إن نظام الأسد، الذي ورغم تفشي الفساد فيه ما يزال متيناً وصلباً، يتمايل اليوم بين مسارين متناقضين ليحافظ على بقائه. أحدهما يكمن في مد يد الصداقة مع تركيا، الغرب، الاتحاد الأوربي، بل وحتى للأمريكيين ولحكومة الأعداء في ديارهم.
هناك أمثلة حديثة تدل على هذه التكتيكات الملطفة مثل إطلاق سراح خمسة من قادة المعارضة والاستمرار في ضبط الحدود السورية العراقية لمنع تسلل الجهاديين إلى العراق، والتشديد في التدقيق على الشباب العرب الوافدين إلى مطار دمشق للغرض ذاته.
أما الأخر فيقع في الاتجاه المعاكس تماماً وهو يتلخص في التلويح بقبضة بعثية غاضبة متحدية لمعظم العالم وتعميق علاقات الصداقة السورية مع إيران ورئيسها الجديد، محمد أحمدي نجاد، الذي لقي ترحيباً حاراً من الرئيس بشار الأسد الشهر الماضي في دمشق، وفي الأثناء على حركات المقاومة الفلسطينية بما فيها جماعة الجهاد الإسلامي الأكثر عنفاً والتي ما تزال تلقى حفاوة في العاصمة السورية، وفي ترويج قضية حزب الله، تلك الحركة الشيعية التي تكن عداءً شديداً لإسرائيل، وتوجيه الازدراء للجنة تحقيقات الأمم المتحدة التي وجهت اتهاماً لسوريا بقضية اغتيال رفيق الحريري، وإظهار سوريا على أنها المعقل الأخير للقومية العربية في وجه مؤامرات وطغيان الغرب الشرير الذي تقوده الصهيونية.
خلال الأسابيع القليلة الماضية كان هذا المسار الدموي واضحاً. إذاً أنه من المستبعد أن يحرق محتجون على رسوم كارتونية سخرت من الرسول محمد السفارتين الدانمركية والنرويجية دون موافقة السلطات السورية.
السيد الأسد عانق بزهو الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في وقت تواجه في إيران ضغوطات صارمة من الغرب لإيقاف العمل في برنامجها النووي.
و كلمته مؤتمر المحامين العرب الذي انعقد في سوريا وجه الأسد تعنيفا للغرب على خطايا عديدة، بينما كان الجمهور يصفق ويهتف الموت لأمريكا وبعض الهتافات امتدحت صدام حسين.
كما أن الأسد وفي ملاحظاته التي تعبر عن الامتعاض بشأن لبنان ما يزال ينفر من التطرق إلى مسالة انسحاب قواته الذليل منها.
وهو يظهر عدم رغبة في الإشارة إلى توجيه تهم إلى بعض أفراد عائلته المقربين، ناهيك عن طلب تقديمهم للمحاكمة، اللذين أشارت لجنة تحقيقات الأمم المتحدة بوضوح إليهما كمشتبه بهم في قضية اغتيال الحريري.
من الواضح جداً أن الأسد يقبع ضمن قيد وهو لا يعرف كيف يتملص منه. بعض السوريون الذين يتمتعون بفكر إصلاحي يعتقدون بان الأسد يمكنه مساعدة نفسه إذا قام بحل النظام وفاز بتأييد الشعب مع فرصة للمناورة.
إن الآمال التي كانت تتطلع إلى احتمال نهجه لهذا المسار بزغت في حركة ربيع دمشق بعد موت أبيه عام 2000 واستمرت حتى خريف 2001 عندما قام بإخمادها ثانية.
وفي الصيف الماضي وتحديداً لدى انعقاد مؤتمر حزب البعث استمرت الحوارات المليئة بالأمل برسم الاحتمالات: ربما يقوم بفتح أبواب سوريا على نظام تعدد الأحزاب، ربما يقوم بإلغاء قانون الطوارئ، المعمول به منذ عقود عدة، أو حتى إيقاف المحاكم العسكرية، أو تعديل المادة الثامنة من الدستور والقاضية بأن حزب البعث العربي الاشتراكي يجب أن يكون هو الحزب القائد للأمة .
في الحقيقة لم يحدث أي شيء جوهري، ولكن تم تنحية بعضاً من عناصر الحرس القديم، وحلحلة الاقتصاد نوعاً ما، والمنشقين أصبحوا بشكل واضح أقل خوفاً.
ولكن الأسد في كلماته التي ألقاها في تشرين الثاني وفي الشهر الماضي أطاح بوضوح بتلك الآمال المتفائلة بقيامه بخطوات جريئة نحو تحقيق تحرير عام.فقد أصبحت لهجته مؤخراً أكثر حدة ومواجهة.
إن هذا يتعلق إلى حد ما بلبنان.
فقد كان اغتيال الحريري العام الماضي خطأً فادحاً، أدى إلى اندلاع ثورة في شوارع بيروت، انتهت بانسحاب للقوات السورية النظامية من لبنان بشكل كامل. إضافة إلى أن تقريري الأمم المتحدة التي تقدم بهما المحقق الألماني ديتليف ميليس كانا اتهاماً جلياً للنظام السوري وللمخادعة الدنيئة.
حوادث أخرى أضعفت من موقف الأسد مثل إقدام وزير داخليته غازي كنعان، الذي كان يدير لبنان على مدى 20 عاماً كمستشار لسوريا هناك، على الانتحار ضمن ظروف غامضة، الأمر الذي أثار حفيظة الأقلية العلوية (التي تشكل 10 % من التعداد السكاني)، التي تعتلي عرش السلطة منذ استلام الأسد الأب للحكم اثر انقلاب عسكري منذ 36 عاماً.
وبعد ذلك قام عبد الحليم خدام، الذي ينتمي إلى الطائفة السنية، وكان يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية لمدة 21 عاماً والذي تم عزله الصيف الماضي، بصب جام غضبه على الأسد من منفاه في باريس متهماً إياه بالتورط في اغتيال الحريري ومتوعداً بتشكيل حكومة مناهضة.
وقد رفض أعداء النظام السوري قبول خدام في معسكرهم، ولكنهم من جهة أخرى فرحوا لقيامه بنشر الغسيل القذر للنظام على الملأ.
وأخذ خطاب النظام في مواجهة مثل هذه المواقف المحرجة يصبح أكثر غرابة. إن سوريا ضحية لمؤامرة غربية صهيونية. حيث أخذ الوزراء السوريون يتهمون إسرائيل باغتيال الحريري وبسلسلة الاغتيالات اللاحقة لشخصيات لبنانية معادية لسوريا، منذ انسحاب القوات السورية العام الماضي. وتتساءل بثينة شعبان، وهي وزيرة سورية من المستفيد من ذلك سوى إسرائيل .
وفي مقال نشر لشعبان هذا الأسبوع كتبت معلقة على الزيارة الأخيرة للمستشارة الألمانية إلى إسرائيل، قائلة أن ألمانيا مستعدة لفعل أي شيء كي تكفر عن ذنبها، حتى لو تطلب الأمر منها تمويل محرقة ثانية ولكن ضد الشعب الفلسطيني .
وعادة ما تتهم الصحافة السورية التابعة للحكومة الغرب بشن حرب على العرب والمسلمين وعلى سوريا على أنها الضحية الأساسية.
الجميع يعادينا
قد تكون هذه المقولة صحيحة إلى حد ما. فالسوريون يشعرون بأنهم معزولين على نحو ظالم، ويشعرون بالمرارة لفقدانهم لبنان، ويظنون أن اللبنانيون ناكرون للمعروف. والكثير منهم على قناعة بأنه حتى الأمم المتحدة، ومن خلال تقرير ميليس تسعى للنيل منهم. ويعتقدون أن أمريكا تريد معاقبتهم مهما فعلوا.
وأن السيد الأسد لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة رغم أنه من الصعب أن تحكم في ظل غياب السياسة الانفتاحية. إن هناك عدداً من الأمور التي تغذي الشعور المتزايد بالاستياء، خاصة من النخبة الفاسدة في سوريا والتي يشار إليها بـ المافيا التي تتغذى كالطفيليات على وجود نظام الأسد. وهذه الأمور هي: الركود الاقتصادي، نسبة البطالة المرتفعة، تكاليف السكن الباهظة، انعدام الحريات الشخصية وحرية الصحافة، وأخيراً إدراك حقيقة أن النفط سينضب خلال ثمانية أو عشرة أعوام.
إن المعارضة ضعيفة ومنقسمة على نفسها، ولكنها أخذت تتشجع مؤخراً خاصة منذ إطلاق سراح خمس شخصيات معارضة الشهر الماضي، كانوا قد سجنوا عندما تحول ربيع دمشق إلى شتاء في عام 2001.
إن الضوء الذي ينير الطريق هو رياض سيف، رجل أعمال سني وعضو برلمان سابق، كان قد وقع وهو في السجن على إعلان دمشق، وهو مخطط للإصلاح وتحقيق الحرية تم إصداره في تشرين الأول الماضي. ولو أفسح المجال أمام السيد سيف، وهو أمر غير متوقع على المدى القريب، فإنه سيكسب أتباعاً كثر بسرعة كبيرة.
أما الشخصية الأساسية الأخرى فهي صدر الدين البيانوني، المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا، والذي يعيش في المنفى منذ عام 1981، وقد أظهر علناً تأييده لإعلان دمشق.
لا تزال منظمة الإخوان المسلمين تشكل دون أدنى شك، المعارضة الأقوى رغم أن الأسد الأب قمعها بشدة في أوائل الثمانينات ولا تزال عقوبة الانتساب إليها هي الموت.
إن التغيير الكبير المحتمل حدوثه في المعارضة يتمثل في أن الإسلاميين والعلمانيين الآن يبدون الرغبة في إنشاء جبهة معارضة موحدة.
فالسيد البيانوني على سبيل المثال يصر على أن الإخوان المسلمين لا يريدون إقامة دولة دينية أو أن يفرضوا قانون الشريعة الإسلامية والسيد سيف من جهته يخرج عن عادته ويتكلم باحترام عن الإخوان المسلمين.
واشنطن السامة
استبعد اجتماع المعارضة السورية الذي أقيم أواخر الشهر الماضي في واشنطن فريد الغادري، مؤسس حزب الإصلاح السوري عام 2001 ، وذلك على خلفية قربه الشديد من المحافظين الجدد في واشنطن.
وبالفعل فقد أطلق على الغادري اسم ( الشلبي السوري) على اسم الرجل العراقي عند المحافظين الجدد والذي حصل على أقل من 1% من الأصوات في الانتخابات العراقية في كانون الأول.
ومثل الشلبي فقد أمضى السيد الغادري البالغ من العمر 51 عاماً، معظم حياته في المنفى. ويشدد كل معارضي الأسد ودعاة حقوق الإنسان في سوريا على معاداة أمريكا وإسرائيل.
يصر عدد من الإصلاحيين نسبياً في الحكومة السورية أمثال السيدة شعبان والسد عبد الله الدردري، نائب رئيس مجلس الوزراء الذي يحاول تحرير الاقتصاد، على أن الأسد مصمم على فتح الاقتصاد والسياسة، هذا بالتوازي مع انتظار صدور قانون تعدد الأحزاب هذا العام. ولكن الكثير من السوريين المستقلين يشكون بقدرة نظام مركزي فاسد كهذا على تحقيق الإصلاح دون أن ينهار.
أن الإدارة الأمريكية التي فرضت عقوبات جزئية على سوريا غير متأكدة كيف تتقدم بذلك الاتجاه. وقد أعطت التوقعات المثيرة للمحافظين الجدد في واشنطن التي تشير إلى أن نظام الأسد قد أصبح مثل الثمار الناضجة المتدلية، أعطت إحساساً بأن الشاه قد أصبح في مأزق.
لقد تم استبدال الدعوات لتغيير النظام بمطالبة النظام بتغيير سلوكه وبتغيير داخلي في النظام، أي أنه على الأسد أن يخرج من لبنان نهائياً، وأن ينزع سلاح حزب الله، وأن يخرج المنظمات الفلسطينية المعارضة لإسرائيل من دمشق ( أو كفهم عن العمل )، وضبط الحدود مع العراق ( لقد حاول فعل ذلك ولكن الحدود بطول 600 كم (، وأن يطرد الفاسدين من المؤسسة الحاكمة.
ويستطيع الأسد بعد وفاة كنعان أن يقدم رستم غزالة، خليفته في لبنان، ككبش فداء أيضاُ. ولكن من الصعب عليه أن يتخلى عن أخيه أو صهره، وهما الرجلان الأساسيان في الدولة الأمنية، دون أن يقطع الأسد عنقه نفسها بشكل مجازي.
وتشير التذبذبات في مواقف الأسد خاصة من المواجهة في الخطاب السياسي والإعلامي إلى حالة من اليأس وربما إلى الذعر. ويتساءل البعض إلى أي درجة تنعكس هذه الديكتاتورية التي كانت معزولة لفترة طويلة على الواقع.
يقول أحد الدبلوماسيين المحنكين: ربما يكون الأسد قد بدأ يصدق ما يقول. ويلمح صحفي دمشقي بارز إلى وجود بوادر لنهاية النظام المتهور، وبمعنى أخر إذا كنا مهتمين بالأمر فلا يزال بإمكاننا زعزعة استقرار الشرق الأوسط بأكمله .
على أية حال ، ليس هناك أي مؤشر على أن الأسد يدرس الخيار بين الحصول على مخرج مشرف أو المجازفة بإشراك أحد ما مع البعث في السلطة. وفي الحقيقة ليس هناك أي إشارة على أنه يملك أية خطة.