئنان:

- هؤلاء القواد.. الذين أردت أنت، يا أستاذ، أن تدافع عنهم في بداية حديثنا هذا..

وأنا قلت عندئذ: من؟ القواد، أكرم ديري ورفاقه؟ تقول انهم من جماعة أكرم الحوراني! هؤلاء القواد الذين عارضوا حركة الانفصال من يومها الأول... وعاشوا في القاهرة كلاجئين سياسيين طول أيام الانفصال.. أكرم ديري ورفاقه، الذين وقفوا في مؤتمر شتورا، وفضحوا مزاعم خليل الكلاس وزملائه الذين كانوا يأتمرون بأوامر الحكومة الانفصالية! انك تدعي بأن هؤلاء كانوا من اتباع أكرم الحوراني؟!

وختمت حديثي قائلا: أنا كنت أعرف، وكنت أقول دائماً : ان الحزبية العمياء تحول دون رؤية الحقائق، ولذلك تشوش الأفكار وتضلل الأذهان:

واليوم وجدت نفسي أمام أمثلة جديدة، تبرهن على صحة ذلك برهنة قاطعة.