عملت اسرائيل منذ نشوئها على مبدأ «فرق تسد»، وقد حاولت على مدى حكوماتها المتعاقبة على تفكيك الدول المجاورة لتبقي سيطرتها على المنطقة بكاملها. ومن خلال دراستها للطوائف وانتشارها في الدول تبين لها ان الطائفة الدرزية تمثل الاقلية وبالتالي لا يمـكن ان تكون خطرا على دولة اسرائيل، ومن هذا المنطلق، كانت لدى اسرائيل استراتيجية دائمة باتجاه اقامة دولة درزية تكون وفق المخطط الاسرائيلي في المنطقة، وكان دائماً المعطل لهذا المخطط الاسرائيلي هو عروبة طائفة الموحدين.
ففي العام 1953 : المخابرات الاسرائيلية تحاول الاتصالات بقيادات البعث العربي الاشتراكي في لبنان مع اشتداد التناقض الاستعماري بين الولايات المتحدة وبريطانيا، وتراجع الولايات المتحدة عن مشروع الدفاع المشترك وابعادي وصلاح البيطار وميشيل عفلق من لبنان الى ايطاليا ومحاولتهما اقناعي هنالك باللجوء الى العراق ومن العودة الى سورية بعد قضاء ستة اشهر في روما.
في احد الايام من شهر شباط 1953 زارتنا امرأة قدمت لنا نفسها على انه «مدام خوري».
كانت زوجتي موجودة وكذلك الاستاذ شبلي العيسمي، ولكنها طلبت مني ومن الاستاذ ميشيل عفلق ان تجتمع بنا على انفراد، قالت الزائرة:
انني موفدة من قبل الحكومة الاسرائيلية التي ترغب بالتفاهم معكم، وهي مستعدة لارسال موفديها للاجتماع بكم في بيروت، واذا كان ذلك متعذرا ففي ايطاليا او في اي مكان اخر.
اصابتني الدهشة والارتباك والغضب، ولكنني تمالكت نفسي، ودارت بيننا المحاورة التالية :
- من أنت؟
- انني درزية من لبنان وارملة كامل الحسين.
- كيف يمكن لفتاة عربية بعد ما حدث في فلسطين ان تتعاون مع الاسرائيليين؟
- قالت متظاهرة بالحزن:
لقد اغتيل زوجي (قتله ضابط سوري في لبنان خلال حكم حسني الزعيم وسبب ذلك ازمة بين البلدين وقد اشرت له في حينه) متهما بالعمالة لاسرائيل مع انه لم يكن يملك ثمن علبة سكاير بعد حرب فلسطين.
- ما دام الامر كذلك فكيف تجيزين لنفسك اذا ان تكوني عميلة للمخابرات الاسرائيلية؟
- انا لست عميلة، وانما افعل ذلك لمصلحتكما ولمصلحة سورية، فأنتما قادة حزب ولستما اولاد صغار حتى يمكن للاسرائيليين ان يستغلوكما كما بما هو ضار لمصلحة بلدكما، وبالامكان ان ترفضا او توافقا على ما فيه فائدة، دون الالتزام بأي شيء يعتبر ضارا بالبلد.
سألناها :
- كيف تمكنت من الاستدلال على منزلنا ؟
- ان الاستاذ وليد جنبلاط قد اوصلني بسيارته الى هنا.
- كيف تجرين اتصالاتك مع الاسرائيليين؟
- اذهب الى فلسطين ثم اعود الى لبنان.
- الا تخافين قوى الامن العام؟
- انها هي التي تسهل امر رواحي ومجيئي الى فلسطين، ثم اردفت :
ان الحدود مفتوحة بين فلسطين ولبنان ويمكن لاي انسان ان يعبرها، وان الضباط الاسرائيليين يسهرون احيانا في بيروت ثم يعودون الى فلسطين. (وهذا ما كانت الصحف اللبنانية تشير اليه وتنبه الى شبكات المخابرات الاسرائيلية في لبنان).
كنت افكر خلال هذه المحاورة :
ما الذي يمكن ان نعمله تجاه هذه المفاجأة؟ هل نخبر الامن العام اللبناني، ولكن الذي يظهر من اقوالها انها على اتصال به.
هل نخبر المكتب الثاني السوري وهو يناصبنا العداء ويمكنه ان يستغل الحادثة للتشهير بنا؟
كنت حائرا لا ادري ما افعل، فأنهينا حديثنا معها برفض العرض الاسرائيلي قائلين :
اننا نشعر بالحزن لان تكون فتاة عربية جاسوسة لاسرائيل. فردت :
انني لا اعمل لمصلحة اسرائيل وانما غايتي انقاذ سورية من الديكتاتورية!!
بدأت افكر بعد ان غادرت المنزل : ترى ما هو السبيل لإلقاء القبض على هذه الجاسوسة الذكية الحسناء التي يمكنها ان تمارس دورا خطيرا في لبنان؟
لم أر سبيلا لحل هذه المشكلة سوى اخبار اديب الشيشكلي مهما ترتب على اخباره من نتائج.
كان ذلك ممكنا بواسطة احد شخصين: اما غالب طيفور او قدري القلعجي اللذين كانا يعملان للشيشكلي ويترددان على بيروت باستمرار، لا سيما ان الاول تجمعه بالشيشكلي اواصر القربى والثاني كان مسؤولا في الاعلام وكان يعد للشيشكلي خطبه ويهيىء له المؤتمرات الصحافية والاتصالات ويتولى مهام الدعاية سواء في سورية او خارجها، وقد سبق له ان اتصل بي موفدا من الشيشكلي للمصالحة فرفضتها رغم ما رافقها من اغراءات بأن اكون رئيسا للدولة السورية مع حكم الجيش.
رأيت خيرا ان اكلف قدري القلعجي من دون ان اطلعه على التفاصيل فأكتفي بابلاغه بضرورة ارسال مصطفى حمدون، الضابط في الجيش السوري ليتولى نقل موضوع بغاية الاهمية والخطورة مع تأكيدي على انه موضوع وطني يخرج عن دائرة خلافنا مع النظام القائم في سورية، ولكنني لم أتلق من الشيشكلي اي جواب، وقدرت ان القلعجي لم يؤد الرسالة، او ان الشيشكلي قد حذر من ارسال مصطفى حمدون وخشيت بالوقت نفسه ان نكون قد لفتنا نظره الى الثقة بمصطفى حمدون.
قررنا بعد ذلك ان نسأل الاستاذ كمال جنبلاط عن صحة ادعاء المرأة بأنه اوصلها بنفسه الى منزلنا، فاخبرنا بأن ما قالته الفتاة صحيح، وانها تعمل بعلم المكتب الثاني اللبناني، وانه قدر انه يمكن الاستفادة من بعض معلوماتها.
انني لا اشك ابدا بنوايا الاستاذ كمال جنبلاط لأنني اعرف الذي يعيشه رجال السياسة في لبنان الذين كانوا يتصلون بجميع السفراء الاجانب والعرب وبمختلف اجهزة المخابرات بدون حرج وعلانية.
لقد فكر الاستاذ جنبلاط انه لا يضيرنا ان نستفيد من بعض المعلومات التي يمكن ان تنقلها الينا هذه الجاسوسة، وغاب عن ذهنه ان الامور في سورية مختلفة عما هي في لبنان، وان الاتصال بالعملاء المزدوجين ليست مهمة القيادات الوطنية والسياسية بل هي من مهام اجهزة الامن والمخابرات.
بعد هذه الواقعة كنت اقول في نفسي:
عندما يكون للمخابرات الاسرائيلية الجرأة على الاتصال بنا فهذا يعني انها لم تترك سياسيا عربيا قائدا او حاكما الا وحاولت ان تتصل به، وقد زادتني هذه الواقعة اقتناعا بخطر المخابرات الاسرائيلية وتغلغلها.
مرت بعد ذلك الشهور الاعوام واذا باخبار هذه المرأة تبرز فجأة في الصحف اللبنانية واظن ان ذلك كان عام 1958 بمناسبة قتل شاب فلسطيني من جماعة سمت نفسها «كل مواطن خفير». وقد اتهمت المرأة بتدبير مقتله.
كنت آنذاك نائبا لرئيس الجمهورية في الجمهورية العربية المتحدة، واذكر انني نبهت محمود رياض الى خطورة هذه المرأة وذكرت له انها اتصلت بنا عام 1953.
«بتاريخ 16/10/1967، اتصل كمال كنج هاتفيا من روما بكمال أبو لطيف (المحامي اللبناني الذي أشار اليه رياض طه) الى منزله في عيحا ـ راشيا. وطلب اليه أن يوافيه الى روما لأمر هام.. اعتذر أبو لطيف لانه كان قادما حديثاً من اميركا اللاتينية حيث زار أخوته هناك، وان الناس يأتون للسلام عليه، ووعده بالسفر بعد حوالى أسبوعين.
«اتصل الكنج عدة مرات هاتفيا بأبي لطيف على رقم مكتبه أو منزله في بيروت يلحّ عليه بأن يحضر الى روما. فتذرع أبو لطيف بضيق الوقت لاسيما وان السنة القضائية كانت في مطلعها. فظن الكنج أن نفقات السفر هي التي تعيقه، فقطع لأبي لطيف تذكرة سفر من روما. وأبلغت لشركة أليطاليا برقيا. وهذه اتصلت بأبي لطيف وأخبرته بالأمر. فعين أبو لطيف موعداً للسفر بعد ان اطلع على بطاقة سفره من بيروت الى روما وبالعكس.
«استقبل الكنج أبا لطيف في مطار روما، ثم انتقلا معا الى «بانسيون فرانشيسي» في شارع «فينيتو» قرب متحف «بوركيزي»، حيث حجزت غرفة لكمال أبي لطيف، بينما كان الكنج يمكث في فندق أقل شأناً من «البنسيون».
«قال الكنج لابي لطيف بأن اليهود منذ احتلوا محافظة القنيطرة وهم يحاولون بشتى الوسائل التقرّب من الدروز في الجولان، وخاصة مع بيت الكنج في مجدل شمس، باعتباره البيت المتنفذ الأول في المنطقة.. وقد قام عدد من الضباط اليهود بزيارة كمال الكنج في منزله، وكذلك زاروا الشيخ سليمان الكنج ابن عمه..
«وتردد الضباط اليهود، من نساء ورجال، لمجدل شمس. وكانوا يحلّون في دار الشيخ سليمان الكنج باعتباره ابن دار زعامة المنطقة وصاحب العباءة التقليدية.. وبقيت مجدل شمس مدة شهرين لا تخلو يومياً من عشرات الزائرين من دروز فلسطين.. وقام عدد من الوزراء بزيارة مجدل شمس أيضاً، منهم «موشه دايان» و«ألون».. ثم بدأ يُقبل عليهم ضباط من المخابرات الاسرائيلية..
..وابتدأ الدروز يشعرون أن امراً خطيرا سيحدث.. وعمد الزائرون على الافصاح عن مهمتهم وغرامهم بزعماء مجدل شمس الروحيين والزمنيين. وعرف هؤلاء «أن الغاية من ذلك فصل الدروز عن الاسلام لانهم لا يمكن ان يتعياشوا واياهم»..
«وعندما ابلغت المخابرات الاسرائيلية بقبول بعض الوجهاء الدروز بالتعاون معهم سرّ اليهود لذلك كثيراً، وأخذوا يكثرون من التردد على مجدل شمس، ويسدون الخدمات للناس، وينفذون المطالب بسرعة مذهلة. وبدأ تنفيذ المخطط اذ انتدب كمال الكنج للاتصال بدروز سوريا ولبنان، بعد ان وُضعت قوائم بأسماء الوجهاء الدروز الذين يمكن التعاون معهم وطريقة اصطيادهم. ولذلك ذهب الى روما «بمهمة كعضو في لجنة اسرائيلية تدرس مع السلطات الايطالية موضوع تصريف الفاكهة من اسرائيل، متخذين من كون مجدل شمس بلدة غنية بالفاكهة ذريعة لوجود كمال في اللجنة. كما أشاع كمال، قبل مغادرته مجدل شمس بأنه سيداوي عينيه لدى اطباء في تل ابيب، وقد يُضطر لعرضها على اختصايين خارج اسرائيل.
وبذلك حضر كمال كنج الى روما برفقة ضابط مخابرات اسرائيلي (من الشين بت) تحت اسم «يعقوب». ويصف كمال ابو لطيف يعقوب هذا فيقول انه رجل متوسط القامة، احدب، يتقن اللغة العربية. وكان كمال الكنج قد اقترح الاتصال بكمال ابو لطيف وهو ضابط سابق في الجيش السوري، وقريب له. ووافقت المخابرات الاسرائيلية على ذلك بعد ان قامت بجمع المعلومات عنه.
ولذلك استدعي ابو لطيف الى روما، واجتمع مع كمال الكنج الذي اخبره بالمخطط، واتفقا على ابلاغ الجهات العربية المعنية بالطريقة التالية:
1- يقوم كمال ابو لطيف باعلام كمال جنبلاط بالامر، ليقوم بدوره بإعلام السلطات اللبنانية وغيرها من السلطات العربية التي يجد من المناسب اعلامها.
2- يقوم كمال ابو لطيف، بعد اخذ موافقة جنبلاط، باعلام السلطات السورية.
وبعد ان عاد كمال ابو لطيف ونفذ ما اتفق عليه، طلب منه متابعة الاتصال مع المخابرات الاسرائيلية. فسافر مرة ثانية الى روما، واجتمع بـ«يعقوب» وكمال الكنج ...»
«واتضح، لابي لطيف، المخطط على الشكل التالي :
الديار.
يتبع ..