لم يكن الحوار الشّكل الوحيد لآثار لوقيانوس, إذ كتب كذلك المقالات الهجائية على شكل أقاصيص مثل "موت بيريقرينوس" وحياة العرّاف "الاسكندر البافلاقوني". وعلى شكل هجوم كما في "ضدّ جاهل مولع بالكتب"... وعلى شكل نصيحة "مأجورون لخدمة العظماء", وإننا لنعثر في هذه الأعمال على الروح الهجائية الساخرة الخاصة بهذا الكاتب السوري العظيم. ولم يخل فكره من حب المغامرة إذ كان من روّادها هو ذاته, فها هو لوقيانوس السميساطي يتوه في غمار محيطات ويهيم في جزر لا توجد إلا في خيال شديد الخصوبة وفكر عميق التثقف:
....حمل الفضول لوقيانوس على استكشاف المحيط فركب البحر ومعه لفيف من صحبه,
دفعت بهم جميعا عواصف هوجاء دامت زهاء تسعة وسبعين يوما, نحو جزيرة سواقيها خمر, ثمّ عرّجوا إلى القمر, وحاربوا سكان الشمس, وأقاموا في بطن حوت, وتزوّدوا من الماء في جزيرة من الجبن, والتقوا برجال أقدامهم من الفلّين, كانوا يسيرون فوق الماء, ثم لم يلبثوا أن زاروا جزيرة السّعداء, فأسلمه ’’أوديسيوس’’* رسالة إلى ’’كاليبسو’’* في أوجيجيا.... وأخيرا, وبعد مغامرات أخرى غريبة تاه في قارّة من القارّات. ولقد أضاف لوقيانوس أنه سيروي في كتاب آخر ما حدث له في هذه القارّة, بيد أنّه لم يف بوعده, أو أن ما كتبه قد فقد!..
ولعلّ أغرب ما في هذه المغامرات, وصفه الرائع بلاد الأحلام, والتفاصيل التي يرويها عن أحوال سكّانها, وهي تفاصيل عجيبة في دقّتها, غريبة أشدّ الغرابة في سخريتها.... وقد رواها بغزارة وثقة بالنّفس لا حدّ لها..... ولكم تأخذنا الحيرة, ويتولانا الدّهش من خصب خياله, وبراعة وصفه, وروعة سرده!..
ولقد استلهم الكاتب الفرنسي ’’فينيلون’’* من "قصّة حقيقية" نموذجا لوصفه الجميل في كتابه "جزيرة الملذّات" , كما استلهمها ’’رابليه’’* في كتابه "غارغنتوا" و’’سويفت’’* في كتابه "أسفار غوليفر"!..
مقدمة " قصة حقيقية" بقلم الكاتب السوري لوقيانوس السميساطي:
1- إن من يعنون بإنماء فن المصارعة ويدرّبون أجسادهم وفقها, لا يقتصرون همّهم على مسائل الرياضة والحالات المثلى, ويقولون إن ثمّة وقتا للاسترخاء والراحة أيضا, ويعتبرون هذه الفترة وكأنها أهم عنصر في التدريب, كذلك الأدباء, فإنهم – كما يبدو لي- يضطرّون بعد أن يكونوا قد خصصوا ساعات طوالا في مطالعات جدية, إلى إراحة أفكارهم ليبعثوا فيها حيوية جديدة للعمل المقبل.
2- أما الراحة التي تناسبهم, فإنهم ينالونها بانكبابهم على مطالعات ليس من شأنها أن تقدّم لهم أيّة متعة أو تنبّه, بل لوحات جديرة بآلهة الشعر, على نحو ما سيلقونه في كتابي. وما سيثير إعجابهم فيه لا يقف عند حد أصالة الموضوع, أو حلاوة الفكرة, حتى ولا تسري فيه سائر ضروب الكذب, في أسلوب يتفق وواقع الحال ويقبل التصديق, بل لأن كل جزء من هذه القصة يتضمن تلميحا إلى بعض الشعراء القدامى والمؤرخين والفلاسفة, الذين مزجوا في كتاباتهم الكثير من الأعاجيب والخرافات, وسأذكرهم بأسمائهم إن كنت أيها القارئ العزيز لا تود التعرّف إليهم بالقراءة.
3- أحدهم هو كتيزياس*ابن كتازيوخوس من كنيد وقد كتب عن الهنود وبلادهم أشياء لم يرها ولم يسمع بها من فم إنسان صادق, و يامبولوس* قد كتب كذلك عن بلاد البحر الخضمّ قصصا جمّة لا يقبلها العقل. وبالرغم من أن مضمون مؤلفه كان ضربا من الخيال بيد أنه كان بالفعل مسليا. وثمّة كتاب عديدون اختاروا مواضيع مماثلة, و رووا أمورا كأنها جرت لأشخاص معينين, فتحدّثوا عن المغامرات والأسفار, وأتوا فيها على ذكر حيوانات عجيبة, ذات تصرفات قاسية, وطباع شاذّة. والأستاذ الذي درّبهم على مثل هذه الشعوذة, هو هوميروس, الذي تحدّث في بلاط الكينوس عن استعباد الرياح, وشراسة بعض الرجال المتوحشين, الذين ليس لهم سوى عين واحدة, ويأكلون لحوم البشر, كما نراه يصف لنا حيوانات ذات رؤوس جمّة, وكيف تحوّلت أشكال رفاقه بتأثير بعض الإيحاءات, وسوى ذلك من ضروب الأعاجيب المماثلة التي يرويها صاحبنا للفيسييّن السذّج.*
4- حين كنت أقرأ لجميع هؤلاء الكتاب, لم أكن ألصق بهم أية جريمة لما افتروا من كذب, لأني كنت واثقا بأن مثل ذلك كان شائعا, حتى لدى من يتعاطى الفلسفة* بيد أن ما أثار بالغ دهشتي, اعتقادهم بأن الناس لن يكتشفوا خطأ ما يكتبون. وعلى هذا, فقد رغبت, بعد أن وقعت تحت تأثير عامل المجد الزائل, بأن أقدّم شيئا للأجيال المقبلة, مستفيدا من حريّة الاختلاق تلك. ولما لم يكن لدي شيء حقيقي أقوله, وإذ لم أقم بأي مغامرة تستحق الاهتمام, فقد تعمّدت الكذب. بيد أن أسلوبي فيه كان أصدق, بخاصّة وأنه يكفيني أن لدي أمرا واحدا صادقا, هو اعترافي بأني كاذب. وبذلك لن أتعرّض لنقد الناس سأتحدّث عن أمور لم أرها ولم أخبَرها بنفسي, عن أشياء لم تبلغني من أي إنسان, سأتحدّث عن أمور لا وجود لها, في أي شكل من الأشكال, ولا يمكنها بحال من الأحوال أن توجد. لذا فإني بكل تواضع أرجو من قرّائي ألّا يصدّقوني.
وللحديث تتمّة مع صديقنا لوقيانوس عندما يبدأ بسرد وقائع " قصّة حقيقيّة"
...... يتبع.......
*أوديسيوس: ويسميه الرومان (أوليكسس) ابن لايريتس ملك أثينا وأنتيكليا وهو أشهر أبطال
الإغريق.
*كاليبسو: عروس الماء في جزيرة أوجيجيا حيث تحطّمت سفينة أوديسيوس... أحبته ووعدته
أن تمنحه الخلود إذا مكث معها, ولكنه رفض البقاء معها, فاحتفظت به سبع سنين
ثم أطلقت سراحه بأمر من زيوس.
*فينيلون: رئيس أساقفة ولد عام 1651 وتوفي عام 1715 .... كان مؤدبا لدوق بورغونيا,
حفيد لويس الرابع عشر.... ألّف له كتاب "حكايات" كما ألّف كتابه الشهير
"مغامرات تليماك" الذي حوى نقدا لاذعا لحكم لويس الرابع عشر.
*رابليه(1494- 1553): كاتب فرنسي, ولد بمدينة شينون مزج في كتبه الجد بالهزل.
*سويفت(1667-1745): ولد في مدينة دبلن من أسرة إنكليزية نزحت إليها منذ القرن السابع
عشر.... اشتهر بروايته "أسفار غوليفر" وقد نشرها خلوا من اسمه...
*كتيزياس: طبيب في بلاط سوسة, وقد حضر معركة كوناكسا عام 401 ق.م. ترك كتابا عن تاريخ الفرس, ووصفا للهند. نسخ ديودور الصقلّي قسما من هذا المؤلف, وأركه بلوتارك في كتابه, حياة أرتاكسركس على الرغم من قسوته في الحكم عليه.
*يامبولوس: فقدت مؤلفات يامبولوس كما فقدت مؤلفات اتيزياس وكذلك مؤلف انطوان ديوجين حول "العجائب فيما وراء ثوله" التي كانت حسب قول فوتيوس المنهل الذي يستقي منه لوقيانوس.
*انظر الأوديسة, الفصلين التاسع والثاني عشر.
*يرى المؤرخ هنا تورية لطقوس ايرالبامفيلي الواردة في الكتاب العاشر من جمهورية أفلاطون.