يبقى اختراع الأبجدية الحدث الأبرز والاهم في تاريخ البشرية، تلك الأبجدية الأولى في التاريخ اكتشفت على رقيم صغير في منطقة رأس شمرا التي تقع شمال اللاذقية حيث تربعت على تلك التلة حضارة عريقة وعظيمة في مملكة ذاع سيطها في كل أرجاء المعمورة ووصلت علاقتها التجارية إلى كل انحاء العالم القديم، إنها مملكة أوغاريت، وبمناسبة مرور 75 عاما على اكتشافها ألقى الفنان التشكيلي محمد حمدان مؤخرا محاضرة تحت عنوان «الفن التشكيلي الأوغاريتي» في مقر جمعية العاديات في جبلة.
اكتشاف اوغاريت
واستهل المحاضر كلامه باكتشاف أوغاريت والتي بقيت حتى عام 1929 مخبأة في غبار التاريخ ودمار الجغرافيا لا يعرف أحد عنها غير صدى اسمها في وثائق الحفريات في مصر وشمال سورية قبل العثور عليها بكثير، حتى حالفها الحظ مصادفة باصطدام محراث أحد الفلاحين بحجر ضخم في تل رأس شمرا عام 1928 ليبدأ التنقيب عنها فيما بعد في عام 1929، والتي اتضحت بكل بهائها الزمني أمام أعيننا أنشودة بصرية موغلة في قدم الذاكرة الانسانية التي لا تمحو الحضارة أبدا، ومنذ لحظة الولادة الثانية تلك أصبحنا ممسوسين بما غناه الأوغاريتيون في طقوسهم البعلية وما كتبوه فوق رقيماتهم المشوية بنار الحكمة وفلسفة الحياة وما رسموه ونقشوه على جرار صباياهم وأمداء آلهتهم المباركة.
الفن
وفي شرحه عن الفن الأوغاريتي قال: إن ذلك الفن كان طقسيا مثل جميع أشكال الفنون في تلك المرحلة من مراحل تطورالرؤية البشرية وكما تتشابه المفردة اللغة فقد تشابهت السمات التشكيلية من حيث ما يرمز إليه الشكل ويعبر عنه، هذا الفن يتمتع بخصوصيته الواضحة في قسمات أعماله التي وصلتنا حيث كان أكثر واقعية في طرحه للشكل وربما أكثر تفكيرا إذ قدم صور آلهته على نسخ شكله في ملامحها وهذه فلسفة بصرية متفوقة للشعوب التي كانت طقوسها الدينية طقوسا أرضية مرئية لا غيبية.
وحين نتحدث عن التماثيل الصغيرة والنحت النافر والرسوم على الصحون والفخاريات والأختام الاسطوانية نجد التأثير الشديد لفنون مصر وإيجه وبلا د الرافدين حتى النقل الحرفي لكثير من الأشكال أي المفردات التشكيلية مثل شجرة الحياة أوالتيس.
ويقول شيفمان: لقد كان الفن التعبيري الأوغاريتي مثله في ذلك مثل الابداع الروائي الشعري فناً غلب عليه الطابع الديني.
ولقد قدم الأوغاريتي تقنية النحت، فقد نحت التمثال كاملا لا عيب فيه، مسيطراً على الفراغ والكتلة بشكل هندسي محسوب بدقة مثل التمثال المطلي بالذهب للإله «إيل» وقدم أيضا تقنية النحت النافر «الروليف» بجماليةمشهدية تنم عن تقنية ماهرة، حيث يظهر الإله بعل محاربا على أحد الأحجار الرملية.
ويضيف حمدان: تقول الملحمة الأوغاريتية:
هو صهر الفضة
وسيّح الذهب،
صهر الفضة آلافاً
وصهر الذهب آلافا مؤلفة.
هذا النشيد يفصح كيف بنى الإله الحرف «كوثر» بيتا للإله «إيل».
لقد اتقن الفنان الأوغاريتي الزخرفة بكل تحولاتها وابدع في ذلك أيضافرسم الحيوانات والطيور، وإلى جانب الكائنات الخرافية رسم الأسود والوعول والثيران ومشاهد الصيد، ونستطيع الاستنتاج هنا بأن هذه المواضيع أخرجت العمل الفني من الذهنية التعبيرية إلى الواقعية المنتهية إلى الخيال الشرعي الخصب.
فن العمارة
ويشير حمدان حول مسألة الاهتمام بفن ا لعمارة: إن المعماري الأوغاريتي قد حقق تحفة فنية في بناء المسكن وتنظيم المدينة ويشهد على ذلك تنظيم الشوارع والصرف الصحي وتمديدات قنوات المياه أيضا القصر الملكي الموجود حتى اليوم في مقدمة التلة التي تتربع فوقها آثار أهم حضارة أنتجها شاطىء المتوسط الراقص على أنغام التحولات.
أما الأزياء الأوغاريتية كانت متنوعةو غنية بتشكيلاتها وحسب الرسوم المكتشفة كان لباس الأوغاريتي يتألف من قميص طويل مع زخرفة على أطرافه وحزام في الوسط.
الختم الاسطواني
ويبقى أن نتوقف عند تحفة فنية هامة عرفها الزمان التشكيلي وهي الختم الاسطواني حيث لم تقدم اية حضارة في التاريخ أثرا فنياً يشبه هذه القطعة الثمينة، والتي كانت واحدة من انجازات الفنان في بلاد سورية القديمة والتي انتقلت فيمابعد إلى التداول الحضاري حتى يومنا هذا، وكان شكل الختم قطعة اسطوانية مثقوبة بشكل طولاني في وسطها، تترواح أطوالها بين خمسة وعشرة سنتيمترات وقطرها حسب الموضوع المراد نقشه ويعادل نصف الطول تقريباو كانت الأختام تصنع من مواد مختلفة حيث استخدم الحجر الكلسي الهش ومايشبهه، ثم نقش الموضوع نافرا أو غائرا يظهر حين تسحب الاسطوانة على سطح طري،وبعد زيادة تقنية الصنع تم استخدام المواد القاسية مثل حجر الهيماتيت، و يعتقد الباحثون ان الخشب كان من المواد المستخدمة غير أنه لم يستطع مقاومة التلف مثل الحجارة و المعجونة الزجاجية، ولقد عكست مواضيع الاختام روح ذلك العصر الذ ي جاءت منه. وكما يؤكد الدارسون لحضارة سورية القديمة أن المنطقة كانت ممرا دائما للطرق التجارية في أزمان العالم القديم من كل أرجاء العالم القديم لذلك ستكون آثارها الغنية بالضرورة غنية ومتنوعة، ولكن في الغالب كانت مواضيع الاختام دينية طقسية كأن يسجل حالة إيفاء النذر أو القيام بطقس لأجل إله أو نيابة عنه، فممارسة الصيد والحرب كانت تجري على شرف الإله الشخصي أوالمحلي لصاحب الختم أو نيابة عن ذلك الإله، وهنا تألقت تقنية الفنان الأوغاريتي على عكس غيره من الفنانين في آشور وسومر، حيث قام بتشكيل آلهته على شكله وبالتالي نجد همومه ومسائله وقضاياه بكل طقوسها ونذورها تحيط بهذا الإله وتحمله مسؤولية كل ما يحصل ولا بد من الاشارة إلى أن فن صناعة الأختام الاسطوانية هو المدخل الأساسي لدراسة الفن التشكيلي في أوغاريت أكثر من أي منطقة أخرى في بلاد الرافدين وذلك لأن الاوغاريتيين كانوا بحاجة تجارية لهذا الفن والذي لا يزال معمولا به في كل انحاء العالم والذي يشابه في وقتنا الحالي العلامة التجارية المسجلة .Trad mark
فن النحت
أما فيما يخص فن النحت يقول المحاضر: إن تماثيل «الالهة الأم» المكتشفة في شتى مواقع التنقيب في سورية تحتوي على الكثير من المبالغة من حيث الدلالة على مراكز الخصوبة في الجسد الأنثوي الذي تم استيحاؤه من الأنثى الكائنة وتم تحويله فيمابعد إلى مفردة ذهنية امتدت إلى ما وراء الرؤية وأدت ترجمة الفكرة إلى شكل والتأكيد على أهمية رمز ما واهمال بقية الجسد إلى تشابه أولي في جميع تماثيل الآلهة حيث أضحى مثلث الخصب الواضح التكوين يعني «الآلهة الأم» التي أسست للكثير من المعاني في ثقافات الشرق القديم.
وربما كانت ترجمة الأفكار إلى رموز تشكيلية بصرية هو أول تأليف فلسفي مرئي اخترعه الانسان قبل اختراع أي لغة، ما جعل التعامل الطقسي للفن أكثر واقعية وأكثر خصوبة، وهكذا كانت مهمة الفن أساسية في تقديم شكل الإله وفيما بعد تبدأ محاورته وتقديم طقوس ما هو مأمول منه.
ولم تقتصر المبالغة في تعظيم الأنوثة بمفاهيم الخصب، بل جاءت المبالغة أيضا في تعظيم الذكورة، حيث حمل المشهد البصري للإله فيما بعد مفاهيم مناسبة وتم إضافة مايلزم من مفردات تشكيلية حول شكل الإله للتعبير بقوة أكثر ومنحت أبعادا رمزية للعمل الفني الذ يمنح بدوره طقوس التعبد الديني جواً شديد الخلط بين ما هو واقعي وما يكون خارج الواقع في لعبة الحلم لفنان تلك المرحلة من مراحل تطور العقل الفني البشري.
وبما أن الأعمال دائما مسبوقة بأفكار غايتها اكمال الطقس الديني فقد جاءت معظم هذه الأعمال رسمية الحركات والأشكال مهمتها الاعلان عن مناسبة ما، وضمن هذا المفهوم كان الفنان يستعير شكلا أو رمزا جاهزا تم الاتفاق على مفهوم واحد له، وهذا ما نراه بوضوح في ملامح النحت للإله «بعل» وهو من الحجر الكلسي ارتفاعه 142 سم اكتشف في أوغاريت وهو معروض في متحف اللوفر، ويمثل النحت رجلا قصير القامة يحمل بيده اليمنى دبوسا، وهو على استعداد دائم للقتال وبيده اليسرى رمحا ينتهي بشجرة الحياة، ونجد حجم الرأس ضخماً قياسا بكامل الجسم ويعتمر خوذة بقرنين دلالة القوة والألوهية، وله ولحية وشعر طويل ربما دلالة على الحكمة ويلبس الإله مئزرا فقط، وعلى خصره خنجر مبالغ في حجمه وربما كانت التموجات تحت قدميه جبلا أو بحرا في إشارة واضحة على أنه حاكم الطبيعة.