آخر الأخبار

اختراع الجبر الحديث (2)

نظرية غالوا و اختراع الجبر الحديث.

كما سبق لي و قلت، لقد تمكن آبل من برهان استحالة حل معادلة الدرجة الخامسة بواسطة العمليات الجبرية (و هي كما عرفها أبو عبد الله الخوارزمي: الجمع و الطرح و الضرب و القسمة و الرفع لقوة ما و الجذر من درجة ما). طيب يعني صدقنا و آمنا يا رسول الله، لكن لماذا؟ يعني ما السبب في ذلك؟ لماذا نتمكن من حل كافة المعادلات حتى الدرجة الرابعة ثم نعجز بعد ذلك؟

لشرح المضمون و المغزى العميق القابع وراء هذه الأحجية قام غالوا بإدخال مفهوم ثوري، هو مفهوم "الزمرة". بالمناسبة، تعريف الزمرة في أيامنا هذه، و كما يدرسه طلاب البكالوريا في سوريا، هو أكثر دقة من مفهوم الزمرة كما شرحه غالوا، و لكن هذا شيء مألوف: كلما جاء عالم باختراع عبقري، فهو يقدم المفهوم و يقوم الخلفاء و التابعين بتدقيقه.

لكن شو يعني "زمرة"؟
أبسط مثال على الزمرة هو مجموعة الأعداد الصحيحة مع قانون الجمع. هذه زمرة، و أقدم من ثم تعريفها الرياضي الدقيق:

الكلام التالي هو من مستوى البكالوريا.
الزمرة هي عبارة عن مجموعة (مثلا: مجموعة الأعداد الصحيحة) نعرف عليها ما نسميه "قانون تشكيل داخلي" (مثلا: عملية الجمع) بحيث يكون هناك عنصر حيادي (مثلا: الصفر، ذلك أننا نعلم أن ن + 0 = ن، فالصفر عنصر حيادي)، و بحيث يكون لكل عنصر عنصرا نظيرا (فنظير العنصر "ن" في زمرتنا هذه هو "-ن"، لأن مجموعهما يعطينا العنصر الحيادي)، و أخيرا فنحن نشترط في قانون التشكيل الداخلي أن يكون تجميعيا (و هذا متحقق في حالة الجمع لأننا نعلم أن ن + (م + ل) = (ن + م) + ل).
غالوا لم يطالب إلا بحكاية التجميعية، و هذا مفهوم لأن بقية الخواص كانت متحققة بداهة في الزمرة التي تعنيه، و هي زمرة التبديلات.

لن أشرح نظرية غالوا، خاصة و أن شرحها يتطلب بضع عشرات من الصفحات من البراهين الرياضية الدقيقة، فما بالك إن أردنا شرحها بالطرق الحديثة التي تقتضي إدخال مفاهيم الحقول و الأوتومورفيزم و نواة الأوتومورفيزم و يا بيييه الأدب العربي شو عويص... لا!

سأكتفي بوصفها بشكل تقريبي عن طريق تقديم مثال "حسي"...

نظرية غالوا بصفتها مثالا حسيا...

لتكن لدينا مدينة و فيها سكان (المدينة تمثل معادلة الدرجة الخامسة -أو أي معادلة أخرى، السكان يمثلون حلول المعادلة)...

و لنفترض أنك ترغب بالتعرف على سكان هذه المدينة (يعني: أنت ترغب بحل المعادلة). فلا شك أنك ستحاول التعرف على أول واحد منهم، و من ثم ستحاول التعرف على الباقين: و كي تفعل ذلك ستحاول التعرف على شخص آخر، و هكذا دواليك...

الآن، دعنا نفترض أنك خلال هذه العملية، عملية التعرف على سكان هذه المدينة، أنت بلغت مرحلة ما: مثلا عدد سكان المدينة هو 5، و أنت تعرفت على اثنين منهم، و بقي عليك أن تتعرف على ثلاثة.

نلاحظ مباشرة أن سكان المدينة ينقسمون لمجموعتين، أولئك الذين تعرفهم، و أولئك الذين لا تعرفهم (يعني: إن أردت حل معادلة الدرجة الخامسة فأنت ستحتاج أن تقسمها لمعادلتين، مثلا من الدرجة الثانية و من الدرجة الثالثة).

هنا سندخل مفهوم "التبديلات"
(غالوا كان يتحدث عن Substitutions، في أيامنا هذه الكلمة المعتمدة هي Permutations).

التبديل هو أن يقوم كل من سكان المدينة -إن رغب- بمغادرة منزله كي يسكن منزلا آخر. و طبعا ساكن المنزل الآخر يجب عليه أن يغادر كي يستقر في منزل جديد.

نتيجة هذه العملية تكون أن كافة المنازل مشغولة، و أن كافة السكان لديهم منازل، لكن عناوين البعض منهم تغيرت، البعض و ليس الكل.

بالمناسبة، هناك تبديل ممتع جدا و خلاصته أن لا يقوم أي من سكان المدينة بتغيير منزله... هذا ما نسميه "التبديل المطابق"، يعني هو تبديل و لكن نتيجته مطابقة لمقدمته...

و نسميه أيضا "التبديل الحيادي".

هذه المدينة، و باعتبار سكانها مجموعة، و باعتبار التبديلات، تشكل ما نسميه "زمرة".

و هي تحديدا ما درسه غالوا: هو درس "زمرة تبديلات حلول المعادلة الجبرية"...

************

بعد أن أوشكت أن أنجز هذا المقال... ضغطت على زر أخو شرموطة لا أعرف ما هو جعل ثلاثة أرباع المقال تطير

فانبعصت و انزعجت و تبهنس ثم أحجم عنه مهري... فسوف سأتوقف هنا مؤقتا مكتفيا بالربع الذي لم يختف، و لكني أعدكم أن أعود...