إيما جاسوسة أمريكية، كندية المولد، عملت بنجاح خلف خطوط الحلفاء، أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، وربما كانت هي الجاسوسة الوحيدة في التاريخ التي كانت تعمل، في هذه الفترة، التي كانوا يعتبرون فيها المرأة مجرّد مربية وزوجة، وخادمة منزلية فحسب...
ولقد جاءت إيما إلى الولايات المتحدة من نيو برانز ويك في كندا ، عام 1856م، وعندما بدأت الحرب الأهلية حملت اسم فرانك تومبسون ، وتطوعت للعمل كممرض ذكر في الجيش الاتحادي، لفترة ليست بالقصيرة، دون أن ينكشف أمرها، على الرغم من إقامتها التامة، وسط جنود الجيش، طوال تلك الفترة..
ولقد حضرت إيما المعركة الأولى، بين قوات الحلفاء والولايات المتحدة، وهي معركة (Bull Run) جري الثيران ، وأول معركة عنيفة قامت بينهما، وبعد أن قضت عامين في خدمة التمريض، دون أن ينكشف أمرها، ذهبت إيما إلى المسئولين بإرادتها، وكشفت لهم أمرها، فأصابهم ذهول شديد، تضاعف عندما روت قصتها، ثم قفز إلى الذروة، عندما أعلنت هدفها الحقيقي، من وراء هذا..
فمع براعتها المذهلة، في فن التنكر والتقمّص، عرضت عليهم إيما أن تتطوّع للعمل كجاسوسة، خلف خطوط الحلفاء...
وعلى الرغم من غرابة الفكرة، أو ربما لغرابتها نفسها، وافق المسئولون على مطلبها، وأصبحت إيما بالفعل جاسوسة فريدة من نوعها، في ذلك الزمن...
ولقد أثبتت إيما أنها تستحق ما حصلت عليه بالفعل، بل ولن نبالغ، لو قلنا: إنها قد أبهرت المسئولين إبهاراً، وخاصة عندما صبغت جلدها، وتنكرت كشاب أسود، وارتدت باروكة شعر؛ للعبور إلى الخطوط الأمامية، بالقرب من يورك تاون في فا ...
وكانت مهمة يخشاها أشجع الرجال..
ولكن إيما أدتها بجرأة ومهارة مذهلين..
فعلى الرغم من تظاهرها بأنها رجل أسود حر، إلا أن المشرف حين رآها كلفها العمل في حصون الحلفاء، وبعد يوم واحد، من العمل الشاق، استطاعت أن ترسم اسكتش دقيقاً للحصون، وتحصي المعدات الموجودة بها...
في اليوم التالي كانت تحمل الماء للعمال والطعام للقوات، وعلى الرغم من كونها تحت المراقبة، عندما عملت كـ خفير درك ، إلا أنها أفلتت من كل ما حولها، واستطاعت في ليلة ممطرة أن تتراجع للخطوط الأمريكية، حاملة معها بندقية من بندقيات الحلفاء كتذكار...
وكان هذا أحد أهم ما تحرص عليه، في كل مهمة...
التذكارات..
ولقد كاد هذا يكتب نهايتها يوماً..
وبمنتهى العنف.
ويعتبر المؤرخون أن الجاسوسة الأمريكية، كندية المولد (إيما س. إدموندز)، واحدة ممن كتبن، بجرأتهن وشجاعتهن ونجاحهن، الوثيقة الأولى لعمل النساء (رسمياً)، في عالم الجاسوسية...
ولقد أثبتت هذا بجدارة، في مهمتها الأولى..
فعلى الرغم من قصر المدة، التي قضتها (إيما)، وراء خـــطــوط الحلفاء -ثلاثة أيام- إلا أنها عادت بمعلومات عسكرية مهمة، كان لها الفضل الأوّل، في معظم ما أعقبها من انتصارات..
وكانت هذه مجرد بداية...
فخلال الأشهر التالية، استطاعت (إيما) بنجاح أن تنجز إحدى عشر مهمة أخرى، خلف خطوط الحلفاء، دون أن يتم كشفها..
وكان لبراعتها المدهشة، في التنكر والتقمص، الفضل الأوّل، في كل ما حققته من نجاحات، في عالم الجاسوسية المدهش..
ففي إحدى المرات ذهبت على هيئة بائعة جائلة أيرلندية، ولم تكتفِ بالحصول على أسرار ومعلومات الخصم فحسب، وإنما حقّقت ربحاً مادياً وفيراً أيضاً..
وفي تلك المرة، وبعد أن أنجزت مهمتها، سعت (إيما) للحصول على تذكار كعادتها، كما لو أنها في رحلة سياحية طريفة، وليست في مهمة، تحمل الموت في طياتها؛ لو انكشف أمرها...
ولأنها تعشق المخاطرة والمغامرة، قرّرت (إيما) أن يكون تذكارها، في تلك المرة، هو أزرار الزي العسكري لقائد المعسكر..
وفي سبيل هذا، تسللت (إيما) في ظلام الليل، إلى حجرة القائد، ونزعت الأزرار بالفعل، وقبل أن تغادر، فوجئت بالقائد أمامها، يسألها في غضب هادر، عن سر تواجدها في حجرته، في تلك الساعة المتأخرة من الليل..
والمدهش أن (إيما) لم ترتبك أو تتوتر، بل حافظت على تماسكها واتزانها، واصطنعت البكاء في حرارة، وهي تدعي غرامها بالقائد، وتسللها إلى حجرته لرؤيته، بعد أن غلبها الشوق إليه..
وانبهر القائد بعواطفها الجياشة، وطيب خاطرها، وأخبرها في حماس أنه رهن إشارتها، ثم أوصلها بنفسه إلى باب حجرته، التي غادرتها حاملة أزراره الذهبية، التي لم يكشف ضياعها، مع خدعة (إيما)، إلا في اليوم التالي، وعندما أصبحت هي على الجانب الآخر بالفعل..
ويقول مؤرخو عالم الجاسوسية: إن (إيما) كانت لها شجاعة عشرة رجال، وبراعة مائة خبير، وإقدام جيش كامل، وعلى الرغم من هذا، فقد كانت في تعاملاتها العادية بسيطة هادئة، تبتسم دوماً في وداعة، وتتحدّث برقة، حتى ليخيّل لك أنها مجرّد ربة منزل بسيطة، لا تميل إلى مغادرة بيتها إلا لمامًا...
وربما لهذا يعود نجاحها المدهش، في كل عملية قامت بها، إذ كان وجهها يبعث على الثقة والارتياح، سواء تنكّرت في هيئة امرأة أو رجل، مما يستحيل معه أن تشك في أمرها لحظة واحدة..
ففي ذات مرة، تنكرت (إيما) في شكل كاتب حسابات للبضائع المجففة، وزارت عدداً من معسكرات الأعداء، وتجوّلت بينهم في حرية، وشاركتهم الطعام والشراب، بل وعقدت العديد من الصداقات معهم، حتى إن أحدهم وصفها بأنها الشخص الوحيد، الذي يمكنه أن يفتح له قلبه، ويمنحه ثقته بلا حدود...
وحتى عندما فارقتهم (إيما)، حاملة أدق أسرارهم، لم يراودهم الشك في أمرها قط، وإنما تصوّروا أن صديقهم يتبع عمله، أينما دعته الحاجة..
ولم تكن هذه أكثر عمليات (إيما) جرأة في الواقع؛ فقد كانت هناك عملية أخرى..
عملية بلغت فيها جرأتها ذروتها..
وفي تاريخ إيما يتوقف المؤرخون كثيراً، عند عمليتها الأخيرة، التي بلغت فيها جرأتها ذروتها، وكأنها تختار خير ختام، لتاريخها الحافل الطويل..
ففي تلك العملية، علمت إيما بوفاة جندي شاب في معسكر الأعداء، فما كان منها إلا أن تنكّرت في هيئة شاب، وذهبت إلى معسكر الأعداء، باعتبارها الصديق الوفي الحزين لمصرع صديقه الوحيد.
وبعد أن تلقت إيما العزاء، فيمن يفترض أنه صديقها، أبدت غضبها مع حزنها، وعرضت الانخراط في صفوف الجيش؛ للانتقام ممن قتلوه..
وبطبيعة الحال، جرف الحماس الجميع، وتم قبول طلبها، وأصبحت إيما جندياً، في صفوف الأعداء.
وهل يمكنك أن تتخيل كم المعلومات، الذي يمكن أن تحصل عليه من قلب العدو مباشرة؟؟!!..
الأكثر جرأة، أن إيما كانت تتسلل إلى صفوفها الأصلية مرة كل أسبوع على الأقل لتنقل كل ما لديها من أسرار ومعلومات وهي في هيئة امرأة، ثم تعود مرة أخرى إلى الأعداء في هيئة جندي مخلص.
ولم تفصح إيما أبداً عن الوسائل التي تتبعها في الخروج والدخول بكل هذه البساطة في زمن الحرب، حتى إن بعض المؤرخين شكوا في كونها جاسوسة مزدوجة تعمل لحساب الجانبين في وقت واحد!!.
ولكن هذا الاعتقاد ينتفي تماماً، مع الوسيلة، التي ماتت بها إيما ... فطوال الوقت، كان يتوقع الجميع أن تلقى إيما مصرعها في ساحة القتال، أو أن يتم الإيقاع بها وإعدامها إلا أنه حتى في هذا، فاجأت إيما الجميع.
فأثناء انتحالها شخصية الجندي، وربما لتنقلاتها المتواصلة، أصيبت إيما بحمى الملاريا، التي اشتدت عليها بسبب رفضها العلاج، خشية كشف حقيقة جنسها، ثم لم تلبث أن قامت برحلتها الأخيرة بين الجانبين متحاملة على نفسها لتموت في هدوء شاحبة نحيلة على فراش المرض.
وطوال حياتها، لم تعرف لـ إيما علاقة عاطفية واحدة، ولم تمنحها حياتها غير المستقرة فرصة للزواج أبداً.
ولكنها كانت -وما زالت- تحمل صفة تضمن لها مكانة مهمة في التاريخ.